اقتراب لحظة الحسم في النيجر وسط انسداد سياسي وارتفاع حدة الخطاب العسكري

فشل وساطة وفد «إيكواس» والمجلس العسكري «يرفض الاستسلام لأي تهديد»

متظاهرون يقفون على قمة مدخل الجمعية الوطنية خلال مسيرة بنيامي عاصمة النيجر في 3 أغسطس 2023 (إ.ب.أ)
متظاهرون يقفون على قمة مدخل الجمعية الوطنية خلال مسيرة بنيامي عاصمة النيجر في 3 أغسطس 2023 (إ.ب.أ)
TT

اقتراب لحظة الحسم في النيجر وسط انسداد سياسي وارتفاع حدة الخطاب العسكري

متظاهرون يقفون على قمة مدخل الجمعية الوطنية خلال مسيرة بنيامي عاصمة النيجر في 3 أغسطس 2023 (إ.ب.أ)
متظاهرون يقفون على قمة مدخل الجمعية الوطنية خلال مسيرة بنيامي عاصمة النيجر في 3 أغسطس 2023 (إ.ب.أ)

يتجه الوضع في النيجر إلى مزيد من التصعيد داخلياً وخارجياً بما ينذر بخروجه عن السيطرة. ففي الداخل، عمد الانقلابيون، في الساعات الأخيرة، إلى التضييق على الرئيس المخلوع محمد بازوم الذي رغم حجزه في أحد أجنحة القصر الرئاسي، كان قادراً على التواصل مع القادة الغربيين، ومنهم الرئيس الفرنسي الذي تحادث معه أكثر من مرة. كذلك استقبل رئيس تشاد الكولونيل محمد إدريس ديبي الذي حاول القيام بوساطة لم يكتب لها النجاح.

وبازوم محتجز في جناح من القصر الرئاسي مع زوجته وابنه. ووفق معلومات واردة من نيامي، فإن الكهرباء قطعت عن الجناح الذي يشغله. ويبدو أن تمكنه من إيصال مقال إلى صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية دعا فيه إلى الإسراع في مساعدته، سيكون آخر اتصال له بالعالم الخارجي. كذلك، فإن الوفد الذي أرسلته «المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» (إيكواس)، إلى نيامي للقاء قادة الانقلاب وأيضاً الرئيس المخلوع، عاد إلى أبوجا بخفي حنين، إذ لم ينجح لا في الاجتماع بزعيم الانقلاب ولا بالرئيس بازوم، الأمر الذي يعني أن البحث عن «حل ودي»، وفق تصريح الرئيس النيجيري بولا تينوبو، وصل إلى طريق مسدود.

وكان الوفد برئاسة الرئيس النيجيري الأسبق عبد السلام أبو بكر ومسؤولين كبار من «إيكواس» مكلفاً إقناع الانقلابيين بالتراجع عن حركتهم وإعادة الانتظام الدستوري إلى البلاد والبحث في شروطه، وربما الضمانات التي تستطيع المنظمة الأفريقية تقديمها لقادة الانقلاب والمهل الزمنية.

 

أنصار انقلاب النيجر يرفعون العلم الروسي

اعتقال الوزراء

لم يكتفِ الانقلابيون بذلك؛ بل عمدوا، بعد تردد دام عدة أيام، إلى القبض على مجموعة من الوزراء والمسؤولين الأمنيين والسياسيين (وزراء الداخلية والنقل والتعدين والنفط والطاقة الذي هو ابن الرئيس النيجري السابق محمدو يوسفي، كذلك وزير التعليم المهني وأحد قادة الحرس الوطني الكبار ورئيس حزب الديمقراطية والاشتراكية الرئاسي ومستشار الرئيس بازوم السياسي)، وجمع كل هؤلاء ووضعوا في مبنى فرضت عليه الحراسة المشددة قريباً من القصر الجمهوري. وفي السياق عينه، قرر المجلس العسكري إنهاء مهمات سفراء النيجر لدى فرنسا والولايات المتحدة ونيجيريا وتوغو.

أما على الصعيد الخارجي، فقد عمدت السلطات العسكرية إلى قطع بث وسيلتين إعلاميتين فرنسيتين مرتبطتين بالحكومة؛ هما تلفزيون «فرانس 24» و«إذاعة فرنسا الدولية»، ما استدعى رداً عنيفاً من هيئة البث الخارجي المسماة «فرنسا ميديا العالم»، ومن الحكومة الفرنسية.

وأكدت الخارجية الفرنسية «التزامها وتصميمها الدائمين على المحافظة على حرية الصحافة والتعبير وحماية الصحافيين». واعتبرت باريس أن «الإجراءات المناهضة للصحافة أتت على خلفية قمع استبدادي ينفذه الانقلابيون». وبذلك تكون النيجر قد سارت على الدرب الذي سبقتها إليه مالي وبوركينا فاسو اللتان يحكمهما مجلسان عسكريان قاما بعد انقلابين.

وضع فرنسا مختلف

وتبدو فرنسا، يوماً بعد يوم، وبعكس الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الدول الغربية الأخرى؛ كألمانيا وإيطاليا اللتين لهما حضور سياسي واقتصادي وعسكري في النيجر، في مرمى السلطات المحلية. فعسكر النيجر «لا يفقهون» الأسباب التي دفعت باريس إلى ترحيل رعاياها بحجة الحالة الأمنية. وبحسب زعيم الانقلاب، فإن أي مواطن فرنسي لم يتعرض للتهديد أو الاعتداء. ولتكذيب باريس، تميزت المظاهرات التي حصلت، بمناسبة العيد الوطني، بالهدوء، إذ لم يقترب المتظاهرون الذين نزلوا إلى الساحات والشوارع للتعبير عن دعمهم للانقلابيين، من السفارة الفرنسية التي وفرت لها القوى الأمنية حماية مشددة. وعجل قرار باريس دفع دول أخرى (إيطاليا، وألمانيا، والولايات المتحدة، وبريطانيا...) لإجلاء رعاياها كلياً أو جزئياً.

آخر ما صدر عن المجلس العسكري إلغاء عدة اتفاقيات عسكرية مبرمة بين نيامي وباريس؛ أهمها الاتفاق الدفاعي الذي وقع قبل 10 سنوات. وقال أحد أعضاء المجلس العسكري في بيان تلاه عبر التلفزيون الرسمي، إنه «في مواجهة موقف فرنسا اللامبالي»، ورد فعلها تجاه الوضع في النيجر، «قرر المجلس الوطني لحماية الوطن إبطال اتفاقيات التعاون مع هذه الدولة (فرنسا) في مجال الأمن والدفاع».

وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس بازوم قبِل أن تنشر فرنسا قسماً من قوة «برخان» التي سحبتها من مالي في قواعد نيجرية. كذلك قبِل استضافة قوة الكوماندوس التي انسحبت لاحقاً من بوركينا فاسو، الأمر الذي جعل من النيجر، بالنسبة لفرنسا، القاعدة العسكرية الرئيسية التي تستخدمها باريس في جهودها لمحاربة التنظيمات المتطرفة والإرهابية في منطقة الساحل. وكان قرار المجلس العسكري مرتقباً.

 

متظاهرون يهتفون لجيش النيجر أمام السفارة الفرنسية في نيامي (أ.ف.ب)

رفض باريس

وردت باريس على قرار السلطات الانقلابية بتأكيد أن وحدها السلطات الشرعية النيجرية التي تعترف بها فرنسا، كما بقية الأسرة الدولية، مؤهلة للتراجع عن هذه الاتفاقيات.

لكن المراقبين رأوا في ذلك خطوة منتظرة، حيث تقتدي نيامي بما حصل سابقاً في باماكو وواغادوغو. إلا أن انسحاب القوة الفرنسية، في حال قيامه، لا يمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها، بل سيتطلب مفاوضات مع المجلس العسكري واتفاقاً على البرنامج الزمني.

والصعوبة بالنسبة لباريس ستكون في إيجاد بلد أفريقي يستقبل القوة المنسحبة، علماً بأن لباريس قواعد عسكرية في تشاد وساحل العاج والسنغال. وبالمقابل، لم يصدر أي بلاغ عن المجلس العسكري بخصوص القاعدتين العسكريتين الأميركيتين أو الجنود الألمان والإيطاليين والبلجيكيين الموجودين في النيجر في أطر مختلفة. وهذا الواقع يبين بوضوح أكبر أن القطيعة هي بالتحديد مع البلد المستعمر السابق وليس مع الغرب بشكل عام.

إزاء انسداد الوضع في الداخل، واقتراب نهاية المهلة التي أعطتها «إيكواس» للانقلابيين للرجوع عن انقلابهم وإعادة محمد بازوم إلى موقعه الرئاسي، يبدو أن السير نحو تدخل عسكري يتم بخطى حثيثة. فاجتماعات رؤساء أركان 11 دولة منضوية في إطار المنظمة الأفريقية انتهت في أبوجا، كما انتهت زيارة الرجل الثاني في المجلس العسكري النيجري إلى باماكو وواغادوغو من أجل البحث في إنشاء جبهة مقابلة لجبهة «إيكواس» الداعية لاستخدام القوة العسكرية.

 

مسؤولون عسكريون في مجموعة «إيكواس» يبحثون أزمة النيجر في أبوجا الأربعاء (إ.ب.أ)

رفض الاستسلام لأي تهديد

وفي هذا السياق، قال الجنرال عبد الرحمن تشياني، رئيس الحرس الرئاسي سابقاً ورئيس المجلس العسكري والقائد الفعلي اليوم، إنه «يرفض الاستسلام لأي تهديد»، و«يرفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للنيجر»، وإن قواته «مستعدة للقتال والرد» على أي عمل عسكري يستهدفها. وجاء في بيان للمجلس أن «أي عدوان - أو محاولة عدوان - ضد دولة النيجر سيشهد رداً فورياً ودون إنذار من جانب قوات الدفاع والأمن النيجرية على أي عضو من أعضاء المنظمة باستثناء الدول الصديقة المعلقة عضويتها»، وهما بوركينا فاسو ومالي. وسبق لهذين البلدين أن حذرا من أن أي استهداف للنيجر سيعد «إعلاناً للحرب» عليهما، ما يستتبع تدخلهما العسكري.

لم تتأخر إيساتا تال سال، وزيرة خارجية السنغال، في إعلان استعداد بلادها في المشاركة بعملية عسكرية في النيجر وإرسال جنود إلى النيجر، إذا قررت «إيكواس» التدخل العسكري. وتفيد معلومات متداولة في باريس بأن ساحل العاج وبنين مستعدتان أيضاً للمشاركة، فيما ستكون القوات النيجرية العصب الرئيسي للقوة العسكرية، رغم تأكيد الرئيس النيجيري تمسكه بالسعي لـ«حل ودي».

لكن في غياب مثل هذا الحل، فإن أبوجا التي تتخوف من عدوى الانقلابات وتريد أن تفرض نفسها قوة مؤثرة تحافظ على الاستقرار في غرب أفريقيا وتدعم الأنظمة الديمقراطية وترفض خيار الانقلابات متسلحة بحجمها السياسي والاقتصادي والبشري وقواها العسكرية، تتخوف من أن التراجع عن التدخل سيفقد «إيكواس» أي مصداقية، وسينعكس ذلك على رئيسها بولا تينوبو الذي وصل إلى السلطة حديثاً، وهو من أشد الداعين لرفض التغيير السياسي الذي يتم بطرق غير ديمقراطية كما يريد وضع حد لقيام جبهة عريضة تضم الانقلابيين في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.

 

أشخاص تم إجلاؤهم من النيجر يتحدثون إلى وسائل الإعلام بمطار شارل ديغول في باريس (أ.ب)

عدم الرغبة في التدخل

يبقى سؤال أخير مزدوج وجهه الأول يتناول الموقفين الفرنسي والأميركي. بالطبع تشجع باريس وواشنطن «إيكواس»، لكنهما قطعاً لا ترغبان بالتدخل مباشرة وتسعيان للعمل بمبدأ «القيادة من الخلف»، لكنهما قادرتان على تغيير مسار الأحداث. والوجه الثاني يتناول «الغطاء القانوني» الذي يبيح التدخل العسكري. ومن الناحية المبدئية، ثمة طريقان لا ثالثة لهما: الأولى، الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي، وهو مستبعد بسبب «الفيتو» المرجح لروسيا والصين أو لكلتيهما معاً. والثانية، حصول طلب رسمي من الرئيس بازوم الذي تعدّه الأسرة الدولية رئيساً شرعياً وحيداً للنيجر. فهل ستعد الرسالة التي نشرها الأخير مساء الخميس في صحيفة «واشنطن بوست» وفيها عد نفسه «رهينة» ودعا «الحكومة الأميركية ومجمل الأسرة الدولية للمساعدة في إعادة الانتظام الدستوري» بمثابة دعوة رسمية للتدخل العسكري في بلاده؟ السؤال مطروح والإجابة في المقبل من الأيام.


مقالات ذات صلة

الشرطة البرازيلية تتهم الرئيس السابق بولسونارو بمحاولة الانقلاب عام 2022

أميركا اللاتينية الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو (وسط) يحضر حفل تخرج للطلاب في أكاديمية عسكرية في ولاية ريو دي جانيرو بالبرازيل 26 نوفمبر 2022 (أ.ف.ب)

الشرطة البرازيلية تتهم الرئيس السابق بولسونارو بمحاولة الانقلاب عام 2022

قالت الشرطة الفيدرالية البرازيلية، اليوم الخميس، إنها وجهت الاتهامات للرئيس السابق جايير بولسونارو و36 شخصاً آخرين بتهمة محاولة الانقلاب عام 2022.

«الشرق الأوسط» (ساو باولو)
أميركا اللاتينية وفقاً للتحقيق خطط الانقلابيون لقتل رئيس البلاد لولا دا سيلفا ونائبه جيرالدو ألكمين وقاضي المحكمة العليا ألكسندر دي مورايس (رويترز)

البرازيل: اعتقال 5 ضباط بتهمة التخطيط للانقلاب على الرئيس لولا دا سيلفا

قالت السلطات البرازيلية، الثلاثاء، إن شرطة البلاد اعتقلت 5 ضباط متهمين بالتخطيط لانقلاب تضمن خططاً للإطاحة بالحكومة بعد انتخابات 2022 وقتل الرئيس.

«الشرق الأوسط» (ساو باولو)
أفريقيا صورة أرشيفية لمتظاهرة تحمل علم بنين خارج البرلمان في العاصمة بورتو نوفو أبريل 2017 (أ.ف.ب)

محاولة انقلابية فاشلة في دولة بنين

أعلنت السلطات في دولة بنين اعتقال قائد الحرس الجمهوري ورجل أعمال مُقرّب من رئيس البلاد ووزير سابق في الحكومة، إثر تورّطهم في مخطط لقلب نظام الحكم بالقوة.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا المواطن الأميركي بنجامين ريوبين زالمان بولن خلال محاكمته في قضية «محاولة الانقلاب» بالكونغو (إ.ب.أ)

حكم بإعدام 37 شخصاً بينهم 3 أميركيين في «محاولة الانقلاب» بالكونغو الديمقراطية

أصدرت محكمة عسكرية بكينشاسا حكماً بإعدام 37 متهماً، بينهم 3 أميركيين، في قضية «محاولة الانقلاب» التي شهدتها جمهورية الكونغو الديمقراطية.

«الشرق الأوسط» (كينشاسا)
آسيا الشيخة حسينة (رويترز)

بنغلاديش تلغي حظراً مفروضاً على حزب إسلامي بعد رحيل الشيخة حسينة

ألغت الحكومة المؤقتة في بنغلاديش حظراً على أكبر حزب إسلامي في البلاد، وهو حزب الجماعة الإسلامية، ملغية بذلك قراراً اتخذه نظام رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة

«الشرق الأوسط» (دكا)

صراع النفوذ بالقرن الأفريقي... «حرب باردة» تُنذر بصدام إقليمي

يشكل التأثير الكبير لمنطقة القرن الأفريقي في حركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر نقطة الجذب الأولى للقوى الدولية... وفي الصورة يظهر ميناء تاجورة على ساحل جيبوتي (رويترز)
يشكل التأثير الكبير لمنطقة القرن الأفريقي في حركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر نقطة الجذب الأولى للقوى الدولية... وفي الصورة يظهر ميناء تاجورة على ساحل جيبوتي (رويترز)
TT

صراع النفوذ بالقرن الأفريقي... «حرب باردة» تُنذر بصدام إقليمي

يشكل التأثير الكبير لمنطقة القرن الأفريقي في حركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر نقطة الجذب الأولى للقوى الدولية... وفي الصورة يظهر ميناء تاجورة على ساحل جيبوتي (رويترز)
يشكل التأثير الكبير لمنطقة القرن الأفريقي في حركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر نقطة الجذب الأولى للقوى الدولية... وفي الصورة يظهر ميناء تاجورة على ساحل جيبوتي (رويترز)

بسبب أهمية منطقة القرن الأفريقي الاستراتيجية، وحجم الثروات الكامنة فيها، وهشاشة أوضاعها الأمنية والسياسية والاقتصادية، تتزايد دوافع اللاعبين الدوليين والإقليميين للتمركز فيها، وهو الأمر الذي حوّلها ميداناً لـ«حرب باردة»، وصراع إرادات ينتظر شرارة مشتعلة لينفجر صداماً إقليمياً.

وإذا كانت القوى الكبرى، مثل أميركا والصين وروسيا، تتصدر الواجهة في سباق الوجود بالقرن الأفريقي، فإن ذلك لم يمنع قوى إقليمية مثل تركيا وإيران والهند من البحث عن مكان لها في المنطقة، ما دعا مسؤولين ومراقبين إلى التحذير من سيناريوهات تصعيدية عديدة بالمنطقة، كالتحول إلى «ميدان لحرب باردة» بين اللاعبين الدوليين.

ويُقصد بالقرن الأفريقي جغرافياً، الجزء الواقع غرب البحر الأحمر، وخليج عدن في شكل قرن، ويضم أربع دول، هي: الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا، ويتسع ليشمل دول الجوار: كينيا، أوغندا، تنزانيا، جنوب السودان، السودان، وكذلك اليمن، لارتباطها بهذه الدول.

صراع المواني

ويشكل التأثير الكبير لمنطقة القرن الأفريقي، في حركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر، نقطة الجذب الأولى للقوى الدولية للوجود بالمنطقة، لكونها معبراً رئيساً لنقل النفط من دول الخليج للأسواق العالمية. وتدلل على ذلك بيانات التجارة العالمية المارة عبر البحر الأحمر، حيث تسجل تلك التجارة نحو 12 في المائة من حركة تجارة العالم سنوياً، بواقع 30 في المائة من حركة حاويات الشحن العالمية، وبقيمة تتجاوز تريليون دولار. إلى جانب ما بين 7 إلى 10 في المائة من إمدادات النفط العالمية، وفق بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في يناير (كانون الثاني) 2024.

أحد المواني في جيبوتي (أ.ف.ب)

وتُضاعف المواني البحرية، وعددها 10 مواني، من الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي، لتحتل مرتبة متقدمة في سياسات القوى الدولية والإقليمية الطامحة للعب دور بها، بالنظر إلى ما تمثله المنطقة من حلقة ربط بين مراكز تجارية وأسواق شرق ووسط أفريقيا ودول أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وفق الخبير العسكري المصري، اللواء سمير فرج. وعدّ اللواء فرج، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «التأثير المتزايد للمنطقة، على حركة التجارة العالمية، يدفع الدول الكبرى، للوجود لتأمين تجارتها ومصالحها».

وبينما يتركز التنافس على تلك المواني بين الولايات المتحدة والصين، إلا أنه لم يمنع قوى إقليمية من الظهور على خريطة التنافس الدولي، مثل تركيا، وإثيوبيا التي تبحث عن منفذ بحري لها.

وتتنوع محددات اللاعبين الدوليين للتنافس على مواني القرن الأفريقي، إذ تنطلق لتحقيق أهداف أمنية واستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، بضمان وجودها عبر مجموعة من «التحالفات البحرية الأمنية»، بينما تستهدف الصين توسيع استثماراتها في المواني البحرية في إطار مبادرتها «الحزام والطريق»، حيث تستحوذ على إدارة وتشغيل ميناء جيبوتي المعروف بـ«ميناء دوراله»، كما افتتحت عام 2018 منطقة تجارة حرة بجيبوتي مساحتها تقدر بنحو 48 كيلومتراً مربعاً. فيما تسيطر تركيا على ميناء مقديشو في الصومال، وفقاً لاتفاقية مارس (آذار) 2023. وإقليمياً تسعى إثيوبيا لإيجاد منفذ بحري لها، مطلع هذا العام، باتفاق مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، وسط رفض صومالي وعربي.

ناقلة نفط في البحر الأحمر (رويترز)

وتوفر حركة التجارة عبر الممر الملاحي للبحر الأحمر ميزة تنافسية، من حيث توفير الوقت والمسافة والتكلفة، حسب وزير الدولة بوزارة الخارجية السودانية الأسبق، السماني الوسيلة، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الموقع الجغرافي لقناة السويس والبحر الأحمر يجعلها أقصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب، بالمقارنة بطريق رأس الرجاء الصالح».

وتعتمد دول شرق أفريقيا في تجارتها على البحر الأحمر وقناة السويس، إذ يعبر القناة نحو 34 في المائة من تجارة السودان، ونحو 31 في المائة من تجارة جيبوتي، و15 في المائة من تجارة كينيا، و10 في المائة لتنزانيا، وفقاً لتقرير «الأونكتاد»، في فبراير (شباط) 2024.

تنافس على الثروات

إلى جانب ذلك، تشكل ثروات القرن الأفريقي هدفاً آخر للتنافس الدولي. يدلل على ذلك وزير الإعلام الصومالي الأسبق، زكريا محمود، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بتدخلات أطراف دولية للاستفادة من الاحتياطي النفطي بالصومال الذي يبلغ 30 مليار برميل، وفقاً للحكومة الصومالية، وثرواته الحيوانية الكبيرة التي تُقدّر بنحو 56 مليون رأس ماشية، حسب منظمة «الفاو».

ووقعت تركيا والصومال، في يوليو (تموز) الماضي، اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز في 3 مناطق قبالة السواحل الصومالية. وأرسلت أنقرة على أثر ذلك، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، سفينة الأبحاث السيزمية التركية «عروج ريس» إلى ميناء مقديشو، لإجراء مسح للغاز والنفط، في مهمة تستمر 7 أشهر.

وحسب تصريح أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ديغون الفرنسية، عبد الرحمن مكاوي، لـ«الشرق الأوسط»، فإن المنطقة "تحظى بكميات كبيرة، من الليثيوم والذهب، والغاز، وغيرها من المعادن التي تحتاج إليها الدول الكبرى.

عسكرة البحر الأحمر

وبدافع مواجهة تهديدات حركة الملاحة، يتزايد الحشد العسكري الدولي بالمنطقة، فجيبوتي، رغم صغر مساحتها (23200 كيلومتر)، تستضيف 6 قواعد عسكرية لدول (الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين، واليابان، وإسبانيا، وإيطاليا).

وباعتقاد الكاتب الصحافي الإثيوبي أنور إبراهيم، فإن «أطماع القوى الدولية في السيطرة على الممر المائي، وراء تزايد الوجود العسكري الأجنبي على الساحل الغربي للبحر الأحمر»، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «تزايد العسكرة مخطط للاستعمار الحديث، ودليل على أن الصراع الدولي القادم سيكون بالإقليم».

وتشكل حالة الهشاشة، ومستويات الفقر، دوافع أساسية، لتأجير دول القرن الأفريقي مساحات من أراضيها، لإقامة قواعد عسكرية أجنبية بها، كما الوضع في جيبوتي وإريتريا والصومال. وفق مكاوي.

وتعتمد جيبوتي على الرسوم السنوية لتأجير أراضي القواعد العسكرية الأجنبية، بوصف ذلك جزءاً مهماً في دخلها القومي السنوي، حيث بلغت إيرادات تلك الرسوم عام 2020، نحو 129 مليون دولار أميركي، بواقع 18 في المائة من دخل البلاد، حسب معهد أبحاث «جايكا» التابع للوكالة اليابانية للتعاون الدولي.

وأتاحت إريتريا، وجوداً عسكرياً لإسرائيل، بقاعدة في جزر «دهلك» (قرب مدينة مصوع الساحلية)، منذ تسعينات القرن الماضي، كما تستضيف قاعدة بحرية إيرانية، بالقرب من ميناء «عصب»، وفي الصومال افتتحت تركيا، قاعدة عسكرية (مخصصة للتدريب) على ساحل المحيط الهندي، في 2017.

لاعبون متنوعون

ودخلت الهند على الخط، حين نشرت البحرية الهندية للمرة الأولى مطلع العام الحالي، أسطولاً ضخماً يضمّ 12 سفينة حربية في خليج عدن وبحر العرب، بدعوى التصدي لعمليات القرصنة أمام السواحل الصومالية.

ومع ذلك، لا تتوقف محاولات الوجود العسكري، من لاعبين دوليين آخرين بالمنطقة، خاصة مع التحركات الروسية، لإقامة قواعد لها على السواحل الإريترية والسودانية، وفقاً لرئيس اتحاد الكتاب الإريتريين بالمهجر، محجوب حامد آدم، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الحشد العسكري الدولي، يعكس رغبة تلك الدول في فرض وصايتها على المنطقة».

الفريق البرهان لدى لقائه الوفد الروسي برئاسة بوغدانوف في بورتسودان (أرشيفية - سونا)

وتسعى روسيا للحصول على موطئ قدم هي الأخرى على ساحل البحر الأحمر، حيث أبرمت اتفاقاً مع السودان عام 2017 لإنشاء قاعدة بحرية. وفي يونيو (حزيران) الماضي، أعلن عضو مجلس السيادة السوداني، ياسر العطا، أن «موسكو طلبت إقامة محطة تزويد بالوقود على السواحل السودانية». وبموازاة ذلك، كانت موسكو أبرمت اتفاقاً مع إريتريا في يناير 2023، لاستغلال ميناء «مصوع».

وفي رأي وزير الدولة بوزارة الخارجية السودانية الأسبق، فإن موسكو «لن تسمح للقوى الغربية بتمديد نفوذها وحدها في الإقليم».

غير أن الحضور العسكري الأكبر في المنطقة، يأتي من نصيب أميركا، وفق المستشار العسكري السابق للخارجية الأميركية، عباس دهوك، الذي أشار لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «واشنطن تكثف من وجودها العسكري، للرد على هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية، ومواجهة مخاطر القرصنة».

حرب باردة جديدة

نوّعت واشنطن من صيغ تحالفاتها الأمنية مع حلفائها، بدافع التصدي لتهديدات الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن. ودشّنت في سبيل ذلك، تحالف «سانتينال» البحري عام 2019. وفي 2022، شكلت «قوة المهام المشتركة 153» التي تضم 39 دولة. وفي نوفمبر 2023، أعلنت عن تحالف جديد باسم «حارس الازدهار» يضم 10 دول، للتصدي لهجمات الحوثيين وعرقلتهم للملاحة الدولية.

في المقابل، تُوسّع الصين نشاطها الاقتصادي بالمنطقة، وتسعى لإحكام قبضتها بالقروض المتزايدة لدول القرن الأفريقي، ما يثير قلق القوى الغربية، حسب المحلل السياسي الأميركي ماك شرقاوي، الذي حذّر في حديث لـ«الشرق الأوسط» من «فرض الوصاية الصينية على دول المنطقة، بسبب تراكم الديون».

وباعتقاد شرقاوي، فإن تحركات القوى الكبرى «تجعل من القرن الأفريقي ميداناً جديداً لحرب باردة بينها»، وحذّر من «تفاقم المواجهة، حال تعارض المصالح الصينية والروسية، مع تحركات القوى الغربية».

سيناريو «الحرب الباردة» بين أميركا والصين وروسيا لا يستبعده دهوك، الذي عدّ صراع النفوذ بين تلك الدول «يزيد من توترات المنطقة، وربما يصل إلى حدّ الصدام».

نزاعات وتحالفات

وتُشكّل توترات ونزاعات القرن الأفريقي، باباً خلفياً لتدخلات لاعبين خارجيين. فقد دفع توقيع إثيوبيا مُذكّرة تفاهم مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي للحصول على ميناء بحري، مقديشو لتعزيز تعاونها العسكري مع حلفاء إقليميين مثل مصر وتركيا.

ووقّع الصومال في 21 فبراير (شباط) الماضي اتفاقية تعاون دفاعي واقتصادي مع تركيا، إلى جانب «مذكرة تفاهم» مع الولايات المتحدة لبناء ما يصل إلى خمس قواعد عسكرية لأحد ألوية الجيش. وتفاقم التوتر، مع توقيع الصومال ومصر، بروتوكول تعاون عسكري، في أغسطس (آب) الماضي، أرسلت بموجبه القاهرة شحنتي أسلحة لدعم مقديشو، وأعلنت عزمها على إرسال قوات عسكرية بداية العام المقبل كجزء من بعثة حفظ السلام الجديدة الأفريقية، في خطوات أغضبت إثيوبيا، التي اتهمت الصومال بـ«التواطؤ مع جهات خارجية لزعزعة الاستقرار بالمنطقة».

قمة ثلاثية بين رؤساء مصر والصومال وإريتريا في العاصمة أسمرة (أرشيفية - الرئاسة المصرية)

ويُعوّل الصومال على مصر وتركيا لدعم قدرات جيشه في مواجهة التحركات الإثيوبية، وفق وزير الإعلام الصومالي الأسبق، عادّاً «الصدام بين مقديشو وأديس أبابا قادماً، وعلى نطاق إقليمي واسع». وقال إن الخطر في التحركات الإثيوبية «سعيها لاجتزاء جزء من أرض الصومال بالمخالفة للقانون الدولي».

غير أن الاتفاق الإثيوبي مع إقليم أرض الصومال، يأتي بمباركة دول غربية، حسب الكاتب الصحافي الإثيوبي. ودلّل على ذلك بتعهد الولايات المتحدة وفرنسا، بعد توقيع اتفاق سلام بين إثيوبيا وإريتريا في 2018، «بتطوير القوات البحرية الإثيوبية رغم عدم امتلاكها منفذاً بحرياً».

لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ونظيره الصومالي في أنطاليا (جنوب تركيا) مارس الماضي (أرشيفية - الرئاسة التركية)

وتتمسك الحكومة الإثيوبية باتفاقها مع «أرض الصومال» للحصول على ميناء بحري. وأكّد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، نهاية أكتوبر الماضي، أن «بلاده تسعى للوصول السلمي للبحر الأحمر، ولا تحتاج إلى القوة أو الحرب. وإذا لم ننجح، فسيفعل ذلك أطفالنا».

وأفرزت التحركات الإثيوبية تحالفات إقليمية جديدة، منها آلية التعاون الثلاثي بين مصر وإريتريا والصومال، ما ينذر بمواجهة مع أديس أبابا، وفق رئيس اتحاد الكتاب الإريتريين بالمهجر.

صراع مائي

ولا يمكن فصل التحركات المصرية لدعم الصومال عن مصالحها المائية، في ضوء النزاع القائم بين القاهرة وأديس أبابا حول «سد النهضة»، وفق تقدير أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ديغون الفرنسية، الذي يرى أن «المياه ستشكل السبب الأساسي في الصراع الدولي والإقليمي القادم بالمنطقة».

صورة حديثة لسد النهضة (حساب رئيس وزراء إثيوبيا على «إكس»)

غير أن اللواء فرج عدّ التعاون العسكري المصري - الصومالي «ليس مُوجّهاً ضد أحد، ويستهدف دعم قدرات مقديشو لمواجهة الإرهاب وتأمين الملاحة بمضيق باب المندب»، واستبعد وصول التوترات لمرحلة «الصراع العسكري».

ووفق بحث لمركز دراسات الحرب الأميركي، في سبتمبر (أيلول) 2024، فإن «لجوء الصومال لمصر وتركيا للمساعدة في التصدي للتحركات الإثيوبية، استفادت منه القاهرة وأنقرة، لتعزيز مصالحهما بالقرن الأفريقي». وقال إن «مشاركة الدولتين ستؤدي لزيادة خطر نشوب صراع إقليمي أوسع».

«استعمار جديد»

لا يختلف الأمر في حالة الحرب الداخلية بالسودان بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع». ذلك أن الاتصالات أظهرت تقارب الحكومة السودانية مع قوى كروسيا والصين ودول إقليمية مثل إيران، في مواجهة محور دولي مقابل، يقول قادة الجيش السوداني إنه داعم للطرف الآخر بالحرب (قوات الدعم السريع).

ويسعى السودان لوضع حد للتدخلات الخارجية من بعض الجهات التي تسعى للسيطرة عليه، وفق رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، لوفد مجلس السلم والأمن الأفريقي في أكتوبر الماضي، عاداً تلك التدخلات «استعماراً جديداً لبلاده».

عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)

وقد يدفع صراع النفوذ الدولي بالقرن الأفريقي إلى تمدد التنظيمات الإرهابية، أو ظهور «حروب بالوكالة» من تنظيمات مُسلّحة تحقيقاً لمصالح قوى دولية، وفق الكاتب إبراهيم، الذي دلّل بـ«بوادر التعاون بين حركة الشباب الصومالية، مع الحوثيين، ما قد يفرز تنظيمات مسلحة أكثر تشدداً بدعم خارجي، ويحول الوضع في المنطقة إلى (أفغانستان جديدة)».

ويرجح السماني الوسيلة هذا السيناريو في السودان، محذراً من «استغلال حركات مسلحة وتنظيمات أصولية وثورية، حالة الهشاشة الأمنية والسياسية، بالانتشار والتموضع على السواحل السودانية بالبحر الأحمر، التي تمتد لنحو 750 كيلومتراً».

وفي وقت استبعد فيه كل من فرج وشرقاوي انتشار التنظيمات الإرهابية في ظل وجود قواعد عسكرية أجنبية، فإن المستشار السابق للخارجية الأميركية عدّ أن «عدم استقرار منطقة البحر الأحمر، قد يؤدي لتمكين وانتشار التنظيمات الإرهابية بالمنطقة»، وطالب بضرورة «معالجة الأسباب الجذرية للتطرف، ودعم جهود الاستقرار الإقليمي».