اجتماع الرياض أطلق مسار التطبيع... وموسكو تتطلع لـ«تنظيف إرث بايدن»

قمة ترمب - بوتين قد تعقد قبل نهاية الشهر... و«عقبات» أوروبية تهدد تسوية أوكرانيا

يصافح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو (يمين) نظيره الروسي سيرغي لافروف خلال اجتماعهما في قصر الدرعية بالرياض (أ.ف.ب)
يصافح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو (يمين) نظيره الروسي سيرغي لافروف خلال اجتماعهما في قصر الدرعية بالرياض (أ.ف.ب)
TT

اجتماع الرياض أطلق مسار التطبيع... وموسكو تتطلع لـ«تنظيف إرث بايدن»

يصافح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو (يمين) نظيره الروسي سيرغي لافروف خلال اجتماعهما في قصر الدرعية بالرياض (أ.ف.ب)
يصافح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو (يمين) نظيره الروسي سيرغي لافروف خلال اجتماعهما في قصر الدرعية بالرياض (أ.ف.ب)

كشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن تفاصيل جولة المحادثات المطولة التي أجراها، الثلاثاء، في الرياض، الطرفان الروسي والأميركي. وبدا لافروف مرتاحاً لنتائج المحادثات، وقال في مداخلة أمام البرلمان الروسي، خلال اجتماع «ساعة حكومية» المخصص عادة للاستماع إلى إفادات الوزراء، إن لقاء الرياض أطلق عملياً مسار التطبيع في العلاقات بين موسكو وواشنطن.

وقال مخاطباً النواب في مجلس الدوما (النواب): «كما أظهرت مفاوضات الأمس، فإن التحرك نحو تطبيع العلاقات في جميع الاتجاهات بدأ بالفعل. وهناك على الأقل استعداد، واستعداد معلن لبدء هذه الحركة. ولحل، ليس فقط الأزمة الأوكرانية، بل لخلق الظروف لاستعادة وتوسيع الشراكة في المجالات التجارية والاقتصادية والجيوسياسية بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة».

ورأى لافروف أن «روسيا والولايات المتحدة بدأتا في الابتعاد عن حافة الهاوية في العلاقات بعد هذا الاجتماع»، مشدداً على توافق الطرفين على أنه «من الضروري تنظيف إرث (الرئيس السابق جو) بايدن لتهيئة الظروف لبناء الشراكات في التجارة والسياسة».

جانب من المحادثات الأميركية - الروسية بقصر الدرعية في الرياض (رويترز)

وأكد أن موسكو لديها رغبة في تهيئة الظروف لاستعادة وتوسيع الشراكة مع الولايات المتحدة، وقال إن بلاده تأمل، على خلفية الأجواء الإيجابية التي سادت اللقاء، أن «تتوفر الظروف لإجراء مفاوضات بشأن الأمن والاستقرار الاستراتيجي، وأن يبدأ التحرك نحو التطبيع»، مؤكداً أن وفد الولايات المتحدة أعرب عن اهتمام بإزالة العوائق أمام المشاريع المحتملة والواعدة في الاقتصاد. وأضاف الوزير أن «المصالح الوطنية لموسكو وواشنطن لن تتوافق أبداً بشكل كامل، ولكن يجب على الطرفين الاستفادة من بعضهما البعض».

حول الصراع في أوكرانيا

في ملف الصراع حول أوكرانيا، عكست لهجة لافروف ارتياحاً مماثلاً، وقال إن الوفد الروسي المفاوض ركز على أنه «لا يوجد بديل عن القضاء على الأسباب الجذرية للأزمة الأوكرانية». وزاد أن الرئيس فلاديمير بوتين «ركز بشكل خاص على هذه النقطة المهمة للغاية في محادثته الهاتفية مع الرئيس دونالد ترمب في 12 فبراير (شباط)، وأمس أولينا اهتماماً خاصاً لهذا الموضوع خلال الاجتماع مع وزير الخارجية الأميركي، بمشاركة مساعدين لشؤون السياسة الخارجية والأمن القومي».

وقال الوزير إن الجانب الروسي دعا واشنطن خلال المفاوضات إلى «إزالة التهديدات لأمن روسيا، والتي تم إنشاؤها لسنوات عديدة من خلال جر كييف إلى حلف شمال الأطلسي». وأوضح أن الانطباع الذي خرج به المفاوضون الروس يؤكد أن «الرئيس ترمب يتفهم هذا الموقف والمخاوف الروسية».

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ونائب الرئيس الأميركي جي دي فانس خلال اجتماعهما على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن الجمعة (أ.ب)

أيضاً قال إن الوفد الروسي أكد ضرورة «وقف إبادة كل ما يرتبط بروسيا في أوكرانيا، ووقف اضطهاد الثقافة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية». وقال إن موسكو أبلغت واشنطن أنها تشعر بالقلق إزاء صعود النازية الجديدة في أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وكندا.

واستمرت المحادثات الروسية - الأميركية رفيعة المستوى عدة ساعات، واختتمت، الثلاثاء. وحضر اللقاء من الجانب الروسي وزير الخارجية سيرغي لافروف، ومساعد الرئيس يوري أوشاكوف. ومثّل واشنطن وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، والمبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف. وفي أعقاب الاجتماع، أعلن الوفدان الروسي والأميركي عن نتائج إيجابية، والاتفاق على حل المشاكل بشكل مشترك، والتحضير لاجتماعات جديدة.

الرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال لقائه ترمب في نيويورك (أ.ب)

ترميم العلاقات مع واشنطن

وحول العلاقات الثنائية مع واشنطن، قال الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إنها «تحتاج إلى ترميم، ولا يمكن تصحيح الوضع في يوم واحد». وزاد أن «الدبلوماسيين سوف يبدأون العمل على إعادة العلاقات في ضوء الاتفاقات التي تم التوصل إليها في الرياض (...) المزاج السائد لمواصلة عملية التفاوض عملي، والزخم جيد جداً».

بدوره، وصف رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي كيريل دميترييف، الذي كان مسؤولاً عن المسار الاقتصادي للمفاوضات، نتائج الاجتماع بأنها إيجابية. وقال إن موسكو تعول على البناء على «الخطوة الأولى»، وإطلاق مسار متسارع لتطبيع العلاقات في المجالات كافة. في مقابل التفاؤل الروسي بمستوى الزخم الذي وفرته اجتماعات الرياض، أعرب محللون في موسكو عن مخاوف من أن يعمل الأوروبيون على محاولة عرقلة تطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن، ووضع عراقيل أمام التسوية المنتظرة في أوكرانيا.

قمة بوتين - ترمب

في غضون ذلك، أعلن بيسكوف أن القمة المرتقبة بين الرئيسين الروسي والأميركي قد تنعقد قبل نهاية الشهر الحالي. وأوضح أن «وسائل الإعلام الغربية تكتب كثيراً، ووسائل إعلامنا تكتب كثيراً... الأكيد أن لقاء الزعيمين سيتطلب استعدادات معينة من قبل وزارتي الخارجية، وقد يتم ترتيب اللقاء قبل حلول نهاية الشهر». وقال بيسكوف إن موسكو وواشنطن اتخذتا «خطوة مهمة للغاية نحو حل الصراع في أوكرانيا». وزاد أن «بوتين سوف يعين مفاوضاً من روسيا في هذا الشأن اعتماداً على من تعينه الولايات المتحدة، مفاوضاً من الجانب الأميركي». وأضاف بيسكوف أن الكرملين «ينتظر أن يبلور (الرئيس الأوكراني) فولوديمير زيلينسكي موقفه بشأن حل النزاع»، في إشارة إلى ترقب استعداد كييف للانخراط في عملية سياسية.

كما ذكر المتحدث باسم الكرملين أن روسيا والولايات المتحدة بحثتا إمكانية إجراء انتخابات في أوكرانيا خلال محادثات الرياض، وتم «تبادل الآراء» حول هذا الموضوع، وأضاف بيسكوف أنه «بالطبع، لا يمكن اتخاذ قرار بشأن هذا الأمر في موسكو أو واشنطن».

الرئيس الأوكراني زيلينسكي يتهم القيادة الروسية بالكذب (أ.ف.ب)

واعتبر زيلينسكي، الأربعاء، أن ترمب «يعيش في مساحة من التضليل»، وذلك رداً على انتقادات وجّهها إليه نظيره الأميركي، وقال في مؤتمر صحافي في كييف: «الرئيس ترمب الذي نحترمه للغاية بوصفه قائداً للشعب الأميركي... يعيش للأسف في مساحة من التضليل»، معتبراً أن هذا التضليل «مصدره روسيا».

وبدوره، أكد كيث كيلوغ، موفد الرئيس الأميركي لأوكرانيا، الأربعاء، أن واشنطن تتفهم حاجة أوكرانيا لضمانات أمنية، في أول زيارة له إلى كييف غداة محادثات الرياض وتوجيه دونالد ترمب انتقادات حادة للرئيس الأوكراني. وبعد ساعات، أكد زيلينسكي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أن المسؤولين الروس «مصابون بالكذب المرضي ولا يمكن الوثوق بهم». وقال كيلوغ لدى وصوله إلى كييف: «نتفهّم الحاجة إلى ضمانات أمنية. نحن واضحون للغاية بشأن أهمية ذلك في إطار سيادة» أوكرانيا. وأضاف: «سيكون جزءاً من مهمتي الجلوس والاستماع لمخاوفكم».

حزمة عقوبات أوروبية جديدة

وكتب فلاديمير فاسيلييف، الباحث الرئيسي في معهد الولايات المتحدة وكندا التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، أن «نجاح مفاوضات موسكو وواشنطن بشأن الصراع سيظل يعتمد على سلوك الاتحاد الأوروبي وكييف».

ويرى فاسيلييف أن «الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا لا يريدان أن تنتهي العمليات العسكرية بسرعة. وربما يخشيان أن يؤدي هذا إلى انهيار نظام زيلينسكي. وهناك احتمال أن يحاول الغرب تقليص المواجهة إلى صراع بطيء، كما حدث بعد توقيع اتفاقيات مينسك». وعلاوة على ذلك، فإنه يرى أن إجراء انتخابات رئاسية في أوكرانيا لا يضمن على الإطلاق وصول قيادة أكثر استيعاباً للسلطة. ولا يمكن استبعاد أن يصوت الأوكرانيون لصالح «جنرال النصر» الذي يعارض السلام مع روسيا. وفي هذا الصدد، وفي مقابل التفاؤل بانطلاقة جديدة للعلاقات الروسية - الأميركية، فقد حثّ الخبير على «عدم توقع حلول سريعة، أو حلول بسيطة للمشكلة حول أوكرانيا».

رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مع المبعوث الأميركي الخاص لأوكرانيا وروسيا كيث كيلوغ في بروكسل (رويترز)

وأيدت دول الاتحاد الأوروبي حزمة العقوبات السادسة عشرة على روسيا، قبل أيام من الذكرى الثالثة للاجتياح الروسي الشامل لأوكرانيا، طبقاً لما ذكرته الرئاسة البولندية للاتحاد.

ووافق سفراء دول الاتحاد الأوروبي على الحزمة الجديدة من الإجراءات العقابية، ومن المقرر اعتمادها بشكل رسمي عندما يجتمع وزراء خارجية التكتل، الاثنين المقبل، وهو الذكرى الثالثة للحرب. وتستهدف الإجراءات العقابية الجديدة قائدي ومالكي السفن التابعة لما يسمى بأسطول الظل الروسي، وهو شبكة من السفن ذات الملكية غير الواضحة، وبعضها حتى غير مؤمن عليها. ويتم استخدام هذه السفن للالتفاف على سقف الأسعار الذي فرضه الغرب على صادرات النفط الروسية إلى دول ثالثة، أو لنقل الحبوب المسروقة من أوكرانيا.


مقالات ذات صلة

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

تحليل إخباري الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

ستثير الوثيقة التي صدرت الجمعة عن البيت الأبيض استياء الحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا، لما تتضمّنه من انتقادات لاذعة لسياسات قادة «القارة العجوز».

أنطوان الحاج
أوروبا يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)

«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أمس (الجمعة)، أن الدرع الواقية في محطة تشرنوبل النووية بأوكرانيا لم تعد بإمكانها أداء وظيفتها الرئيسية

«الشرق الأوسط» (فيينا)
الولايات المتحدة​ المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف (أ.ب)

الولايات المتحدة وأوكرانيا تؤكدان أن أي تقدم نحو السلام يعتمد على روسيا

يعقد مفاوضون أوكرانيون ومبعوثو الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوماً ثالثاً من المحادثات في ميامي السبت، مؤكدين أن إحراز أي تقدم نحو السلام يعتمد على روسيا.

«الشرق الأوسط» (ميامي)
أوروبا المستشار الألماني ميرتس مع الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء الكندي كارني (رويترز)

قلق أوروبي من «تسرع» أميركي لإنهاء الحرب في أوكرانيا

كشفت تقارير مضمون مكالمة حسّاسة جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الأوكراني

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا مبنى المحكمة الدولية في لاهاي (رويترز)

المحكمة الدولية: عقد جلسات استماع في غياب بوتين ونتنياهو وارد

اعتبر نائب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن عقد جلسات استماع في غياب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وارد.

«الشرق الأوسط» (لاهاي)

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
TT

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)

أكد البابا ليو الرابع عشر أمام سفراء جدد، اليوم (السبت)، أن الفاتيكان لن يقف مكتوف الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء العالم.

وهذه من أوضح التصريحات التي تكشف حتى الآن عن فلسفة البابا الأميركي، الذي انتُخب على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم في مايو (أيار) عقب وفاة البابا فرنسيس.

وقال البابا أمام مجموعة السفراء الـ13: «أود أن أؤكد مجدداً أن الكرسي الرسولي لن يقف مكتوف الأيدي أمام التفاوتات الجسيمة، والظلم وانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية في مجتمعنا العالمي الذي يزداد انقساماً وعرضة للصراعات».

و«الكرسي الرسولي» هو الهيئة الحاكمة للكنيسة التي يقودها البابا، ويمتلك سلطة روحية على 1.4 مليار كاثوليكي.

وأكد البابا أن «دبلوماسية الكرسي الرسولي تتجه باستمرار نحو خدمة خير البشرية، لا سيما من خلال مناشدة الضمائر، والإصغاء لأصوات الفقراء، أو الذين يعيشون في أوضاع هشّة، أو الذين يُدفعون إلى هامش المجتمع».

وبتركيزه على عدم المساواة، يبني ليو على أولويات سلفه البابا فرنسيس، الذي دافع عن حقوق المهاجرين وغيرهم من الفئات المستضعفة خلال حبريته.

وانتقد ليو، الذي أمضى قرابة 20 عاماً مبشّراً في البيرو، معاملة المهاجرين «غير المحترمة» في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب.

والسفراء الجدد المعتمدون الذين استقبلهم الفاتيكان السبت، من أوزبكستان ومولدوفا والبحرين وسريلانكا وباكستان وليبيريا وتايلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا وفيجي وميكرونيزيا ولاتفيا وفنلندا.


استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
TT

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)

لم يكن مفاجئاً مضمون استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترمب للأمن القومي الأميركي التي تُصوّر الحلفاء الأوروبيين بوصفهم ضعفاء، وتسعى إلى إعادة تأكيد هيمنة الولايات المتحدة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

ستثير الوثيقة التي صدرت الجمعة 5 ديسمبر (كانون الأول) 2025 عن البيت الأبيض استياء الحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا، لما تتضمّنه من انتقادات لاذعة لسياسات قادة «القارة العجوز» في شأنَي الهجرة، وحرية التعبير، إذ تُشير إلى أنهم يواجهون «احتمال امّحاء حضاريّ»، وتشكّك في مدى موثوقيتهم بأنهم شركاء للولايات المتحدة على المدى الطويل.

وتُجدّد الوثيقة، بلغة لا تخلو من البرودة، والنبرة التصادمية، تأكيد فلسفة ترمب القائمة على مبدأ «أميركا أولاً» الذي يعني عملياً عدم التدخل في الخارج، وتُعيد تقييم عقود من الشراكات الاستراتيجية، وتضع المصالح الأميركية فوق كل اعتبار.

هذه أول استراتيجية للأمن القومي -وهي وثيقة يُلزم القانون الإدارة بإصدارها- منذ عودة الرئيس الجمهوري إلى السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) 2025. وتمثل سطورها قطيعة واضحة مع النهج الذي اعتمدته إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، والتي سعت إلى إعادة تنشيط التحالفات بعد أن كانت قد تزعزعت خلال الولاية الأولى لترمب، وإلى كبح جماح روسيا الناهضة اقتصادياً بفضل صادراتها من النفط، والغاز.

*دور متراجع

سعى ترمب منذ عودته إلى البيت الأبيض إلى التوسّط لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ نحو أربع سنوات في أوكرانيا، وهو هدف تؤكد الاستراتيجية الجديدة أنه يدخل ضمن المصالح الحيوية لواشنطن الراغبة في تحسين علاقاتها مع موسكو بعد سنوات من التعامل مع روسيا بوصفها دولة منبوذة دولياً، وبالتالي يغدو إنهاء الحرب مصلحة أميركية أساسية من أجل «إعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا».

إطفائي يتعامل مع نيران أشعلها هجوم جوي روسي على العاصمة الأوكرانية كييف (أ.ف.ب)

وتنتقد الوثيقة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم هذا العام الذي يطوي أيامه الأخيرة أمام قساوة إصرار ترمب على التخلص من أعباء الحرب الروسية-الأوكرانية، بينما يواجهون تحديات اقتصادية داخلية، إضافة إلى أزمة وجودية، و«حضارية»، وفق واشنطن.

الواقع أنه ليس مستغرباً أن يضمر «حجم» أوروبا في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة. فالتاريخ يُظهر أن الاستراتيجية الكبرى الأميركية التي كانت في الغالب تتمحور على أوروبا لا بد أن تعكس تراجع خطر هيمنة قوة واحدة على القارة القديمة منذ مطلع الألفية، وظهور مراكز أخرى للنفوذ الجيوسياسي، والرهانات الجيواقتصادية. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى إعطاء مناطق أخرى من العالم أهمية متزايدة. فبينما ركّز الرئيس جورج بوش الابن على الشرق الأوسط، أعلن كل رئيس جاء بعده -حتى وإن لم يُنفَّذ الأمر بشكل كامل- سياسات تهدف إلى «التحوّل نحو آسيا». وفي عهد ترمب، أضيفت أميركا اللاتينية إلى آسيا، وما قاله الرجل عن بنما، وما يفعله حيال فنزويلا، وبدرجة أقل نحو كولومبيا خير دليل على ذلك.

*جيل أميركي مختلف

تُظهر التحوّلات الديموغرافية في الولايات المتحدة أنّ «جيل الحرب الباردة»، الذي كان يميل تلقائياً بشيء من الحنين إلى «الأطلسية»، والجسور الثقافية الممتدة إلى الجزر البريطانية، واليابسة الأوروبية، يقترب من «التقاعد»، ويحلّ محلّه جيلٌ أصغر سناً، وأكثر تنوّعاً من الناحية العرقية، ويعيد النظر في الدور الأميركي على مستوى العالم. ونظراً للحذر العميق الذي يعتمل في نفس ترمب حيال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، كان طبيعياً أن يعمد في ولايته الثانية إلى إنزال أوروبا درجات في سلّم الأولويات، ومعها «الناتو» الذي أُنشئ عام 1949 للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، ومنعه من مدّ نفوذه إلى أوروبا الغربية. فالتفاهم مع موسكو بشأن أوروبا ومناطق أخرى من الكوكب أفضل من إنفاق الأموال على حماية أوروبا «الاتكالية».

مبنى بيرلايمونت حيث مقر المفوضية الأوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسل (أ.ف.ب)

خالف هذا التوجه تمسّك جميع الرؤساء الذين تولّوا الحكم في واشنطن بعد الحرب الباردة بالموقع الرئيس لأوروبا في الاستراتيجية الأميركية. فقد كانت أوروبا تُعدّ سوقاً رئيسة للبضائع، والخدمات الأميركية (خصوصاً الدفاعية)، وكان يمكن للحلفاء الأوروبيين أن يشكّلوا قوة مضاعِفة للنفوذ الأميركي في مناطق أخرى من العالم. وفي المقابل، كانت روسيا تهديداً لأمن أوروبا، وللنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بما يشمل منطقة المحيط الهادئ، حيث تعمل موسكو على تعزيز مصالحها الخاصة، وتتماهى في مواقفها مع الصين.

*التحديات الثقيلة

جاء في وثيقة الاستراتيجية الأميركية أن «الركود الاقتصادي في أوروبا يقل أهمية عن الاحتمال الحقيقي والأكثر حدّة لحصول امّحاء حضاريّ».

وترى واشنطن أن أوروبا تضعف بسبب سياسات الهجرة التي تعتمدها، وتراجع معدلات الولادة، و«قمع حرية التعبير، وكبح المعارضة السياسية»، فضلاً عن «فقدان الهويات الوطنية، والثقة بالنفس».

تضيف الوثيقة: «إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن القارّة ستكون مختلفة تماماً في غضون 20 عاماً أو أقل. بالتالي، ليس من الواضح إطلاقاً ما إذا كانت بعض الدول الأوروبية ستملك اقتصادات وجيوشاً قوية بما يكفي لتبقى من الحلفاء الموثوقين (...). نحن نريد لأوروبا أن تبقى أوروبية، وأن تستعيد ثقتها الحضارية بنفسها».

إذا سلمنا بصحة هذا التصوّر، فإننا نستنتج فوراً أن على أوروبا أن تصدّ أو تلطّف تداعيات الخروج الأميركي المرجَّح من معمعة الحرب الروسية–الأوكرانية. فالقارة لا تملك القوة الكافية لرفد كييف بما يمكّنها من مواصلة الحرب، ومجاراة القوة العسكرية الروسية. ولا فائدة من رفع الإنفاق العسكري في دول أوروبية عديدة لإقامة توازن مستحيل مع القوة الروسية، في موازاة استنزاف اقتصادات متعثرة تعاني عجزاً هائلاً بـ«قيادة» ألمانيا التي يبلغ دينها العام 2.55 تريليون يورو، وهو ما يعادل نحو 62.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفرنسا (3.416 تريليون يورو، أي ما يعادل 115.8في المائة من الناتج المحلي).

لا شك في أنه يحق للاتحاد الأوروبي أن يشغل مقعداً إلى طاولة المفاوضات الجارية على قدم وساق بين واشنطن وموسكو لإنهاء الحرب في أوكرانيا التي تكتفي –رغم محاولات التجميل– بدور المتلقي. فالحرب مسرحها أوروبي، و«أهل الدار» معنيون بما يجري على أرضهم.

*التواصل أجدى من القطيعة

لن يتحقق المطلب الأوروبي إلا بإقامة خطوط اتصال بين بروكسل وموسكو، فبغير ذلك لا انخراط لأوروبا في صَوغ القرارات التي ستُتّخذ لإنهاء حرب أوكرانيا مع ما لذلك من انعكاسات على الأمن الأوروبي. وإن لم يحصل هذا الأمر فسيجد الأوروبيون أنفسهم يكتفون بردّ الفعل على تطوّرات تقودها واشنطن وموسكو، وبدرجة أقل كييف.

جنود من المشاة خلال تدريب عسكري فرنسي - بلجيكي مشترك في منطقة مفتوحة قرب بلدة سيسون بشمال شرقي فرنسا (أ.ف.ب)

أوروبا كبيرة، وغنية رغم العثرات الحالية، ومتقدمة تكنولوجياً. وهي تحتاج بالفعل إلى برنامج إعادة تسليح قوي يقنع موسكو -التي لا تريد حرباً مع أوروبا كما قال فلاديمير بوتين لكنها مستعدة لها– بالتفاوض الجدّي.

أما الورقة الثانية للإقناع فتكون بكسر الجمود بشأن الأصول الروسية المجمدة والمحتجَزة بموجب العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي على دفعات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فموسكو ستَنشد حلاً لتحرير أصولها الأوروبية التي تقدَّر قيمتها بـ210 مليارات دولار. أما الرأي الأوروبي القائل بضرورة استخدام هذه الأصول لدعم أوكرانيا، فمؤداه إطالة عمر الحرب، ووضع القارة في حالة مواجهة مع روسيا هي في غنى عنها.

ثمة من يقول إن الكرملين لا يفهم سوى لغة القوة، والبيت الأبيض لا يفهم سوى لغة الأعمال، وعلى أوروبا أن تتقن اللغتين. وثمة من يردّ على ذلك بالقول إن ما ورد عن البيت الأبيض صحيح، في حين أن ما ورد عن الكرملين مضلِّل.

ولعلّ الحقيقة أن كل هذه المعادلة لا ضرورة لها، وليس على أوروبا أن تتقن لغتين، بل عليها أن تُحسن إنجاب قادة حقيقيين يعرفون التاريخ ليضعوا رؤى لمستقبل يقيهم شرّ «الامّحاء الحضاري»، و«تلاشي الهويات»، فهل تتحقق «المعجزة»؟...


«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
TT

«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أمس (الجمعة)، أن الدرع الواقية في محطة تشرنوبل النووية بأوكرانيا، التي تم بناؤها لاحتواء المواد المشعة الناجمة عن كارثة 1986، لم تعد بإمكانها أداء وظيفتها الرئيسية للسلامة، بعد تعرضها لأضرار بسبب طائرة مسيرة، وهو ما اتهمت أوكرانيا روسيا بالمسؤولية عنه، بحسب «رويترز».

وقالت الوكالة إن عملية تفتيش الأسبوع الماضي لهيكل العزل الفولاذي الذي اكتمل في عام 2019، وجدت أن تأثير الطائرة المسيرة في فبراير (شباط)، أي بعد 3 سنوات من الصراع الروسي في أوكرانيا، أدى إلى تدهور الهيكل.

وقال رافائيل غروسي المدير العام للوكالة في بيان، إن «بعثة التفتيش أكدت أن (هيكل الحماية) فقد وظائف الأمان الأساسية، بما في ذلك القدرة على الاحتواء، ولكنها خلصت أيضاً إلى أنه لم يكن هناك أي ضرر دائم في هياكله الحاملة أو أنظمة المراقبة».

وأضاف غروسي أنه تم بالفعل إجراء إصلاحات «ولكن لا يزال الترميم الشامل ضرورياً لمنع مزيد من التدهور، وضمان السلامة النووية على المدى الطويل».

وذكرت الأمم المتحدة في 14 فبراير، أن السلطات الأوكرانية قالت إن طائرة مسيرة مزودة برأس حربي شديد الانفجار ضربت المحطة، وتسببت في نشوب حريق، وألحقت أضراراً بالكسوة الواقية حول المفاعل رقم 4 الذي دُمر في كارثة عام 1986.

وقالت السلطات الأوكرانية إن الطائرة المسيرة كانت روسية، ونفت موسكو أن تكون قد هاجمت المحطة.

وقالت الأمم المتحدة في فبراير، إن مستويات الإشعاع ظلت طبيعية ومستقرة، ولم ترد تقارير عن تسرب إشعاعي.

وتسبب انفجار تشرنوبل عام 1986 في انتشار الإشعاع بجميع أنحاء أوروبا، ودفع السلطات السوفياتية إلى حشد أعداد هائلة من الأفراد والمعدات للتعامل مع الحادث. وتم إغلاق آخر مفاعل يعمل بالمحطة في عام 2000.

واحتلت روسيا المحطة والمنطقة المحيطة بها لأكثر من شهر في الأسابيع الأولى من غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث حاولت قواتها في البداية التقدم نحو العاصمة الأوكرانية كييف.

وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أجرت التفتيش في الوقت نفسه الذي أجرت فيه مسحاً على مستوى البلاد للأضرار التي لحقت بمحطات الكهرباء الفرعية، بسبب الحرب التي دامت نحو 4 سنوات بين أوكرانيا وروسيا.