يحل الرئيس الصيني شي جينبينغ، الاثنين، ولمدة يومين، ضيفاً على فرنسا بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين باريس وبكين.
وتحيي هذه الاحتفالية ذكرى مبادرة أطلقها الرئيس الأسبق شارل ديغول خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو من جهة، والحلف الأطلسي من جهة ثانية. ويومها، ثار غضب الغربيين، وفي مقدمتهم الجانب الأميركي، الذين كانوا يغالون في كيل الانتقادات والاتهامات لفرنسا واتهامها بشق الصف الغربي، وتوفير خدمة مجانية للصين الشيوعية. لكن خطوة فرنسا التي أراد منها ديغول إبراز «استقلالية» إزاء الحليف الأميركي، فتحت الباب لاحقاً، وبعد سنوات من التريث لخطوات غربية مماثلة.
انتقادات متجددة
ورغم مرور العقود، ما زال طيف الانتقادات الأميركية ــ الأوروبية ماثلاً. وبرز ذلك مجدداً بمناسبة الزيارة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون (الثالثة من نوعها) إلى بكين، بين 5 و7 أبريل (نيسان) 2023، حيث ذكرت بعض تصريحاته بماضي فرنسا الديغولي. ففي مقابلة مع صحيفة «ليه زيكو» الفرنسية الاقتصادية ومجلة «بوليتيكو» الأميركية، قال ماكرون مبرراً رؤية بلاده للعلاقة مع الصين: «إن أسوأ الأمور اعتقاد أنه يتعين علينا أن نكون تبعيين، وأن نتأقلم مع الخط الأميركي أو ردود الفعل الصينية المغالية».
كذلك، حث ماكرون الأوروبيين الابتعاد عن رؤية واشنطن ورؤية بكين لملف تايوان، وعدم السير وراء الإدارة الأميركية والتمسك بـ«الاستقلالية الاستراتيجية» التي يدافع عنها، ولا يزال منذ انتخابه رئيساً لأول مرة في ربيع عام 2017. وكتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» افتتاحية عنيفة بحق ماكرون، اتهمته فيها بـ«إضعاف الردع الغربي إزاء عدوانية بكين (في الملف التايواني)، ونسف الدعم الأميركي لأوروبا». أما صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، فقد نددت بـ«رخاوة» ماكرون التي «أغاظت عدداً من الحلفاء».
بناء علاقة شخصية
على ضوء هذه الخلفية، يمكن فهم التحديات التي تواجه فرنسا وماكرون بوصفه من يحدد سياسة بلاده الخارجية، إزاء كيفية التعاطي مع المارد الآسيوي واقتصاده المتربع على المرتبة الثانية عالمياً. ووفق مصادر سياسية في باريس، فإن ماكرون يسعى لبناء «علاقة شخصية» مع نظيره الصيني على غرار ما سعى إليه مع الرئيس الروسي فلاديمير بويتين، ولكن من غير نتيجة.
وفي هذا السياق، فإن زيارة الدولة التي يقوم شي جينببنغ إلى فرنسا، وهي الأرقى في السلم البروتوكولي، تنقسم إلى قسمين: الأول، في باريس حيث يلتقي الرئيسان في قصر الإليزيه، ثم تنضم إليهما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لقمة ثلاثية بحيث يعطي ماكرون اللقاء بعداً أوروبياً جماعياً.
وسبق لماكرون أن طلب من فون دير لاين مرافقته إلى بكين، العام الماضي. وينتهي اليوم الأول من الزيارة بـ«عشاء دولة: في قصر الإليزيه بحضور كبار الشخصيات الفرنسية وشخصيات صينية».
والقسم الثاني من الزيارة سيدور في جبال البيرينه، وهي الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا؛ حيث دعا الرئيس الفرنسي ضيفه إلى منطقة أمضى فيها كثيراً من أوقاته وتحديداً في بلدة «مونجي»؛ حيث كانت جدته تقيم قريباً منها. ويريد ماكرون أن يرد التحية بأجمل منها، حيث إن شي جينبينغ دعا ماكرون وزوجته بريجيت إلى إقليم كانتون لحفل احتساء الشاي في مقر حاكم منطقة غواندونغ، حيث كان والد الرئيس الصيني يشغل منصباً رفيعاً بوصفه موظفاً حكومياً.
توقعات متواضعة
كثيرون يشكون في ذلك، ولا ينتظرون الكثير من هذه الزيارة التي تأتي في مرحلة يتكاثر فيها التواصل الدبلوماسي مع الصين، فالمستشار الألماني أولاف شولتس زارها منتصف الشهر الماضي. ووزير الخارجية الأميركي التقى جينبينغ في بكين الأسبوع الفائت. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيتأهب لزيارة بكين في إطار سعي موسكو لتعزيز علاقاتها متعددة الأبعاد مع الصين على خلفية تواصل الحرب في أوكرانيا، وحاجتها للحليف الصيني سياسياً واقتصادياً، وثمة من يقول أيضاً عسكرياً.
التحدي الأول الذي يواجهه ماكرون عنوانه تحديداً الحرب الأوكرانية. واستبق وصول جينبينغ اتصالات مع حلفائه الأوروبيين خصوصاً شولتس للتشاور معه حول هذا الملف والملفات الأخرى الاقتصادية. وقالت مصادر قصر الإليزيه، في تقديمها للزيارة، إن محادثات الطرفين «ستتناول، في المصاف الأول، الأزمات الدولية وأولها الحرب في أوكرانيا والوضع في الشرق الأوسط والمسائل التجارية والتعاون العلمي والثقافي والرياضي، وما يسمى الملفات الشاملة مثل التغير المناخي، وحماية التنوع البيولوجي والوضع المالي للدول الأكثر هشاشة».
وأشارت المصادر الرئاسية إلى أن الصين أحد أهم شركاء روسيا دبلوماسياً وتجارياً؛ ولذا فإن ماكرون «سيسعى لتشجيعه من أجل استخدام هذه الأوراق للضغط على موسكو حتى تغير حساباتها (في أوكرانيا)، ولتسهم الصين في إيجاد حلول لهذه الحرب». وسبق لماكرون، العام الماضي، أن دعا الرئيس الصيني «لحث روسيا على تحكيم العقل» و«الدفع باتجاه لمّ الجميع حول طاولة المفاوضات». ومؤخراً، طالب شولتس بكين بإقناع موسكو من أجل «التخلي عن حملتها العسكرية (على أوكرانيا) غير المفهومة»، مؤكداً دعم برلين وبكين المشترك لمؤتمر السلام الكبير الذي ستستضيفه سويسرا، ولكن من غير موسكو التي لم تدع إليه. وفي بادرة تدل على تحول في مقاربة واشنطن للعلاقة المتوترة مع بكين، وعلى مسافة قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية، دعا بلينكن إلى أن «تتحول الولايات المتحدة والصين إلى شريكتين بدل أن تكونا غريمتين».
حرب أوكرانيا
لا يعوِّل كثيرون على نجاح ماكرون في دفع نظيره الصيني إلى تغيير مقاربته للحرب في أوكرانيا؛ فهذا المطلب ليس جديداً، وكان على لائحة محادثاته مع جينبينغ، العام الماضي وقبله، سواء خلال زيارته للصين أم خلال قمة العشرين التي التأمت في الهند. والرؤية الغربية أن الصين هي «البلد الوحيد القادر على التأثير على الرئيس بوتين». والحال أن بكين لم تقم مطلقاً بإدانة الغزوة الروسي، إلا أنها تدعو دوما إلى حل الخلاف من خلال المفاوضات، وطرحت خطة سلام بقيت في الأدراج.
بيد أن الضغوط على بكين أفضت إلى نتيجتين هامشيتين: الأولى، حصول اتصال هاتفي العام الماضي، الأول من نوعه بين جينبينغ وزيلينسكي. والثانية، قيام ممثل خاص للرئيس الصيني بجولة دبلوماسية تضمنت المحطتين الروسية والأوكرانية.
ليست أوكرانيا بند الخلاف الوحيد بين الطرفين الذي يتعين تخطيه، فهناك، إلى جانبه، ملف حقوق الإنسان في الصين الذي تثيره الجمعيات المدافعة عن حقوق الأقليات الطالبة بدولة القانون. ومن بين الأقليات الإثنية هناك بشكل خاص الأويغور المسلمين وسكان التبت، والضغوط التي تمارسها بكين على هونغ كونغ من أجل كتم الأصوات التي ما زالت تعارض سيطرة بكين عليها، ناهيك عن ملف تايوان التي تريد بكين إعادتها إلى حضن الصين، بالقوة إذا لزم الأمر.
وإزاء هذه المسائل، يسير ماكرون على حبل مشدود بسبب وصعوبة التوفيق بين تجنب إحراج الضيف الصيني حول هذه المسائل من جهة، والاستجابة للضغوط التي تمارسها العديد من الجمعيات التي تطالبه بأن يثير مسائل حقوق الإنسان مع ضيفه.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى المخاوف التي تثيرها الصين في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ كخلافاتها مع كوريا الجنوبية والفلبين... وتعمل واشنطن على بناء تحالفات عسكرية لتطويقها سواء أكان ذلك في إطار «تحالف أوكوس» الذي يضم أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، أو دفع الهند لتكون القوة القادرة على الوقف بوجه الصين أو التحالف مع اليابان وكوريا الجنوبية.
بيد أن باريس لا تريد أن تكون طرفاً في هذه التحالفات، ولا تريد لأوروبا أن تكون رديفاً للسياسة الأميركية في المنطقة، ثم إن الميزانية العسكرية الصينية التي ترتفع من عام إلى عام تثير بدورها المخاوف من عسكرة الصين ومن طموحاتها المستقبلية.
الحرب التجارية
في الأشهر الأخيرة، تكاثرت الشكاوى من هجمات سيبرانية مصدرها الصين على شركات ومؤسسات أوروبية. بيد أن ما يحدث بعيدٌ كثيراً عما ينسبه الأوروبيون إلى «قراصنة» الإنترنت الروس. ولا تقاس هذه المسألة بما يعانيه الأوروبيون من الممارسات الحمائية الصينية لجهة إقفال أسواقهم وعقودهم المبرمة مع الدولة أو السلطات المحلية بوجه الشركات الأوروبية.
لذا، فقد فتح الاتحاد الأوروبي في 24 أبريل تحقيقاً حول «الممارسات التمييزية». وجاء في بيان صادر عنه، أن «السوق الصينية الخاصة بالأدوات الطبية (على سبيل المثال) أغلقت تدريجياً بوجه الشركات الأوروبية والأجنبية وبوجه المنتجات الأوروبية». وهذا التحقيق هو الأول من نوعه الذي تجريه المفوضية الأوروبية بحق الصين ما يدل على تدهور العلاقات التجارية بين الطرفين. وتبين دراسة صينية نشرت العام الماضي أن طموح الحكومة هو تخصيص 85 في المائة من العقود الخاصة بالقطاع الطبي والصحي إلى الشركات الصينية وترك الفتات للآخرين.
بيد أن الأوروبيين لا يتورعون عن اتباع السياسة نفسها. ففي فرنسا مثلاً، قررت الحكومة، بغرض تفضيل شركات صناعة السيارات لديها، حجب المساعدة الحكومية عن السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين والأرخص ثمناً لصالح السيارات الكهربائية للشركات الفرنسية والأوروبية. وخلال شهر فبراير (شباط) الماضي، اضطرت الشركة الصينية المتخصصة بصناعة القطارات الكهربائية إلى سحب عرضها لتلبية طلب بلغاريا من هذه القطارات؛ لأن المفوضية الأوروبية اتهمتها بالاستفادة من الدعم الحكومي الصيني؛ ما من شأنه أن يزعزع أسس المنافسة الشريفة بين الشركات.
هذا غيض من فيض الخلافات الاقتصادية بين الصين وأوروبا، وبينها فرنسا، والتي تعوق تطور العلاقات بين الطرفين، فضلاً عن خلافاتهما السياسية والاستراتيجية.