ثمة روايتان متناقضتان: الأولى تضمنها تقرير إخباري للإذاعة الجزائرية الرسمية بُث في ساعة متأخرة من ليل الاثنين - الثلاثاء، ومفاده أن السلطات الجزائرية رفضت طلباً تقدمت به فرنسا للسماح لطائرات حربية فرنسية بالتحليق في أجواء الجزائر، في إطار عملية عسكرية هدفها إطاحة انقلاب عسكر النيجر، والإفراج عن الرئيس محمد بازوم المحتجز منذ 26 يوليو (تموز) الماضي.
وجاء في التقرير الجزائري أن فرنسا «تستعد لتنفيذ تهديداتها الموجهة إلى المجلس العسكري في النيجر المتعلقة بتدخل عسكري في حال عدم إطلاق سراح الرئيس محمد بازوم. ووفق مصادر مؤكدة فإن التدخل العسكري بات وشيكاً، والترتيبات العسكرية جاهزة». أضاف التقرير أن الجزائر التي «كانت دائماً ضد استعمال القوة، لم تستجب للطلب الفرنسي بعبور الأجواء الجوية الجزائرية من أجل الهجوم على النيجر، وردها كان صارماً وواضحاً».
أكثر من ذلك، أكد التقرير أن باريس، بعد رفض الجزائر، «توجهت إلى المغرب بطلب السماح لطائراتها العسكرية بعبور أجوائه الجوية»، وأن السلطات المغربية «قررت الاستجابة إلى الطلب الفرنسي». واتهم المغرب بـ«خرق القانون الدولي، ودعم التدخل العسكري في بلد حر ومستقل».
الرواية الجزائرية، كونها قد صدرت عن الإذاعة الرسمية واستندت إلى «مصادر مؤكدة»، تعني أنها خرجت بوحي من السلطات الساعية إلى إيصال رسائل إلى الجانب الفرنسي في ظل علاقات تتسم بالتقلب الدائم لا بل بالتشنج، والدليل على ذلك أن زيارة الرئيس عبد المجيد تبون لباريس التي كانت مقررة الربيع الماضي ثم أُجلت إلى يونيو (حزيران) لم تحدث بعد، وثمة من يخمن حدوثها في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. والأمر الثاني والأهم، أنه إذا كانت باريس قد سعت للحصول على رخصة لطائراتها الحربية لعبور الأجواء الجزائرية، فهذا يعني أن هناك نية حقيقية للجوء إلى الخيار العسكري في الملف النيجري، وهو ما تعارضه الجزائر.
وسبق للرئيس تبون أن رأى أن خياراً مثل هذا يعد بمثابة «تهديد مباشر لأمن الجزائر»، وأن من شأنه إشعال كل منطقة الساحل، مضيفاً أن الجزائر «لن تلجأ مطلقاً إلى استخدام القوة» مع جيرانها.
والأمر الثالث أن تضارب المصالح الفرنسية والجزائرية في منطقة الساحل، وقبلها في ليبيا، ما زال متواصلاً، وأن الطرفين، رغم تأكيدات سابقة، لم يتوصلا بعد إلى تنسيق المواقف والسياسات، بينما ترى الجزائر التي لها حدود مشتركة مع النيجر تقارب 1000 كيلومتر أنها الأكثر تأثراً في ما يجري في الجانب المقابل لحدودها، وأنه يتعين على فرنسا (وعلى غيرها) أن تأخذ هذه المصالح في الاعتبار.
والأمر الأخير ودائماً في حال صدقت الرواية الجزائرية يفيد بأن باريس عازمة على التدخل العسكري في النيجر، حيث ترابط قوة لها تربو على 1000 رجل، ولها قوة جوية مشكلة من طائرات حربية وطوافات ومسيرات.
وثمة إجماع في باريس على استبعاد الانفراد بعملية عسكرية سينظر إليها على أنها شكل جديد من أشكال الاستعمار، والتوجه إلى دعم عملية في إطار مجموعة «إيكواس» التي هددت باللجوء إلى الخيار العسكري بوصفه «ملاذاً أخيراً». وأكثر من مرة، أعلنت باريس دعمها قرارات «إيكواس»، ومن بينها تفعيل ونشر «قوة احتياط» مشتركة للتدخل في نيامي.
كذلك، فإن قادة جيوش 11 دولة عضواً في المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا اتفقوا في اجتماعاتهم في أكرا (عاصمة غانا) يومي الخميس والجمعة الماضية على تفاصيل العملية العسكرية، لا بل حددوا زمنها، بيد أن الرواية الفرنسية مختلفة تماماً، وتنقض تأكيدات الإذاعة الجزائرية ومصادرها.
وقد أعلن مصدر في الجيش الفرنسي، في تصريح مختصر أن «قيادة أركان الجيوش المشتركة الفرنسية تنفي أنها تقدمت بطلب إلى الجزائر من أجل استخدام مجالها الجوي» لتنفيذ عملية عسكرية في النيجر. ومنذ حدوث الانقلاب، لم تقل فرنسا قط إنها تنوي التدخل العسكري في النيجر. وطلبت «الشرق الأوسط» توضيحاً من وزارة الخارجية الفرنسية حول هذا الأمر، إلا أنها لم تحصل على رد حتى كتابة هذه السطور.
وكانت صحيفة «لو موند» المستقلة قد كشفت في عددها الصادر يوم 19 أغسطس (آب) الحالي نقلاً عن مصادر «رفيعة» معلومات جديدة يفيد جانب منها بأن عسكريين نيجريين كانوا يحضرون لعملية لتحرير بازوم. والجانب الآخر يفيد بأن شخصيات نيجرية رئيسية من بينها وزير الخارجية (المعزول) حسومي مسعودو ومسؤولون عسكريون كبار عقدوا سريعاً، بعد الانقلاب، لقاءات مع ضباط فرنسيين من القوة الفرنسية المرابطة في النيجر، وطلبوا منها التدخل من أجل تحرير الرئيس المحتجز، وأن الجانب الفرنسي أصر على الحصول على طلب مكتوب للتدخل. وتضيف معلومات الصحيفة أن طلباً رسمياً قُدم لفرنسا يجيز لها التدخل العسكري واستهداف القصر الرئاسي حيث يحتجز بازوم. كذلك حُرر نص آخر، في الاتجاه نفسه، وقع نيابة عن رئيس أركان القوات المسلحة. وأفادت الصحيفة بأن قوة فرنسية وصلت إلى موقع الاجتماع، وأن طوافات عدة كانت جاهزة للتدخل. وأكد العسكريون الفرنسيون أنهم «قادرون» على القيام بالعملية من دون إلحاق الأذى بالرئيس المحتجز، إلا أن العملية لم تحدث لسببين: الأول، أن بازوم نفسه رفضها. والثاني، التغير الذي حل سريعاً في نيامي عندما التحقت القوات المسلحة بالانقلابيين، واشتراط باريس أن تكون مهمة قوتها فقط دعم ومساعدة قوة نيجرية وليس الانفراد بالعملية.
من يصدق؟ من يختلق؟ السؤال مطروح. لكن الثابت أن انقلاب النيجر يطيح الاستراتيجية الفرنسية التي جعلت هذا البلد محوراً رئيسياً لسياستها ولإمكاناتها في الاستمرار في محاربة التنظيمات المتطرفة والإرهابية في المنطقة بعد أن اضطُرت لترحيل قواتها تباعاً من مالي ثم من بوركينا فاسو بعد انقلابين متعاقبين حدثا في هذين البلدين، وأوصلا العسكر إلى السلطة. ومنذ اليوم، يغمُض مصير القوة الفرنسية في النيجر في حال بقي الانقلابيون في السلطة، إذ إنهم سارعوا منذ بداية الشهر الحالي إلى طلب انسحاب القوة الفرنسية، وأمهلوها شهراً واحداً، ونقضوا الاتفاقات الأمنية والدفاعية كافة المبرمة بين باريس ونيامي.
ويرى مراقبون أن استمرار الوجود العسكري الفرنسي سيكون بالغ الصعوبة في ظل تصاعد الشعور المعادي للدولة المستعمرة السابقة. والانقلاب قد جرى من دون إدراك المخابرات الفرنسية العسكرية والمدنية الموجودة محلياً، وقد أطاح الرئيس (محمد بازوم) الذي انتُخب ديمقراطياً وهو مقرب جداً من باريس ومن الرئيس ماكرون، وقد ذهب معارضوه إلى تسميته «رجل فرنسا» في النيجر. ولدى كل مظاهرة، ترفع شعارات تندد بفرنسا، وتطالب بخروج قواتها من البلاد.
وفي سياق ذي صلة، أعلن الاتحاد الأفريقي (الثلاثاء) أنّه علّق عضوية النيجر حتى عودة الحكم المدني في البلاد، مؤكّداً أنه سيدرس انعكاسات أي تدخّل عسكري في الدولة الواقعة في منطقة الساحل. وقال الاتحاد إنّ مجلس السلم والأمن «يطلب من مفوضية الاتحاد دراسة الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لنشر قوة احتياط في النيجر وإبلاغ المجلس بالنتائج». ويأتي إعلان التكتل وسط خلافات شديدة بين أعضائه بهذا الخصوص. وتوافرت معلومات تفيد بخلافات حادة برزت خلال اجتماع مجلس السلم والأمن الأخير بين مؤيد لتدخُل «إيكواس» العسكري في النيجر، وبين معارض له؛ ما أفضى إلى عجز المجلس عن إصدار بيان رسمي بحصيلة مداولاته.