فرنسا تسابق الزمن لحماية أولمبياد باريس من تهديد «داعش»

السلطات أحبطت هجوماً لمتشددين كان مخططاً من قبل

قوات الأمن الفرنسية تؤمن محيط برج إيفل المزين بالحلقات الأولمبية في باريس - فرنسا 19 يوليو 2024 (أ.ب.أ)
قوات الأمن الفرنسية تؤمن محيط برج إيفل المزين بالحلقات الأولمبية في باريس - فرنسا 19 يوليو 2024 (أ.ب.أ)
TT

فرنسا تسابق الزمن لحماية أولمبياد باريس من تهديد «داعش»

قوات الأمن الفرنسية تؤمن محيط برج إيفل المزين بالحلقات الأولمبية في باريس - فرنسا 19 يوليو 2024 (أ.ب.أ)
قوات الأمن الفرنسية تؤمن محيط برج إيفل المزين بالحلقات الأولمبية في باريس - فرنسا 19 يوليو 2024 (أ.ب.أ)

تلقّى الصحافي الطاجيكي، تيمور فاركي، اتصالاً مثيراً للقلق من شرطة باريس في أواخر مارس (آذار)، بعد أيام فحسب عما قيل عن تنفيذ مسلحين من بلاده ينتمون لتنظيم «داعش» مذبحة في موسكو.

واستجوبه ضابطان بشأن الجالية الصغيرة من مهاجري طاجيكستان في فرنسا.

عامل يحمل قطعة من الخشب في تروكاديرو أمام برج إيفل قبل دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية 2024 في باريس (أ.ف.ب)

ويتذكّر فاركي أن الضابطين كانا يسألونه «مَن تعرف؟ كم عددهم؟ أين هم؟»، وكان أحدهم يتحدث الروسية، التي يشيع استخدامها في دول آسيا الوسطى.

وقال فاركي، وهو لاجئ سياسي في فرنسا عمل في وسائل إعلام مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، للشرطة في الاتصال إنه يعرف مجموعة صغيرة من الطاجيك معظمهم من المهاجرين والمعارضين.

غير أنه قال: «لكنني لا أعرف أي جهاديين».

قليل من المعلومات

وقبل انطلاق أولمبياد باريس في 26 يوليو (تموز)، تسابق أجهزة الأمن الفرنسية الزمن لسبر غور ملف ليس لديها فيه كثير من المعلومات، من خلال إقامة علاقات أوثق مع الطاجيك وآخرين من دول وسط آسيا في البلاد، وفقاً لما قاله أكثر من 12 مصدراً مطلعاً. ومن بين تلك المصادر مسؤولون حاليون وسابقون في المخابرات والشرطة ودبلوماسيون ومهاجرون من آسيا الوسطى تواصلت السلطات معهم.

تأتي عمليات التواصل تلك التي لم يعلن عنها من قبل، في أعقاب هجومين كبيرين وقعا هذا العام، قالت السلطات إنهما من تنفيذ عناصر طاجيكية من تنظيم «داعش - ولاية خراسان»، أحد أجنحة التنظيم المتشدد على اسم منطقة خراسان التاريخية التي كانت تضم مناطق من إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى.

وقُتل نحو 100 في هجوم انتحاري مزدوج خلال مراسم لتأبين قائد «الحرس الثوري» الإيراني، قاسم سليماني، يوم الثالث من يناير (كانون الثاني)، كما قُتل أكثر من 130 في هجوم وقع في موسكو يوم 22 مارس (آذار) قام خلاله مسلحون بإطلاق النار على رواد حفل موسيقي في قاعة كروكوس سيتي.

إحباط هجوم إرهابي

وقالت السلطات الفرنسية إنها أحبطت بالفعل هجوماً لمتشددين إسلاميين كان مخططاً خلال الأولمبياد، واعتقلت في أواخر مايو (أيار) شاباً شيشانياً (18 عاماً) يُشتبه في أنه خطط لمهمة انتحارية لصالح تنظيم «داعش» في ملعب «سانت إتيان» لكرة القدم؛ إذ كانت ستلعب فرق فرنسا والولايات المتحدة وأوكرانيا.

ويستهدف إسلامويون فرنسا منذ فترة طويلة، بسبب ماضيها الاستعماري والمشاعر المعادية للمسلمين، ومشاركتها التاريخية في الحروب بالشرق الأوسط وأفريقيا.

برج إيفل مزين بالحلقات الأولمبية في باريس فرنسا 19 يوليو 2024، في الفترة من 18 إلى 26 يوليو، وهو يوم حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024؛ حيث سيتم اتخاذ إجراءات أمنية في العاصمة الفرنسية على طول ضفاف وأرصفة نهر السين (أ.ب.أ)

وقال قائد شرطة باريس الشهر الماضي: «لا يزال إرهاب المتشددين الإسلامويين مصدر قلقنا الرئيسي» خلال دورة الألعاب الأولمبية، رغم قول السلطات إنه ليس هناك أي تهديدات مباشرة على الألعاب.

وطاجيكستان، التي عانت حرباً أهلية في التسعينات، أفقر دول الاتحاد السوفياتي السابق. ويعتمد نصف ناتجها الاقتصادي تقريباً على تحويلات المهاجرين، خصوصاً الموجودين في روسيا.

رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ (يسار) برفقة عميد أكاديمية باريس ومستشار جامعتي باريس وول دو فرانس برنارد بيجينييه، خلال زيارته جامعة «السوربون» في باريس في 19 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

ويرى عدد من الخبراء الأمنيين أن الشبان الفقراء المعزولين بين المغتربين الطاجيك يشكلون مزيجاً جذاباً لتنظيم «داعش - ولاية خراسان» لتجنيدهم.

وقال مصدر من المخابرات لـ«رويترز» إن المخابرات الفرنسية ليست لديها إلا قلة من العناصر والعملاء في آسيا الوسطى، وتجد أنه من الصعب اختراق جاليتها الصغيرة المتماسكة. ووفقاً لرابطة الطاجيك في فرنسا، تعيش حوالي 30 عائلة طاجيكية في البلاد.

تهديد «داعش - ولاية خراسان»

وأضاف مصدر المخابرات، الذي طلب عدم ذكر اسمه لتتسّنى له مناقشة مسائل أمنية، إن تنظيم «داعش - ولاية خراسان» يمثل تهديداً جديداً نسبياً ظهر مع قدرة قائمين على التجنيد من الخارج على استمالة قادمين من دول في آسيا الوسطى يقيمون في فرنسا للتطرف من أجل دفعهم لتنفيذ هجمات على الأراضي الفرنسية.

وذكر المصدر أن الدليل على ذلك هو اعتقال طاجيكي في 2022، بتهمة التخطيط لهجوم في ستراسبورغ. وأضاف أن الرجل كان يتصرف بناءً على تعليمات من عناصر اتصال تابعة لتنظيم «داعش - ولاية خراسان» موجودين في الخارج.

وقال مصدر أمني ثانٍ إن فرنسا حددت هوية 12 من مسؤولي الاتصال لدى تنظيم «داعش - ولاية خراسان» موجودين في دول حول أفغانستان، ولديهم حضور قوي على الإنترنت، ويحاولون إقناع شباب في دول أوروبية مهتمين بالانضمام إلى التنظيم من الخارج بتنفيذ هجمات في الدول التي هم فيها.

وأضاف المصدر أن مسؤولي الاتصال في التنظيم يقومون بعد ذلك بربط من جنّدوهم بأشخاص يمكنهم أن يزودوهم ببطاقات هوية مزورة وأسلحة على أرض الدولة المعنية في عملية لا تستغرق إلا بضعة أسابيع.

ورفض ضابطا الشرطة، اللذان تحدثا إلى فاركي، الرد على طلبات من «رويترز» للحصول على تعليق. وأحالت شرطة باريس الأسئلة إلى وزارة الداخلية الفرنسية التي رفضت أيضاً التعقيب. كما لم ترد وزارة الخارجية في طاجيكستان على طلب للتعليق.

مراسم افتتاح معقدة

تحدثت «رويترز» أيضاً مع اثنين آخرين من طاجيكستان وامرأة من أوزبكستان مقيمين في فرنسا، اتصلت بهم الشرطة واستجوبتهم بخصوص الجاليات التي ينتمون إليها.

وقالت ناديجدا أتاييفا، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان من أوزبكستان، وتعمل في مدينة لومان بشمال غرب فرنسا، إنها أعطت ضباط الشرطة رقم هاتف فاركي بعد زيارتها لمركز الشرطة في باريس.

وأضافت: «طلب مني أرقام هواتف طاجيك أثق بهم. وقال لي أفراد الشرطة إنهم يريدون التحدث مع أفراد من طاجيكستان لمعرفة آرائهم بشأن ما حدث في موسكو».

أفراد من قوات الدرك الفرنسية يقومون بدورية حول المنشآت الرياضية لدورة الألعاب الأولمبية «باريس 2024» في ساحة الكونكورد في باريس (أ.ب.أ)

وقال سيباستيان بيروز، وهو أكاديمي فرنسي قدّم إفادات لأجهزة أمن فرنسية وأمريكية بشأن التطرف في دول في آسيا الوسطى، إن السلطات الفرنسية ربما تباطأت في الاستجابة لوجود تهديدات أمنية محتملة من طاجيك.

وأضاف: «انصب تركيز فرنسا على متشددين قادمين من الشرق الأوسط والجزائر وشمال أفريقيا بشكل أكبر من آسيا الوسطى... وأعتقد أن فرنسا تفاجأت بما حدث في موسكو، وقد تكون (استجابتها) قد تأخرت قليلاً».

وقال إدوارد ليمون، وهو خبير من طاجيكستان، يُقدم تقارير دورية لأجهزة أمن غربية، إن المخابرات الروسية لا تزال الأفضل من حيث متابعة شبكات الجماعات المتشددة في آسيا الوسطى، رغم إخفاقها في منع الهجوم على قاعة كروكوس سيتي.

لكن وزير الدفاع والقوات المسلحة الفرنسي، سيباستيان ليكورنو، أشار في أبريل (نيسان) إلى تراجع كبير في تبادل المعلومات الاستخباراتية بين روسيا وفرنسا بشأن تنظيم «داعش» وجماعات متشددة أخرى منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022.

وقال مسؤولان بوزارة الخارجية الأمريكية ينسقان بشأن أمن الفريق الأولمبي الأمريكي لـ«رويترز» إنهما يثقان في الاستعدادات الأمنية التي تجريها فرنسا. وأضافا، دون الخوض في تفاصيل، أن جهود فرنسا الرامية إلى بناء علاقات أقوى مع الجالية الطاجيكية تعكس ممارسة شائعة لمكافحة الإرهاب، وهي تحديد أفراد من جالية معينة ربما يشكلون تهديداً.

وقال أحدهما إن «الجميع يرغب في الحصول» على مزيد من المعلومات حول التهديدات المقبلة من دول في آسيا الوسطى.

عودة مسلحين من سوريا

ووفق ليمون واثنين آخرين من الخبراء في شؤون آسيا الوسطى، أجرت «رويترز» معهم مقابلة، يأتي التهديد الأساسي الذي يشكله طاجيك في أوروبا من حوالي 10 متطرفين قاتلوا في سوريا، ثم عادوا إلى أوروبا تدريجياً عبر أوكرانيا بعد أفول قوة تنظيم «داعش» في الشرق الأوسط.

وفي العام الماضي، ألقت السلطات الألمانية القبض على 7 مواطنين من دول في آسيا الوسطى مقيمين في البلاد، للاشتباه في تأسيسهم منظمة إرهابية. وقال ممثلون للادعاء إن المتهمين القادمين من تركمنستان وطاجيكستان وقرغيزستان دخلوا إلى ألمانيا عبر أوكرانيا بعد وقت قصير من الغزو الروسي لأوكرانيا في أوائل 2022، وهم في السجن حالياً ينتظرون المحاكمة.

وقدّر ليمون أن هناك عشرات الآلاف من الطاجيك يعيشون في أوروبا، ويتركزون بالأساس في بولندا وألمانيا.

ومعظم هؤلاء لاجئون سياسيون وصلوا قبل حوالي 10 سنوات، بعد أن صنّف رئيس طاجيكستان، إمام علي رحمن، حركتي المعارضة «المجموعة 24» و«حزب النهضة الإسلامية» على أنهما منظمتان متشددتان وإرهابيتان. ويتولى رحمن، حليف روسيا، رئاسة طاجيكستان منذ 30 عاماً.

وقال فاركي، وهو من أعتى المعارضين لرحمن، إنه طلب اللجوء إلى فرنسا في 2016 لأنه يُحب الثقافة والأدب فيها. وأضاف أنه لم يتحدث مطلقاً مع أجهزة الأمن الفرنسية حتى تواصلت معه الشرطة في مارس.

وأفاد محمد إقبال صدر الدين، وهو معارض طاجيكي آخر مقيم في فرنسا، بأنه تحدث أيضاً مع الشرطة.

وقال: «لقد سألوني عما أعرفه». وأضاف أنه كان يوّد المساعدة، لكنه قال لهم «لا أعرف أشخاصاً من طاجيكستان لهم آراء متطرفة».

وقال 3 خبراء في مجال المخابرات الوقائية ومكافحة التجسس لـ«رويترز» إن جهود فرنسا في اختراق صفوف الجالية الطاجيكية قد تأتي بنتائج عكسية.

لاعبو الهوكي الميداني من جنوب أفريقيا يقفون أمام الملعب. برج إيفل الجمعة 19 يوليو 2024 في باريس. خلال دورة الألعاب الأولمبية في باريس (أ.ب)

وذكر عميل سابق في المخابرات الأمريكية، طلب عدم ذكر اسمه نظراً لإدلائه بمعلومات حول فترة عمله مع أجهزة أمن فرنسية بشأن مسائل تتعلق بدول في آسيا الوسطى، أن عمليات مكافحة التجسس والمخابرات الوقائية في فرنسا تحظى عموماً بتقدير كبير، لكن الضغط على الطاجيك للحصول على معلومات قد يأتي بنتائج عكسية، من خلال شعورهم بأنهم يوصمون بصورة نمطية سلبية في المجتمع، بما يجعلهم أقل استعداداً للإبلاغ عن أفراد قد يشكلون خطراً.

ويتفق جون - فرانسوا راتيل، وهو خبير في شؤون الجماعات المتشددة في جامعة «أوتاوا»، مع هذا الرأي. وقال: «كان ينبغي بدء بناء علاقات مع الجالية الطاجيكية قبل أعوام. إذا كان الدافع الوحيد لذلك هو مكافحة الإرهاب فحسب، فإنها وصفة لفشل حتمي... وإذا قررت فرنسا الضغط أكثر من اللازم على تلك الجالية، فقد يتسبب ذلك في خلق التهديد الإرهابي، الذي تسعى فرنسا إلى القضاء عليه قبل الألعاب الأولمبية 2024».


مقالات ذات صلة

منع بطل الدراجات الأولمبي ريتشاردسون من تمثيل أستراليا

رياضة عالمية ماثيو ريتشاردسون (رويترز)

منع بطل الدراجات الأولمبي ريتشاردسون من تمثيل أستراليا

قال الاتحاد الأسترالي للدراجات، اليوم الاثنين، إنه لن يُسمح لماثيو ريتشاردسون بالعودة للانضمام إلى الفريق في المستقبل.

«الشرق الأوسط» (كانبرا)
رياضة عالمية إيما ماكيون (أ.ف.ب)

أسطورة السباحة الأسترالية ماكيون تعتزل بعد مسيرة أولمبية عظيمة

اعتزلت السبّاحة إيما ماكيون، الأكثر تتويجاً في تاريخ أستراليا الأولمبي وصاحبة ثمانية أرقام قياسية عالمية، الاثنين، عن عمر يناهز 30 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
رياضة عالمية أليستير براونلي (أ.ب)

براونلي بطل الأولمبياد مرتين يعتزل لعبة «الثلاثي»

أعلن أليستير براونلي، الفائز بذهبيتين أولمبيتين في الثلاثي وبطل العالم مرتين، اعتزاله في عمر الـ36 عاماً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
رياضة عالمية آدم بيتي (رويترز)

بيتي: لست مستعداً لاتخاذ قرار المشاركة في «أولمبياد 2028»

قال السباح البريطاني آدم بيتي، بطل الأولمبياد 3 مرات، إنه غير مستعد الآن لاتخاذ قراره بشأن المشاركة في أولمبياد لوس أنجليس 2028، وذلك بعدما أصيب بالإحباط.

«الشرق الأوسط» (لندن)
رياضة عالمية الوكالة الدولية للاختبارات أن 10.3 في المائة من الرياضيين لم يتم اختبار تعاطيهم للمواد المنشطة في الأشهر الـ6 (أ.ف.ب)

67 فائزاً بميداليات لم يخضعوا لاختبارات المنشطات قبل «أولمبياد باريس»

ذكر تقرير صادر من الوكالة الدولية للاختبارات أن 3.‏10 في المائة من الرياضيين، بما في ذلك 67 رياضياً فازوا بميداليات.

«الشرق الأوسط» (لايبزغ)

​ميركل لم تندم على قرار إدخال اللاجئين السوريين رغم أنه دفعها للتقاعد

كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)
كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)
TT

​ميركل لم تندم على قرار إدخال اللاجئين السوريين رغم أنه دفعها للتقاعد

كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)
كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)

لم تبد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أي ندم حول قرارها بفتح أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين عام 2015، رغم اعترافها بأن هذا القرار كان «نقطة تحول» بالنسبة إليها، وكان سبباً أساسياً في تقاعدها السياسي، وكاد أن يدفعها للخروج أبكر من الحياة السياسية.

وفي كتابها «حرية» الذي صدر الثلاثاء، وجاء مترجماً إلى 30 لغة، كتبت ميركل تفاصيل قرارها التاريخي الذي أدخل أكثر من مليون سوري إلى ألمانيا، وتسبب في دخول حزب يميني متطرف، هو «البديل من أجل ألمانيا»، في البرلمان للمرة الأولى منذ هزيمة النازيين.

وبرّرت ميركل ذلك في كتابها الممتد لـ700 صفحة، بأنه كان القرار الإنساني الوحيد الذي كان بإمكانها اتخاذه أمام صور عشرات آلاف اللاجئين السوريين الذين يحاولون العبور إلى أوروبا براً وبحراً. وقالت إنه من الناحية القانونية، كان رفض السماح لهم بالدخول إلى ألمانيا «مبرراً»، استناداً لـ«اتفاقية دبلن» التي تنظم اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي، وتفرض على الدولة الأولى التي يدخل إليها اللاجئ أن تنظر في الطلب، ما يعني أن العبء الأساسي كان يقع آنذاك على إيطاليا واليونان.

المستشارة السابقة أنجيلا ميركل بعد إعلانها تقاعدها في مؤتمر حزبها «المسيحي الديمقراطي» عام 2017 (أ.ف.ب)

وروت في سيرتها التي كتبتها بنفسها بمساعدة سكرتيرتها القديمة وصديقتها بيته باومان، كيف شغلتها أزمة اللاجئين معظم عام 2015، وروت تلقيها اتصالاً على جوالها يوم الأحد 19 أبريل (نيسان) من ذاك العام من رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي غادة غرق مركب للاجئين قبالة سواحل ليبيا ومقتل المئات. وقالت إن يومها كان عيد ميلاد زوجها يواكيم الـ66، وكانا يعدان لقضاء يوم هادئ سوياً. ولكن اتصال رينزي ألغى كل شيء. فهو كان يستجديها مساعدة بلاده التي لم تعد قادرة على التعامل مع أزمة اللاجئين، وعقد قمة لقادة أوروبا لمناقشة الأزمة. وقالت إن رينزي كان يقول بأن الأزمة لم تعد تتعلق بإيطاليا وحدها بل باتت أزمة أوروبية، ويستجدي ألا تترك إيطاليا وحدها. وأكدت حين ذلك، بحسب روايتها، أن رينزي كان محقاً.

وبقيت أزمة اللاجئين طاغية في الأشهر التي تلت ذلك، وكانت أعداد الواصلين إلى ألمانيا تتضاعف يومياً. وتروي في كتابها عن اتصال تلقته من مستشار النمسا آنذاك فيرنر فايمان يوم الجمعة 4 سبتمبر (أيلول)، وصف لها أن الطرقات السريعة في النمسا مليئة باللاجئين الذين يعبرون الحدود من المجر ويدخلون إليها. كان فايمان يطلب بتقاسم الأعباء بين ألمانيا والنمسا. وكتبت: «لم يشأ فايمان اتخاذ القرار بنفسه. المسؤولية كانت تقع على عاتقي، وأنا كنت مصرة على قبولها. كنا نواجه كارثة إنسانية». وروت كيف تشاورت مع الحزب «الاشتراكي» الذي كان يشاركها الحكومة قبل اتخاذ القرار، وكيف لم يعارض الحزب السماح للاجئين بالدخول. ولكنها لم تتمكن من الاتصال بوزير داخليتها آنذاك هورست زيهوفر، الذي كان أيضاً زعيم الحزب «المسيحي البافاري»، وهو الحزب الشقيق لحزبها. واصطدمت آنذاك ميركل مع زيهوفر بشأن سياسة الهجرة، فهو كان معارضاً شديداً لقرارها. ولكن في تلك الليلة، قالت ميركل إنها لم تتمكن من الحديث معه، بغض النظر عن عدد المرات التي حاولت الاتصال به. وبعد أن تأكدت من قانونية «فتح الأبواب» أمام اللاجئين، أصدرت قرابة الساعة 11 ليلاً، بياناً مشتركاً مع مستشار النمسا نشراه على «فيسبوك»، يقولان فيه إنه يمكن للاجئين دخول ألمانيا والنمسا. وقالت إنهما اختارا النشر على «فيسبوك»، لأنهما اعتقدا بأن اللاجئين يعتمدون على التطبيق لجمع المعلومات.

وما تبع ذلك، هو رواية ميركل للردود على قرارها، من استياء وزير داخليتها، إلى الانتقادات التي تلقتها، منها من الصحافة المحافظة. وقالت إن قرارها أحدث شرخاً ليس فقط داخل حزبها، ولكن أكثر مع الحزب «المسيحي البافاري» الشقيق الذي كان على الجهة المعاكسة منها في سياستها تجاه اللاجئين. وكتبت: «لقد رأيت أن سياسة الهجرة أصبحت نقطة تحول في ولايتي... ولكن ليس فقط منذ ذلك الحين كنت أفكر فيما إذا كنت سأترشح لولاية جديدة عام 2017، بل بدأت بالتفكير في ذلك بداية عهدي الثالث عام 2013».

وروت أنها تحدثت عن هذا الموضوع مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، حيث تربطها علاقة شخصية قوية معه. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، زار أوباما برلين في زيارة وداعية، وقالت إنهما التقيا في فندق أدلون في 16 نوفمبر على العشاء، وأخبرته أنها تفكر في التقاعد وعدم الترشح مجدداً العام المقبل. وكتبت عن ذلك: «كنا نجلس معاً فقط، وكان يسأل سؤالاً من هنا وآخر من هناك لمساعدتي على التوصل إلى قرار، ولكن عدا ذلك احتفظ برأيه لنفسه. أحسست بأنه أراد أن يؤكد على استمراري بالمسؤولية... وقال إن أوروبا ما زالت بحاجة إلي، ولكن في النهاية علي أن أتبع حدسي».

وفي النهاية قالت ميركل إنها قررت الترشح مرة جديدة، بالفعل فاز حزبها بنسبة 33 في المائة، وهو معدل أقل من الانتخابات التي مضت، ولكنه كان ما زال فوزاً كبيراً. ولكن قرارها بالتقاعد بقي يلاحقها، والهوة بين حزبها والحزب «المسيحي البافاري» الشقيق ظلت تتسع بسبب سياسة الهجرة، حتى اتخذت القرار أخيراً وأعلنته بعد عام إثر خسائر في انتخابات محلية مُني بها حزبها، بشكل أساسي بسبب سياسة الهجرة. وكتبت: «لم أعد قادرة على الإكمال بالعمل كالعادة». ورغم قرارها عدم الترشح مرة جديدة لزعامة حزبها، فقد قالت إنها كانت واثقة في أنها كانت لتنتخب مرة جديدة، لو أنها ترشحت «وإن بأغلبية ضئيلة».

صورة أرشيفية للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل وباراك أوباما (أ.ب)

وبالفعل، غادرت ميركل منصبها، وكانت شعبيتها لا تزال مرتفعة رغم الانتقادات التي واجهتها بسبب أزمة اللاجئين، ومساهمتها في صعود اليمين المتطرف. وقالت إنه في النهاية، كانت حجج التقاعد أقوى من البقاء، وكتبت: «تطورات أزمة اللاجئين كانت نقطة تحول في عهدي...»، واعترفت بأن قرارها هذا أسهم في زيادة حظوظ «البديل من أجل ألمانيا»، وكتبت عن ذلك: «عام 2013 تأسس (البديل من أجل ألمانيا) بوصفه حزباً معارضاً لليورو، وفشل ولم ينجح في دخول البرلمان. ولكن بعد عامين فقط، كسب زخماً جديداً مستغلاً أزمة اللاجئين».

وفي عام 2017 دخل «البديل من أجل ألمانيا» البرلمان بنسبة 12 في المائة من الأصوات، وهو اليوم حظي بنسبة تصل إلى 19 في المائة، وفق استطلاعات الرأي للانتخابات المقبلة في نهاية فبراير (شباط) المقبل.

وتطرقت ميركل في كتابها لعوارضها الصحية في العامين الأخيرين من عهدها، ونوبات الرعشة التي كانت تتعرض لها. وقالت إن النوبة الأولى حصلت أثناء وقوفها إلى جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في برلين أثناء الاستقبال الرسمي له.

وتكرر مرتين خلال أسابيع قليلة خلال وقوفها إلى جانب زعماء آخرين. وقالت إنها خضعت آنذاك لفحوصات عصبية وداخلية مفصلة من دون أن تظهر علة. وقالت إن طبيباً في النهاية قال لها إن التوتر هو سبب تلك الرعشات. وشرحت أن والدتها كانت قد توفيت خلال تلك الفترة، وأنه لم تتح لها الفرصة لأن تحزن عليها بسبب انشغالها الدائم. وتابعت أنها منذ ذلك الحين، قررت أن تبقى جالسة في كل الاستقبالات الرسمية التي تجريها؛ تفادياً لعودة الرعشة، وهو ما حصل فعلاً.