ماذا تعني نتيجة الانتخابات الأميركية للكثير من الدول الأفريقية؟

كاميرون هدسون: ستنشط لتنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية والأمنية بعيداً عن واشنطن وأكثر قرباً من الصين

المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دونالد ترمب ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس (رويترز)
المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دونالد ترمب ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس (رويترز)
TT

ماذا تعني نتيجة الانتخابات الأميركية للكثير من الدول الأفريقية؟

المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دونالد ترمب ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس (رويترز)
المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دونالد ترمب ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس (رويترز)

إذا كانت الانتخابات الرئاسية الأميركية تؤثر في أغلب مناطق العالم التي تتابعها باهتمام، فإنها ظلت تاريخياً غير مؤثرة ولا مهمة بالنسبة لدول أفريقيا بسبب الثبات النسبي للسياسة الأميركية تجاه هذه القارة، بغض النظر عن هوية الرئيس الأميركي أو الحزب صاحب الأغلبية في الكونغرس.

منذ إدارة الرئيس الأسبق الديمقراطي بيل كلينتون، تبنت الولايات المتحدة سياسة أفريقية تعتمد على الدخول في برامج تنموية والحديث الطموح عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع التوسع في الشراكات الأمنية والدفاعية في ظل تزايد خطر الجماعات المتطرفة بأغلب مناطق القارة، وظلت هذه السياسة الأميركية مستقرة رغم تعاقب الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على الحكم.

بايدن في اتصال هاتفي مع نتنياهو في 4 أبريل 2024 (رويترز)

وفي تحليل نشره موقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، يقول كاميرون هدسون، وهو زميل باحث كبير في برنامج أفريقيا بالمركز، إن الأمور تغيرت كثيراً بالنسبة لانتخابات الرئاسة الأميركية الحالية في ظل سلسلة الصدمات الأميركية والعالمية؛ بدءاً من جائحة فيروس «كورونا» المستجد، وحتى الاحتجاجات على مقتل المواطن الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد شرطي أميركي أبيض، مروراً بالحرب في أوكرانيا وغزة.

في الوقت نفسه، فإن الاستقطاب السياسي العميق والمتزايد في الولايات المتحدة نسف حتى نقاط التوافق الحزبي التقليدية في السياسة الأميركية، ومنها السياسة تجاه أفريقيا. لذلك فطبيعة معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة يوم 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ونتيجتها ستحدد بلا شك النظرة إلى واشنطن، وستؤثر على مجموعة كبيرة من القضايا، ليس فقط التي تهم أفريقيا بشكل مباشر، وإنما التي ستؤثر في مصداقية الولايات المتحدة لدى القارة خلال السنوات المقبلة.

ورغم ذلك من المؤكد أن الأفارقة اليوم غير مشغولين كثيراً بما قد تعنيه أي إدارة أميركية جديدة بالنسبة لهم.

بعد تجربة الرئيس الأسبق باراك أوباما لم يعد الأفارقة يعتقدون أن أي شخص في البيت الأبيض قد يؤثر بشكل ملموس في تحسين أحوالهم (إ.ب.أ)

فبعد تجربة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لم يعد الأفارقة يعتقدون أن أي شخص في البيت الأبيض قد يؤثر بشكل ملموس في تحسين أحوالهم. فقد تبددت بسرعة فكرة أن وجود رئيس أميركي من أصول أفريقية يمكن أن يزيد بطريقة أو بأخرى الاهتمام بالقارة، حيث لم تبتعد إدارة أوباما كثيراً عن السياسة التقليدية الأميركية تجاه أفريقيا، والتي تقوم على الحديث كثيراً عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين تسعى إلى تحقيق مصالح الأمن القومي الأميركي التي كثيراً ما كانت تتعارض مع هذه القيم المعلنة.

ورغم وعود إدارة الرئيس الحالي جو بايدن بمنح الدول الأفريقية نصيباً أكبر في عمليات صناعة القرار بشأن القضايا العالمية وفي المؤسسات الدولية، فإنها لم تحقق شيئاً من هذا على أرض الواقع. فما زالت قارة أفريقيا لا تشغل مقعداً دائماً في مجلس الأمن بعد مرور عامين على وعد الإدارة الأميركية بمنحها هذا المقعد، في حين أن التحركات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة للتعامل مع مشكلة التغير المناخي والتمويل التنموي وتنافس القوى العالمية، ما زالت تصب في صالح عالم الشمال.

ولم يؤد إفراط إدارة بايدن في الوعود لأفريقيا دون الوفاء بها إلا إلى تعزيز الاعتقاد بأن واشنطن شريك غير جدير بالثقة، بل ربما منافق. في المقابل لم يفعل المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترمب ولا منافسته نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، اللذان تجاهلا أفريقيا على مدار حملتيهما، أي شيء لإعطاء الأفارقة الانطباع بأن إدارتيهما ستكونان مختلفتين بشكل ملحوظ عن الإدارات السابقة.

زعماء مالي وبوركينا فاسو والنيجر خلال قمتهم الأولى التي عقدت في نيامي 6 يوليو الماضي (أرشيفية - رويترز)

في ظل هذه الظروف، تنشط الدول الأفريقية لتنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، بعيداً عن واشنطن على مدى العقد الماضي، مما يتعارض أحياناً مع المصالح الأميركية. وقد أصبحت الصين حالياً، كما يقول التحليل الذي نشرته «الوكالة الألمانية»، أكبر شريك تجاري واستثماري لأفريقيا. كما أصبحت دول مثل روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة شركاء أمنيين مفضلين للدول الأفريقية التي تبحث عن مساعدات عسكرية غير مشروطة. هذا التحوط ضد عدم موثوقية الولايات المتحدة لا يجعل نتيجة أي انتخابات رئاسية أقل أهمية لأفريقيا فحسب، بل يجعل أيضاً من الصعب على أي إدارة قادمة تعميق العلاقات مع هذه القارة.

والحقيقة هي أنه لا يمكن تصور وجود اختلاف كبير في السياسة الأميركية تجاه أفريقيا إذا فازت هاريس أو ترمب. فبشكل عام يمكن أن تتوقع أفريقيا استمرار النهج الأساسي لواشنطن تجاهها، من خلال عدد محدود من المبادرات التنموية والإنسانية الأساسية، لكن دون تغيير حقيقي في الممارسات الأميركية، ولا الطريقة التي ترتب بها أفريقيا في قائمة الأولويات العالمية للولايات المتحدة.

العلم الصيني يرفرف فوق مكان انعقاد المنتدى الصيني - الأفريقي في بكين

ليس هذا فحسب، بل إن احتمال وصول مرشح ثان من أصول أفريقية؛ أي: كامالا هاريس، إلى رئاسة الولايات المتحدة لم يثر اهتمام الأفارقة كما حدث عندما كان أوباما يخوض السباق الرئاسي، بعد أن تعلموا أنه يجب عدم توقع الكثير من واشنطن مهما كانت أصول الرئيس.

ورغم ذلك، فمن المرجح إبقاء إدارة هاريس على استراتيجية بايدن تجاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الصادرة عام 2022، والتي تستهدف رفع صوت أفريقيا في المؤسسات العالمية وفي صنع القرار الأميركي بشأن المسائل السياسية التي تؤثر في القارة بشكل مباشر، وقد رأت هاريس بنفسها أهمية هذا الهدف عندما سافرت إلى غانا وتنزانيا وزامبيا في مارس (آذار) 2023؛ «لتسليط الضوء على الإبداع الاستثنائي والإبداع والديناميكية في القارة وتعزيزها».

لكن هاريس وقعت أيضاً في الفخ السهل بمحاولة تصوير المشكلات المستمرة التي تواجهها أفريقيا بوصفها مسؤولية الصين بصورة أو بأخرى، وتقديم الولايات المتحدة بصفتها قوة خيرية تسعى من أجل خير وصالح الدول الأفريقية. وهذا النهج الأميركي لا يؤدي إلا إلى زيادة انصراف دول القارة عن واشنطن والشك في نواياها.

في الوقت نفسه، فإن «مبدأ الظل» الذي أطلقه ترمب تحت اسم «مشروع 2025»، يستعين بعناصر كاملة من استراتيجية بايدن ذاتها تجاه أفريقيا، حيث يزعم، على سبيل المثال، أن «النمو السكاني الهائل في أفريقيا، والاحتياطيات الكبيرة من المعادن المعتمدة على الصناعة، والقرب من طرق الشحن البحري الرئيسية، وقوتها الدبلوماسية الجماعية تضمن الأهمية العالمية للقارة».

وهذا يشير إلى أن فريق ترمب يدرك على الأقل الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا على المدى الطويل، تماماً كما فعل بايدن. والأمر الأكثر أهمية هو أن فريق ترمب ربما ينظر إلى أفريقيا بوصفها قوة مهمة وليست مجرد مكون أصغر في الصراع الجيوسياسي الأكبر للولايات المتحدة مع الصين أو روسيا، كما فعل خلال فترة ولايته الأولى في منصبه، مما أثار استياء العديد من دول القارة. وسوف يكون الاختبار الأكبر لإدارة ترمب الثانية المحتملة هو ما إذا كان قادراً على مواصلة التعبير عن القيمة المتأصلة لأفريقيا بالنسبة للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، أو ما إذا كان سيعود إلى أنواع التعبيرات غير المكترثة التي ميزت ولايته الأولى في المنصب.

الرئيس الصيني شي جينبينغ ونظيراه البرازيلي لولا دا سيلفا والجنوب أفريقي سيريل رامافوزا ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي خلال قمة «بريكس» أغسطس 2023 (أ.ف.ب)

ورغم ذلك يمكن أن يكون الفارق الأكبر بشكل عام بين هاريس وترمب بالنسبة لأفريقيا في الشكل أكثر من المضمون. فما زالت اللغة المهينة التي كان ترمب يستخدمها في رئاسته السابقة تثير سخط الكثير من الأفارقة، ولكن بعضهم يرى الآن أن هذا تعبير صريح عن المكانة المتواضعة التي تحتلها أفريقيا لدى صناع القرار في واشنطن. وبقدر قسوة هذه الحقيقة، فإن التعبير عنها بوضوح يحدد مستوى التوقعات التي يمكن للقادة الأفارقة انتظارها من واشنطن، ويحمّلهم مسؤولية تحقيق مصالح شعوبهم بعيداً عن واشنطن، وهو ما يتضح بالفعل من دخولهم في شراكات أمنية واقتصادية ومالية مع دول عديدة.

أيضاً، على الرغم من أن نهج ترمب الذي يتعامل مع أغلب الأمور بمنطق البيع والشراء قد يبدو مقززاً لكثيرين في مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، فإن بعض القادة الأفارقة قد يعدّونه طريقة أكثر مباشرة وشفافية في إدارة العلاقات، ويعكس طريقة إدارة الكثيرين منهم للعلاقات مع شركائهم الآخرين. كما أن نهج ترمب الذي يركز على الجوانب الاقتصادية والمصالح المباشرة يمكن أن يفتح الباب أمام شكل من أشكال العلاقة بين الأنداد، وهو تحديداً ما يقول كثير من القادة الأفارقة إنهم يسعون إليه في علاقاتهم مع العالم.

الرئيس الصيني شي جينبينغ في أثناء خطابه خلال المنتدى الصيني - الأفريقي في بكين (أ.ف.ب)

أخيراً، فإن الحكومة الأميركية المقبلة سيكون عليها إدراك حقيقة أن علاقاتها مع الدول الأفريقية تأثرت سلباً بدعمها غير المشروط لإسرائيل في حربها ضد غزة ولبنان، في الوقت الذي يتزايد فيه تعاطف الدول الأفريقية مع القضية الفلسطينية. كما أن الدول الأفريقية تنظر بعدم ارتياح إلى الدعم الأميركي المستمر لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وهي الحرب التي أدى استمرارها إلى معاناة الكثير من شعوب القارة من ارتفاع أسعار العديد من السلع الأساسية في السوق العالمية. معنى ذلك أن الدول الأفريقية لا تتوقع الكثير من انتخابات الرئاسة الأميركية، في حين قد يحتاج الرئيس الجديد إلى بذل جهد أكبر لترميم صورة واشنطن لدى هذه الدول.


مقالات ذات صلة

فانس وروبيو «خليفتا» ترمب يتوليان «إعادة هندسة» الحزب الجمهوري قبل 2028

خاص نائب الرئيس الأميركي يعانق وزير الخارجية وإلى جانبهما مؤسس «أميركان كومباس» خلال حفل في المتحف الوطني للبناء (أ.ف.ب)

فانس وروبيو «خليفتا» ترمب يتوليان «إعادة هندسة» الحزب الجمهوري قبل 2028

بدا احتفال ذكرى تأسيس «أميركان كومباس» بمثابة تمهيد لانتخابات 2028، حيث تولى نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو «إعادة هندسة» الحزب الجمهوري.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ دونالد ترمب (رويترز)

«رئيساً للأبد»... ترمب ينشر فيديو يظهر بقاءه في الحكم لما بعد ولايته الثانية

نشر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الخميس، مقطع فيديو عبر منصة «تروث سوشيال»، يظهر فيه، بشكل افتراضي على غلاف مجلة «تايم»، فوزه بعدد لا نهائي من الانتخابات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي حينها جو بايدن يلقي كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك... 24 سبتمبر 2024 (رويترز)

بايدن: التحيز على أساس الجنس والعنصرية ساهما في خسارة هاريس الانتخابات الرئاسية

عزا الرئيس الأميركي السابق جو بايدن خسارة كامالا هاريس، جزئيا على الأقل، إلى التحيز على أساس الجنس والعنصرية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق جو بايدن (رويترز)

كتاب جديد: فريق بايدن ناقش إخضاعه لاختبار إدراكي قبل تنحيه عن الانتخابات

كشف كتاب جديد أن كبار مساعدي الرئيس الأميركي السابق جو بايدن درسوا بجدية فكرة إخضاعه لاختبار إدراكي، العام الماضي، استعداداً لإعادة ترشحه للانتخابات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ نائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس (رويترز) play-circle

«صدّقت الضجة الإعلامية»... كامالا هاريس «صُدمت تماماً» من الخسارة أمام ترمب

صُدمت نائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس من هزيمتها أمام الرئيس دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد أن «صدقت» الضجة الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

منطقة الساحل تُعد الأكثر دموية على وجه الأرض

أنهت مجموعة «فاغنر» دورها رسمياً وغادرت مالي حيث كانت تنشط منذ عام 2021 على أن يجري دمج مجموعاتها ضمن «فيلق أفريقيا» المرتبط بروسيا (أرشيفية - متداولة)
أنهت مجموعة «فاغنر» دورها رسمياً وغادرت مالي حيث كانت تنشط منذ عام 2021 على أن يجري دمج مجموعاتها ضمن «فيلق أفريقيا» المرتبط بروسيا (أرشيفية - متداولة)
TT

منطقة الساحل تُعد الأكثر دموية على وجه الأرض

أنهت مجموعة «فاغنر» دورها رسمياً وغادرت مالي حيث كانت تنشط منذ عام 2021 على أن يجري دمج مجموعاتها ضمن «فيلق أفريقيا» المرتبط بروسيا (أرشيفية - متداولة)
أنهت مجموعة «فاغنر» دورها رسمياً وغادرت مالي حيث كانت تنشط منذ عام 2021 على أن يجري دمج مجموعاتها ضمن «فيلق أفريقيا» المرتبط بروسيا (أرشيفية - متداولة)

طُلب من المحكمة الجنائية الدولية مراجعة مذكرة قانونية سرية تجادل بأن مجموعة «فاغنر» المرتبطة بروسيا ارتكبت جرائم حرب من خلال نشر صور لفظائع مزعومة في غرب أفريقيا على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك صور توحي بأعمال أكل لحوم البشر.

وصل العنف في منطقة الساحل، وهي شريط من الأراضي القاحلة جنوب الصحراء الكبرى، إلى مستويات قياسية بينما تقاتل الحكومات العسكرية جماعات متطرفة مرتبطة بتنظيمي «القاعدة» و«داعش». وفي العام الماضي، أصبحت هذه المنطقة الأكثر دموية على وجه الأرض من حيث التطرف، حيث قُتل نصف ضحايا التطرف البالغ عددهم نحو 8000 شخص في هذه المنطقة، وفقاً لبيانات سنوية أعدها «معهد الاقتصاد والسلام».

وبينما تنسحب الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى من المنطقة، استغلت روسيا الوضع لتوسيع التعاون العسكري مع عدة دول أفريقية عبر مجموعة «فاغنر»، وهي شركة أمنية خاصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستخبارات والجيش الروسي، وفق ما ذكرت وكالة «أسوشييتد برس».

ويقول المراقبون إن هذا النهج الجديد أدى إلى نوع من الفظائع وتجريد البشر من إنسانيتهم لم تشهده المنطقة منذ عقود. وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي نافذة على هذه الفظائع المزعومة التي غالباً ما تحدث في مناطق نائية تفتقر إلى الرقابة الحكومية أو الدولية.

ويقول الخبراء إن هذه الصور، رغم صعوبة التحقق منها، يمكن أن تُستخدم أدلة على ارتكاب جرائم حرب. وتذهب المذكرة السرية المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية إلى أبعد من ذلك، حيث تجادل بأن مجرد نشر هذه الصور على وسائل التواصل الاجتماعي قد يشكل في حد ذاته جريمة حرب. وهذه أول مرة يتم فيها تقديم مثل هذا الطرح إلى المحكمة الدولية.

فيديوهات تجرّد من الإنسانية

عناصر لـ«داعش» في منطقة الساحل الأفريقي (أرشيفية - أ.ف.ب)

تُظهر المذكرة، إلى جانب تقارير وكالة «أسوشييتد برس» حول هذه القضية، أن شبكة من قنوات التواصل الاجتماعي، يُرجح أنها يدير ها أفراد حاليون أو سابقون من «فاغنر»، قد أعادت نشر محتوى تزعم هذه القنوات أنه من مقاتلي «فاغنر». وتروّج هذه القنوات لفيديوهات وصور تبدو أنها تُظهر انتهاكات من رجال مسلحين يرتدون الزي العسكري، وغالباً ما تكون مصحوبة بلغة ساخرة أو مهينة.

في هذه الفيديوهات، يظهر رجال بالزي العسكري وهم يقطعون جثثاً يُعتقد أنها لمدنيين باستخدام المناجل، ويستخرجون الأعضاء ويتصورون مع أطراف مبتورة. ويقول أحد المقاتلين إنه على وشك أن يأكل كبد شخص ما. ويقول آخر إنه يحاول نزع قلبه.

ورغم أن مديري هذه القنوات مجهولو الهوية، فإن محللي المصادر المفتوحة يعتقدون أنهم مقاتلون حاليون أو سابقون في «فاغنر»، استناداً إلى نوعية المحتوى والرسومات المستخدمة، بما في ذلك شعار «فاغنر» في بعض الحالات.

وقد أكّدت تحليلات وكالة «أسوشييتد برس» أن الأعضاء الظاهرة في الفيديوهات حقيقية، وكذلك الأزياء العسكرية المستخدمة.

وتستهدف هذه الفيديوهات والصور، التي تُنشر بمزيج من اللغة الفرنسية واللغات المحلية، إذلال وتهديد من يُعدون أعداءً لـ«فاغنر» وحلفائها العسكريين المحليين، إلى جانب المجتمعات المدنية التي يتعرض شبابها لضغوط للانضمام إلى الجماعات المتطرفة. لكن الخبراء يقولون إن تأثير هذه المواد غالباً ما يكون عكسياً، حيث تؤدي إلى هجمات انتقامية وتزيد من تجنيد الجهاديين.

وقد أدانت حكومتا مالي وبوركينا فاسو في وقت سابق هذه الفيديوهات البشعة وقالتا إنهما ستحققان في الأمر، لكن من غير الواضح ما إذا كان قد تم التعرف على أي من الأشخاص الظاهرين فيها.

استمرار الوجود الروسي

أرشيفية لعنصرين من «فاغنر» في مالي (متداولة)

وصفت وزارة الخارجية الأميركية مجموعة «فاغنر»، وهي شبكة من المرتزقة والشركات، بأنها «منظمة إجرامية عابرة للحدود».

ومنذ مقتل زعيمها، يفغيني بريغوجين، في حادث تحطم طائرة عام 2023، تطور موسكو منظمة جديدة باسم «فيلق أفريقيا» كقوة منافسة تحت قيادة مباشرة من السلطات الروسية.

وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت «فاغنر» انسحابها من مالي عبر منشور على منصة «تلغرام» جاء فيه: «المهمة أُنجزت». وفي منشور منفصل على نفس المنصة، قالت «فيلق أفريقيا» باقٍ. وفي مالي، يُقاتل نحو 2000 من المرتزقة الروس إلى جانب القوات المسلحة المحلية، حسب مسؤولين أميركيين. ومن غير الواضح عدد المنتمين إلى «فاغنر »وعدد المنضمين إلى «فيلق أفريقيا».

انتهاكات للكرامة الشخصية

مقاتلون من تنظيم «القاعدة» في مالي (إعلام محلي)

وبموجب نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، يُعد انتهاك الكرامة الشخصية، خصوصاً من خلال المعاملة المهينة والحاطّة من الكرامة، جريمة حرب. ويجادل خبراء قانونيون من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، الذين قدموا المذكرة إلى المحكمة العام الماضي، بأن هذه المعاملة قد تشمل استغلال «فاغنر» المزعوم وسائل التواصل الاجتماعي سلاحاً.

وقد قُدمت المذكرة إلى المحكمة قبل أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة في وقت سابق من هذا العام. وتطلب المذكرة من المحكمة التحقيق مع أفراد من «فاغنر» وحكومتي مالي وروسيا بشأن الانتهاكات المزعومة في شمال ووسط مالي بين ديسمبر (كانون الأول) 2021 ويوليو (تموز) 2024، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون، والتعذيب، والتشويه، وأكل لحوم البشر.

كما تطلب من المحكمة التحقيق في الجرائم «التي ارتُكبت عبر الإنترنت، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجرائم المادية وتضيف بُعداً جديداً من الأذى لمجموعة أوسع من الضحايا».

وأبلغت المحكمة وكالة «أسوشييتد برس» أنها لا تستطيع التعليق على المذكرة، لكنها قالت إنها على دراية «بتقارير متعددة حول انتهاكات جسيمة مزعومة لحقوق الإنسان في أجزاء أخرى من مالي»، مضيفةً أنها «تتابع الوضع عن كثب».

وقال مكتب المدعي العام بالمحكمة إن تحقيقاته ركزت على جرائم الحرب المزعومة التي ارتُكبت منذ يناير (كانون الثاني) 2012، عندما استولى المتمردون على مناطق في شمال مالي، بما فيها غاو، وكيدال، وتمبكتو.

غياب المساءلة

جلسة سابقة لمجلس الأمن لبحث الوضع الأمني في غرب أفريقيا والساحل (الأمم المتحدة)

ووثَّقت منظمة «هيومن رايتس ووتش» فظائع ارتكبتها «فاغنر» وجماعات مسلحة أخرى في مالي، وتقول إن المساءلة عن الانتهاكات المزعومة كانت ضئيلة، وإن الحكومة العسكرية مترددة في التحقيق في أفعال قواتها المسلحة والمرتزقة الروس.

وأصبح من الصعب الحصول على معلومات مفصلة حول الانتهاكات المزعومة بسبب «الهجوم المستمر الذي تشنه حكومة مالي على المعارضة السياسية، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والمعارضة السلمية»، حسب إيلاريا أليغروتزي، الباحثة في شؤون الساحل لدى المنظمة. وقد تفاقم ذلك بعد انسحاب بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من مالي في ديسمبر 2023 بطلب من الحكومة. وأضافت أن هذا الفراغ «سهّل ارتكاب مزيد من الفظائع».