الرئيس الفرنسي يثير بطروحاته العسكرية انقساماتٍ في صفوف الغربيين تجاه أوكرانيا

باريس تحض على السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخها لضرب أهداف عسكرية في روسيا وعلى إرسال مدربين

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتس بمناسبة زيارة الدولة التي قام بها لألمانيا (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتس بمناسبة زيارة الدولة التي قام بها لألمانيا (إ.ب.أ)
TT

الرئيس الفرنسي يثير بطروحاته العسكرية انقساماتٍ في صفوف الغربيين تجاه أوكرانيا

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتس بمناسبة زيارة الدولة التي قام بها لألمانيا (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتس بمناسبة زيارة الدولة التي قام بها لألمانيا (إ.ب.أ)

مرة أخرى، يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إبراز نفسه على أنه، في الوقت الراهن، الزعيم الغربي الأكثر اندفاعاً في توفير الدعم العسكري لأوكرانيا، والداعي إلى «الجرأة» في التعاطي مع روسيا، ما يمثل تغييراً كبيراً في مواقفه قياساً لما كانت عليه في الأشهر الأولى التي تلت اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. وآخر مظاهر اندفاعه تأكيده أنه يتعين السماح للقوات الأوكرانية باستخدام الأسلحة الغربية لضرب الأراضي الروسية التي تنطلق منها الصواريخ والقذائف التي تستهدف أوكرانيا.

شارك ماكرون في فعاليات الاحتفال بالذكرى الـ75 للدستور الألماني ببرلين (أ.ف.ب)

ففي المؤتمر الصحافي المشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس، بمناسبة انتهاء زيارة الدولة التي قام بها لألمانيا قال ماكرون الثلاثاء: «يتعين علينا السماح (للقوات الأوكرانية) باستهداف المواقع العسكرية التي تطلق منها الصواريخ، والتي منها تتعرض أوكرانيا لهجمات (روسية)». وأضاف ماكرون: «إذا قلنا لهم ليس من حقكم بلوغ النقطة التي تطلق منها الصواريخ، فكأننا نقول لهم: نحن نسلمكم الأسلحة، لكنكم لا تستطيعون الدفاع عن أنفسكم».

بيد أن الرئيس الفرنسي سارع إلى التنبيه من أن الضوء الأخضر لا يجب أن يشمل إلا الأهداف العسكرية، محذراً من التعرض للأهداف المدنية. وحجة ماكرون أن الجانب الروسي لا يستهدف المواقع الأوكرانية من الأراضي التي تسيطر عليها روسيا داخل أوكرانيا، بل من الداخل الروسي. والدليل على ذلك أن قصف مدينة خاركيف ومحيطها، وفق ماكرون، مصدره الأراضي الروسية نفسها.

ماكرون خلال إلقاء خطابه بجامعة السوربون التاريخية حيث دعا لبناء دفاع أوروبي قوي 25 أبريل (إ.ب.أ)

حتى اليوم، كان استهداف الأراضي الروسية بمثابة «خط أحمر» فرضه الغربيون على استخدام أسلحتهم في مواجهتهم للقوات الروسية. ودأب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، منذ أشهر، على المطالبة بتحرير بلاده من هذا الشرط خصوصاً بعد النجاحات العسكرية التي حققتها القوات الروسية في شرق وشمال البلاد. ومع تصريحاته الأخيرة، يوفر ماكرون دعماً استثنائياً لمطالبة أمين عام الحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ بالتخلي عن «الخط الأحمر» الذي «يكبل أيدي الأوكرانيين».

ووفق خبراء عسكريين، فإن السماح بضربات وراء الحدود الأوكرانية - الروسية حاجة ضرورية لتعطيل الإمدادات والسلاسل اللوجيستية، واستخدام المدفعية المضادة، وتشويش القيادة وممارسة ضغوط عليها، بحيث لا تعود مقيدة بمحرمات تمنعها من التحرك بحرية؛ وفقاً لخططها العسكرية.

الرئيسان البرتغالي مارسيلو ريبو دا سوزا والأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمناسبة زيارة الثاني للبرتغال يوم الثلاثاء (إ.ب.أ)

إرسال مدربين غربيين إلى أوكرانيا نفسها

ما يدعو إليه الرئيس الفرنسي يعد متقدماً، ويعكس انقسامات الغربيين، إن داخل الحلف الأطلسي أو داخل الاتحاد الأوروبي إزاء المدى الذي يتعين عليهم الالتزام به لتجنب نزاع مباشر مع روسيا. وطموح ماكرون يواجه رفضاً غربياً، خصوصاً أميركياً أكده مجدداً جون كيربي، الناطق باسم مجلس الأمن القومي، الذي أعلن الثلاثاء أنه «لا تغيير في سياستنا في هذه المرحلة. وما زال استخدام أسلحة وفّرتها الولايات المتحدة لتوجيه ضربات داخل روسيا أمراً لا نشجّعه ولا نسمح به».

مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل (إ.ب.أ)

وداخل الاتحاد، ثمة دول ترفض دعوة ماكرون. واعترف جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمن داخل الاتحاد بوجود انقسامات. وقال عقب اجتماع لوزراء دفاع الاتحاد: «لا يوجد موقف مشترك واضح بشأن هذا الموضوع في الوقت الحالي». وقال بوريل إن وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي ناقشوا نقل جزء من برنامج التدريب الخاص بالتكتل إلى الأراضي الأوكرانية. وأضاف بوريل بعد المحادثات «كان هناك نقاش، لكن لا يوجد موقف أوروبي مشترك واضح بشأن ذلك»، مردفاً: «ليس هناك إجماع».

وأشار بوريل إلى أن المؤيدين عدّوا أن إرسال مدربين إلى أوكرانيا سيجعل التدريب أقرب إلى «سيناريو حرب». وفي المقابل، قال المعارضون إن هناك مخاطر كبيرة قد تنجم عن إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا، وفق ما نقل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. أضاف بوريل: «أنتم تعلمون أن هناك وجهات نظر مختلفة في الدول الـ27 (في الاتحاد الأوروبي)»، متابعاً: «لكن الأمور تتغير». لكنّ دولاً مثل ألمانيا عارضت اتخاذ خطوة تخشى أن تجرها إلى نزاع مباشر مع روسيا.

فألمانيا، رغم انفتاحها الجزئي، ما زالت تعارض لا بل إن شولتس يواظب على رفض تسليم كييف صواريخ «توروس» بعيدة المدى رغم ضغوط زيلينسكي وأعضاء من داخل حكومته وعلى رأسهم وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك.

منظومة «باتريوت» المضادة للطيران التي زُوِّدت بها أوكرانيا لتعطيل فاعلية الطيران الروسي (د.ب.أ)

قال متحدث باسم الحكومة الألمانية الأربعاء إن الاتفاقات المتعلقة بكيفية استخدام أوكرانيا للأسلحة التي تزودها بها الدول الغربية سرية. وجاء ذلك ردا على أسئلة بخصوص ما إذا كان بوسع القوات الأوكرانية استخدام هذه الأسلحة لتنفيذ ضربات داخل الأراضي الروسية.

والمعلوم، أن باريس وفرت لكييف عدة عشرات من صواريخ «سكالب» التي تطلق من الطائرات أو من القطع البحرية، والتي يتراوح مداها ما بين 250 إلى 500 كلم. كذلك حصلت أوكرانيا على مجموعة من صواريخ «ستورم شادو» البريطانية، وهو الاسم الآخر لهذا النوع من الصواريخ ثمرة التعاون الفرنسي - البريطاني. لكن الثابت أن العدد القليل نسبياً من هذه الصواريخ التي نقلت إلى كييف لن يغير مسار الحرب ما دام استمرت واشنطن في معارضة استخدام صواريخها لضرب الأراضي الروسية.

وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو ونظيرته البلجيكية لودفين ديدوندر يتحدثان للصحافة 21 مايو بمناسبة التوقيع على اتفاقيات دفاعية ثنائية بباريس (أ.ف.ب)

وكما كان متوقعاً، لم تتأخر ردة الفعل الروسية التي جاءت على لسان الرئيس فلاديمير بوتين الذي حذر الثلاثاء من طشقند من «العواقب الخطيرة» المترتبة على «الضوء الأخضر» الغربي، عدّاً أن هذا النوع من التصعيد «يمكن أن يقود إلى حرب عالمية». وفي تهديد مباشر بالرد، دعا بوتين أوروبا «خاصة في الدول الصغيرة، إلى أن تدرك ما تقوم به، وأن تتذكر أنها دول ذات أراض صغيرة مع كثافة سكانية عالية... لذا، يجب أن تأخذ ذلك في الاعتبار قبل الحديث عن ضرب الأراضي الروسية في العمق».

وانتقد بوتين بصفة خاصة الأمين العام لحلف «الناتو» ينس ستولتنبرغ، الذي يؤيد ضرب أهداف عسكرية في الأراضي الروسية. وأشار ستولتنبرغ إلى حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها.

وقال الأمين العام لـ«الناتو»، إن الدفاع الجوي يمثل «الحاجة الأكثر إلحاحاً». وأضاف أن دول الاتحاد الأوروبي «تكثف عمليات تسليم الذخيرة وأنظمة الدفاع الجوي، الأكثر تقدماً بوجه خاص، ألا وهي أنظمة باتريوت».

واشنطن زوّدت كييف بصواريخ «أتاكمس» طويلة المدى (رويترز)

الانقسامات الغربية

خلال يومين فقط، برز التميز الفرنسي عن الولايات المتحدة وشركاء باريس الأوروبيين. فمساء الاثنين الماضي، سارع رئيس أركان القوات الأوكرانية إلى إصدار بيان جاء فيه أنه «يرحب بمبادرة فرنسا الهادفة إلى إرسال مدربين (عسكريين) إلى أوكرانيا من أجل تدريب القوات الأوكرانية»، مضيفاً أنه وقع الوثائق التي تتيح لهم زيارة مراكز التدريب والتعرف على البنى التحتية والأشخاص المعنيين.

وجاء ذلك بعد اجتماع عن بُعد ضم وزيري الدفاع الفرنسي والأوكراني، وشارك فيها الجنرال أولكسندر سيرسكي. إلا أن تصريحه أربك باريس التي نفت وزارة دفاعها إبرام اتفاق مع كييف مكتفية بالقول إن «موضوع تدريب القوات الأوكرانية على أراضي أوكرانيا مطروح منذ شهر فبراير (شباط) الماضي وما زال موضع بحث مع الجانب الأوكراني».

وبهذا الصدد أيضاً، أفاد بوريل بأنه لا يوجد إجماع أوروبي بشأنه، علماً أن الرئيس ماكرون أثار جدلاً واسعاً بإعلانه نهاية فبراير أنه «لا يتعين استبعاد إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا»، وكرر ذلك مؤخراً، إلا أنه ربطه بشرطين: أن تتم العملية بطلب من كييف، وأن تكون رداً على اختراق القوات الروسية لخطوط الدفاع الأوكرانية.

رجال شرطة وخبراء أوكرانيون يفحصون جثث المدنيين الذين لقوا حتفهم نتيجة هجوم صاروخي (أ.ف.ب)

تلقى دعوة ماكرون تأييداً من دول بحر البلطيق ومن بولندا... إلا أنها لاقت رفضاً ألمانياً وأميركياً سابقاً ما حمل باريس على التخفيف من مستواها ومن مضمونها، بحيث لا تقوم على إرسال قوات قتالية لمواجهة القوات الروسية، بل تركز على نزع الألغام والتدريب والخدمات الأخرى غير القتالية، مثل إصلاح الأنظمة الدفاعية المقدمة إلى أوكرانيا وتقديم المشورة. لكن الرئيس بوتين سارع الثلاثاء من طشقند إلى التنديد بها، مؤكداً أن هناك مدربين غربيين على الأراضي الأوكرانية، وأن موسكو تعدهم «مرتزقة». وتبين الأرقام المتوافرة أن ما لا يقل عن 50 ألف جندي أوكراني تم تدريبهم في الدول الأوروبية حتى اليوم، خصوصاً في بولندا. بالمقابل، ينفي الغربيون وجود خبراء لهم على الأراضي الأوكرانية، إلا أن هذا النفي لا يتحلى بالصدقية.

الغموض الاستراتيجي

تبين قراءة شريط الأحداث أن الرئيس ماكرون راغب في أن يلعب دوراً رئيسياً في الحرب الروسية - الأوكرانية. فهو أول من طرح إمكانية إرسال قوات إلى أوكرانيا، وأول من دعا إلى اعتماد «الغموض الاستراتيجي» في التعامل مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا. ولم يتردد ماكرون في دفع الأوروبيين نحو بناء «الاستقلالية الاستراتيجية»، وإلى وضع قوة الردع النووية الفرنسية في إطار الردع الأوروبي. وفي كل مبادراته، أثار ماكرون جدلاً في الداخل والخارج. ويرى مراقبون أن اندفاع الرئيس الفرنسي مرده إلى أن تهديدات بوتين، بعد كل قرار غربي، باتخاذ إجراءات عقابية بقيت في حيز الكلام ولم تترجم إلى أفعال، ما يدفع باريس إلى الذهاب أبعد فأبعد. ومنذ اليوم، تنظر فرنسا إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وإلى احتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الأمر الذي سيفتح للرئيس ماكرون الباب واسعاً ليتزعم المعسكر الغربي، وهو يعمل لهذا الغرض.


مقالات ذات صلة

بلينكن يزور بروكسل لبحث الدعم الغربي لأوكرانيا بعد فوز ترمب

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أثناء مؤتمر صحافي عقب اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي ببوخارست برومانيا 30 نوفمبر 2022 (رويترز)

بلينكن يزور بروكسل لبحث الدعم الغربي لأوكرانيا بعد فوز ترمب

توجه وزير الخارجية الأميركي إلى بروكسل حيث يجري محادثات طارئة مع الأوروبيين لتسريع المساعدات الموجهة لأوكرانيا وذلك على خلفية انتخاب ترمب رئيساً لأميركا.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا جوزيب بوريل ممثل السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي (أ.ف.ب)

الاتحاد الأوروبي يندد بدعوة سموتريتش «لفرض السيادة» على الضفة الغربية

ندد الاتحاد الأوروبي، اليوم الإثنين، بدعوة وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش "لفرض السيادة" على الضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل يشير بيده أثناء حديثه خلال مقابلة مع «وكالة الصحافة الفرنسية» بكييف في 11 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

بوريل: استخدام مصطلح «التطهير العرقي» يزداد لوصف الوضع في شمال غزة

رأى مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي أن مصطلح «التطهير العرقي» يُستخدم بشكل كبير فيما يتعلق بالوضع في شمال قطاع غزة، حيث تشنّ إسرائيل هجوماً دامياً.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا  مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في ياهيدني يتمعن في حائط صور لعسكريين أوكران قتلوا في مواجهات مع الجيش الروسي (أ.ب)

بوريل: يجب أن تحاسَب روسيا أيا يكن شكل اتفاق السلام مع أوكرانيا

قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الأحد، إن على روسيا أن تحاسَب على جرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
شمال افريقيا رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك (غيتي)

حمدوك يخشى «إبادة جماعية» في السودان على غرار رواندا

حذر رئيس وزراء السودان السابق، عبد الله حمدوك، من انزلاق الوضع في السودان إلى ما هو أسوأ من الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا في تسعينات القرن الماضي.

محمد أمين ياسين (نيروبي)

بوتين يسعى إلى استعادة كورسك قبل تنصيب ترمب

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)
TT

بوتين يسعى إلى استعادة كورسك قبل تنصيب ترمب

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)

تشير التعيينات التي لم تؤكد كلها بعدُ، على الأقل بالنسبة إلى تسمية السيناتور ماركو روبيو لشغل منصب وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، إلى أن ملف الحرب في أوكرانيا قد لا يكون بهذه السوداوية المتوقعة... فـ«هل نفي المحادثة تعبير عن امتعاض روسي؟».

سؤال طُرح على خلفية نفي موسكو المكالمة الهاتفية التي جرت بين ترمب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم الخميس الماضي، وكشفت عنها وسائل إعلام أميركية عدة يوم الاثنين.

ويقول مراقبون إن هذا النفي قد يكون بداية «امتعاض» روسي من احتمال وجود تغيير في «توقعات» موسكو، خصوصاً أن الفريق المشكل لإدارة سياسات واشنطن الخارجية، هو من الصقور الجمهوريين، الذين يتخذون مواقف متشددة من روسيا. ووفق المكالمة، فقد طلب ترمب من بوتين وقف أي تصعيد جديد للحرب، فيما الأخير يستعد لشن هجوم شتوي على كورسك، بعدما نشر 50 ألف جندي روسي وكوري شمالي؛ لاستعادتها من أوكرانيا قبل تسلم ترمب منصبه في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، بما يمكنه من الجلوس إلى طاولة المفاوضات من موقع أقوى، من دون الاضطرار إلى الدخول في مساومات لتبادل الأراضي.

ترمب حتى الساعة لم يصدر تعليقات جديدة حول رؤيته لمستقبل تلك الحرب. لكنه قال مراراً إنه يتمتع بعلاقة جيدة ببوتين. وزُعم أيضاً أنه أخبره بأن الولايات المتحدة ستقصف موسكو إذا حاولت مهاجمة أوكرانيا. وقال إنه يريد مساعدة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

ماركو روبيو (أ.ف.ب)

لكن صحيفة «تلغراف» البريطانية نقلت عن الجنرال أوليكساندر سيرسكي، القائد العسكري الأعلى في أوكرانيا، قوله إن «عشرات الآلاف من جنود العدو» وصلوا لطرد قوات كييف من الجيب الروسي، مما أثار مخاوف الغرب من تصعيد كبير للحرب. ويعتقد حلفاء «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» أن بوتين يأمل استعادة تلك الأراضي التي دخلتها أوكرانيا، قبل تنصيب ترمب. وقال الجنرال سيرسكي إن «عشرات الآلاف من جنود العدو من أفضل الوحدات الروسية كانوا يهاجمون المواقع الأوكرانية»

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب)

تكثيف الهجمات للتأثير على التفاوض

وأظهر تقييم استخباراتي دفاعي بريطاني، اطلعت عليه الصحيفة، أن من المرجح أن تكثف روسيا هجمات الطائرات من دون طيار الانتحارية على المواقع الأوكرانية في الأيام المقبلة، باستخدام مواقع إطلاق جديدة بالقرب من الحدود.

وذكر سلاح الجو الأوكراني، الثلاثاء، أنه أسقط 46 طائرة من أصل 110 طائرات مسيّرة أطلقتها روسيا ليل الاثنين. وأضاف أنه فُقد أثر 60 طائرة مسيرة روسية في المجال الجوي الأوكراني، فيما غادرت اثنتان أخريان باتجاه بيلاروسيا. وقال إن القوات الروسية استخدمت أيضاً 3 صواريخ خلال الهجوم الذي وقع ليلاً، فضلاً عن قنابل جوية موجهة. وقال حاكم منطقة خاركيف، أوليه سينيهوبوف، إن هجوماً وقع في ساعة متأخرة من مساء الاثنين على مدينة خاركيف.

قوات روسية توجه طلقات مدافعها باتجاه مواقع القوات الأوكرانية في كورسك (أ.ب)

بدورها، قالت وزارة الدفاع الروسية، الثلاثاء، إن أنظمة الدفاع الجوي دمرت 13 طائرة مسيّرة أوكرانية خلال الليل. وأضافت الوزارة عبر قناتها على تطبيق «تلغرام» أن جميع الطائرات المسيّرة أسقطت فوق المناطق المتاخمة لأوكرانيا.

كما أدت ضربة روسية إلى «تضرر» سد في شرق أوكرانيا، ما تسبب في ارتفاع كبير بمنسوب مياه أحد الأنهار، وشكل «تهديداً» بحدوث فيضان في الأراضي المجاورة، وفق ما أعلن مسؤول محلي الاثنين. وقال فاديم فيلاشكينفاديم فيلاشكين، عبر «تلغرام»: «ألحق الروس أضراراً بسد خزان كوراخوف».

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيرته الكورية الشمالية تشوي سونغ هي في موسكو (إ.ب.أ)

وأضاف حاكم المنطقة أن «هذا الهجوم قد يهدد سكان المناطق الواقعة على نهر فوفتشا بمنطقتي دونيتسك ودنيبروبتروفسك». وأكد أن منسوب المياه في هذا النهر الواقع قرب قرية فيليكا نوفوسيلكا «ارتفع بمقدار 1.2 متر»، لكن «لم يبلَّغ عن أي فيضان حتى الآن».

ومن المرجح أيضاً أن يشارك نحو 12 ألف جندي كوري شمالي في القتال بمنطقة كورسك، بموجب اتفاقية الدفاع المشترك بين روسيا وكوريا الشمالية التي وقعها البلدان أخيراً.

وصدقت كوريا الشمالية على المعاهدة التي تنص على تقديم مساعدات عسكرية متبادلة، وفقاً لما ذكرته وسائل الإعلام الحكومية في كوريا الشمالية الثلاثاء، في وقت تقول فيه الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وأوكرانيا إن كوريا الشمالية أرسلت آلاف الجنود إلى روسيا لدعم حربها ضد أوكرانيا.

وقال محللون أوكرانيون إن الكرملين قد يهدف أيضاً إلى استخدام أكبر هجوم مضاد له في منطقة كورسك لبناء الزخم والدفع إلى منطقة سومي شمال شرقي أوكرانيا.

زيادة نفوذ أوكرانيا

لم يشرح ترمب حتى الآن بالتفصيل نوع الصفقة التي يعتقد أنها يمكن أن تنهي الحرب، رغم أن الحلفاء قدموا خططاً مختلفة تنطلق من فكرة تجميد خط المواجهة الحالي.

ويقول جون هاردي، الباحث في الشأن الروسي بـ«مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» بواشنطن، المحسوبة على الجمهوريين، إن «أفضل ما يمكن أن يفعله ترمب لتأمين صفقة جيدة هو زيادة نفوذ أوكرانيا». وأضاف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «هذا يعني زيادة المساعدات المقدمة لأوكرانيا، وإزالة القيود المفروضة على الضربات الأوكرانية، وخفض أسعار النفط». وقال إن «أوكرانيا تحتاج إلى أن تكون قادرة على تثبيت خطوطها، ويحتاج بوتين إلى إقناعه بأن مزيداً من القتال لن يكون مفيداً».

جنود من الجيش الروسي يقاتلون ضد الجيش الأوكراني في كورسك (أ.ب)

وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» قد نقلت عن 3 من أعضاء فريق ترمب أن خطته تطرح إقامة منطقة عازلة بعمق 1300 كيلومتر بين روسيا وأوكرانيا تشرف عليها بريطانيا والأوروبيون من دون مساهمة الولايات المتحدة فيها أو تمويلها. كما تقترح تجميد خط المواجهة الحالي حيث هو الآن، وموافقة أوكرانيا على تأجيل طموحها في الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» لمدة 20 عاماً. في المقابل، ستضخ الولايات المتحدة في أوكرانيا أسلحة كاملة لردع روسيا عن إعادة بدء الحرب.

واقترح جيه. دي. فانس، نائب الرئيس المنتخب، في سبتمبر (أيلول) الماضي، أن تتمسك روسيا بمكاسبها الحالية شرطاً للسلام. وقال إن بقية أوكرانيا ستظل دولة مستقلة ذات سيادة، وستحصّن جانبَها من الخط بشكل كبير لمنع هجوم روسي ثانٍ. وفي المقابل، ستحصل روسيا على وعد بالحياد الأوكراني. وقال فانس: «إنها لن تنضم إلى (حلف شمال الأطلسي)، ولن تنضم إلى بعض المؤسسات المتحالفة. أعتقد أن هذا هو الشكل النهائي لهذا الأمر».

تقوية موقف كييف

ويوم الاثنين، أجرى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، في باريس، محادثات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الحرب. وقال بيان من رئاسة الحكومة البريطانية إن البلدين سيحاولان وضع أوكرانيا في «أقوى موقف ممكن قبل الشتاء».

وقال جون هيلي، وزير الدفاع البريطاني، إن ترمب كان «محقاً تماماً» في التحذير من التصعيد وفي أن الولايات المتحدة ستواصل سياسة «الأمن من خلال القوة»، على الرغم من تهديد الرئيس المقبل بقطع المساعدات العسكرية عن أوكرانيا. ويشعر الدبلوماسيون الغربيون بالقلق من أن يحاول بوتين الاستيلاء بسرعة على الأراضي قبل تنصيب ترمب؛ لمنح روسيا مزيداً من القوة التفاوضية في أي محادثات سلام.

جمود روس في منطقة كورسك الروسية عند الحدود مع أوكرانيا (أ.ب)

ونفى الكرملين أن يكون ترمب قد تحدث إلى بوتين، على الرغم من التقارير التفصيلية عن محادثتهما التي ظهرت في وسائل الإعلام الأميركية.

جاء ذلك عشية لقاء ترمب الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض يوم الأربعاء لمناقشة عملية الانتقال. وقال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، إن بايدن سيستغل الاجتماع لحث خليفته على مواصلة الدعم الأميركي لكييف.

وتعهدت إدارة بايدن بصرف الأموال المتبقية لأوكرانيا خلال الأسابيع العشرة المقبلة، والتي كان أقرها الكونغرس؛ بما فيها ما يعادل 4.3 مليار دولار من الأسلحة الأميركية المعاد توجيهها، و2.1 مليار دولار عقوداً جديدة من شركات أميركية.

وقال وزير الدفاع البريطاني لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» أمس: «أتوقع أن تظل الولايات المتحدة إلى جانب حلفائها، مثل المملكة المتحدة، وتقف مع أوكرانيا مهما استغرق الأمر للتغلب على غزو بوتين».