يذهب أكثر من 100 مليون مكسيكي، الأحد، إلى صناديق الاقتراع، في انتخابات رئاسية وتشريعية تاريخية على أكثر من صعيد؛ فمن جهة، وبعد مائتي عام من الاستقلال، ستتولى امرأة رئاسة الجمهورية للمرة الأولى؛ إذ تنحصر المنافسة على المنصب بين مرشحتين. ومن جهة أخرى، ستكون هذه الانتخابات فرصة لترسيخ النظام الديمقراطي الذي تعرَّض لأكثر من انتكاسة واهتزاز في السنوات الماضية، بسبب من جنوح الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم نحو السلوك الاستبدادي، وسقوط العديد من مؤسسات الدولة تحت نفوذ المنظمات الإجرامية وتأثيرها.
كما تُعدّ هذه الانتخابات الأكثر دموية في تاريخ المكسيك الحديث، بعد مقتل 37 مرشحاً في سلسلة اغتيالات، آخرها مقتل مرشح لمنصب محلي في ولاية بويبلا بوسط البلاد، الجمعة، خلال تجمع انتخابي.
تُجمع الاستطلاعات على أن الفوز سيكون معقوداً لمرشحة الحزب الشعبوي الحاكم، كلاوديا شاينباوم، بفارق كبير عن مرشحة المعارضة اليمينية، غوشيتل غالفيز، التي تدعمها كتلة الأحزاب التقليدية، وفي طليعتها الحزب المؤسسي الثوري الذي هبطت شعبيته بعد استئثاره بالحكم طيلة عقود.
لكن فيما تبدو نتيجة المنافسة الرئاسية محسومة، يبقى باب المفاجآت مفتوحاً على الجبهات الأخرى: هل ستحصل الفائزة على الأغلبية الكافية لإعطاء فوزها شرعية، خصوصاً وسط شكوك تحوم حول تحريض الرئيس الحالي، وعرَّابها، على أعمال العنف التي قامت بها المنظمات الإجرامية خلال الحملة الانتخابية؟ هل سينسحب فوزها على نصر موازٍ يعطيها الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب ويحررها من كابوس التفاوض مع أحزاب المعارضة لتنفيذ برنامجها؟ وهل سيفوز الحزب الحاكم برئاسة بلدية العاصمة مكسيكو، الذي يُعتبر ثاني أهم المناصب السياسية في المكسيك بعد رئاسة الجمهورية؟ إلى جانب ذلك، يبقى اللغز الأكبر: ماذا سيكون مصير الحزب الحاكم الذي ليس في الواقع سوى تيار سياسي واجتماعي تأسس حول زعامة فردية غير مألوفة في شخص الرئيس الحالي مانويل لوبيز أوبرادور؟
«الفقراء أولاً»
في عام 2018، فاز أوبرادور بنسبة 53 في المائة من الأصوات مُلحِقاً هزيمة قاسية بالحزبين اللذين توالَيَا على الحكم في العقود السابقة، بحصوله على أغلبية مريحة في مجلسَيْ الشيوخ والنواب. وعلى مر السنوات الست التالية، طور أسلوباً شعبوياً في الحكم تحت شعار «الفقراء أولاً» يصعب تصنيفه حتى بالمعايير الأميركية اللاتينية.
ونجح، بفضل مجموعة من البرامج الاجتماعية والسياسات العامة والتدابير الاقتصادية المحافظة، في زيادة القوة الشرائية للفقراء، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وسعر صرف العملة الوطنية، وإرساء قواعد نظام يهدف إلى توزيع الثروة، من غير أن يكون على حساب الأثرياء، لكن من خزانة الدولة والوفورات الناجمة عن الإجراءات التقشفية.
هذه السياسة أثمرت قاعدة شعبية واسعة مكَّنت أوبرادور من تجاوز الفضائح والانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها تلك التي تسبَّبت بها الجائحة، ومنصة وطيدة تنطلق منها شاينباوم كمرشحة اختارها الرئيس الحالي لإكمال مشروعه الذي سمح له بأن يصل إلى نهاية ولايته بتأييد شعبي يزيد على 60 في المائة.
لكنَّ ثمة شكوكاً حول قدرة هذا النموذج الاقتصادي الاجتماعي على الاستمرار، وأيضاً حول قدرة شاينباوم على الإمساك بزمام التيار الذي تشكل شخصية أوبرادور القطب الأوحد لتلاقي روافده.
هزيمة مدوية
الأحزاب المعارضة للتيار الحاكم عزت هزيمتها المدوية في عام 2018 إلى أسلوب أوبرادور «الديماغوجي»، وتذَّرعت بذلك كي لا تواجه الرفض الشعبي الواسع، وتجري الإصلاحات اللازمة، وتجدد برنامجها بطروحات جديدة لاستيعاب هذا الرفض واستعادة شعبيتها.
واكتفت المعارضة طيلة ست سنوات بانتقاد النظام وكشف الفضائح التي طالت أعوان الرئيس والمقربين منه، وعدم كفاءة حكومته لمعالجة المشكلات الأساسية. لكن تبيَّن أن هذه الحملة التي جندت لها المعارضة موارد هائلة، لم تنل من شعبية أوبرادور، واضطرتها إلى اختيار مرشحة رئاسية من خارج الحزبين الرئيسيين، لأنها تملك قاعدة شعبية ذاتية، علماً بأن أصولها ومسارها السياسي أقرب إلى الطروحات اليسارية التي يرفعها التيار الحاكم. لكن غالفيز لا تتمتع بتأييد أكثر من 30 في المائة من الناخبين، مقابل 54 في المائة لشاينباوم، وفقاً لجميع الاستطلاعات.
حسابات انتخابية
وحدَها الحسابات الانتخابية الصِّرفة هي التي وضعت امرأتين في الصف الأمامي للتنافس على الرئاسة، لأول مرة في تاريخ المكسيك، التي تحتل المركز الأول في أميركا اللاتينية من حيث تعرُّض النساء للعنف. الرئيس الحالي، الذي يملك صلاحية اختيار خلفه لزعامة الحزب مرشحاً لولاية ثانية في نظام يمنع تجديد الولاية الرئاسية، لا يملك خياراً أضمن من شاينباوم لمواصلة ممارسة نفوذه خلف الستار بعد انتهاء ولايته. أما المعارضة، فلم تجد أفضل من غالفيز للتوافق حولها بوصفها مرشحة تحميها من هزيمة نكراء أخرى.
لكن إذا كان وصول امرأة لأول مرة إلى سدة الرئاسة، وانضمام المكسيك إلى نادي البلدان الأميركية اللاتينية التي ترأسها نساء هو العلامة الفارقة في هذه الانتخابات التي ستكون نتيجتها بمثابة تمديد لولاية الرئيس الحالي، تبقى مشكلة العنف التحدي الأكبر الذي يواجه المكسيك والتهديد الأخطر لمؤسساتها الديمقراطية، بعد أن بلغ عدد القتلى الذين وقعوا ضحية الإجرام المنظَّم خلال ولاية أوبرادور 175 ألفاً، أي بمعدل 80 قتيلاً كل يوم.