يتجه الوضع في النيجر إلى مزيد من التصعيد داخلياً وخارجياً بما ينذر بخروجه عن السيطرة. ففي الداخل، عمد الانقلابيون، في الساعات الأخيرة، إلى التضييق على الرئيس المخلوع محمد بازوم الذي رغم حجزه في أحد أجنحة القصر الرئاسي، كان قادراً على التواصل مع القادة الغربيين، ومنهم الرئيس الفرنسي الذي تحادث معه أكثر من مرة. كذلك استقبل رئيس تشاد الكولونيل محمد إدريس ديبي الذي حاول القيام بوساطة لم يكتب لها النجاح.
وبازوم محتجز في جناح من القصر الرئاسي مع زوجته وابنه. ووفق معلومات واردة من نيامي، فإن الكهرباء قطعت عن الجناح الذي يشغله. ويبدو أن تمكنه من إيصال مقال إلى صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية دعا فيه إلى الإسراع في مساعدته، سيكون آخر اتصال له بالعالم الخارجي. كذلك، فإن الوفد الذي أرسلته «المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» (إيكواس)، إلى نيامي للقاء قادة الانقلاب وأيضاً الرئيس المخلوع، عاد إلى أبوجا بخفي حنين، إذ لم ينجح لا في الاجتماع بزعيم الانقلاب ولا بالرئيس بازوم، الأمر الذي يعني أن البحث عن «حل ودي»، وفق تصريح الرئيس النيجيري بولا تينوبو، وصل إلى طريق مسدود.
وكان الوفد برئاسة الرئيس النيجيري الأسبق عبد السلام أبو بكر ومسؤولين كبار من «إيكواس» مكلفاً إقناع الانقلابيين بالتراجع عن حركتهم وإعادة الانتظام الدستوري إلى البلاد والبحث في شروطه، وربما الضمانات التي تستطيع المنظمة الأفريقية تقديمها لقادة الانقلاب والمهل الزمنية.
اعتقال الوزراء
لم يكتفِ الانقلابيون بذلك؛ بل عمدوا، بعد تردد دام عدة أيام، إلى القبض على مجموعة من الوزراء والمسؤولين الأمنيين والسياسيين (وزراء الداخلية والنقل والتعدين والنفط والطاقة الذي هو ابن الرئيس النيجري السابق محمدو يوسفي، كذلك وزير التعليم المهني وأحد قادة الحرس الوطني الكبار ورئيس حزب الديمقراطية والاشتراكية الرئاسي ومستشار الرئيس بازوم السياسي)، وجمع كل هؤلاء ووضعوا في مبنى فرضت عليه الحراسة المشددة قريباً من القصر الجمهوري. وفي السياق عينه، قرر المجلس العسكري إنهاء مهمات سفراء النيجر لدى فرنسا والولايات المتحدة ونيجيريا وتوغو.
أما على الصعيد الخارجي، فقد عمدت السلطات العسكرية إلى قطع بث وسيلتين إعلاميتين فرنسيتين مرتبطتين بالحكومة؛ هما تلفزيون «فرانس 24» و«إذاعة فرنسا الدولية»، ما استدعى رداً عنيفاً من هيئة البث الخارجي المسماة «فرنسا ميديا العالم»، ومن الحكومة الفرنسية.
وأكدت الخارجية الفرنسية «التزامها وتصميمها الدائمين على المحافظة على حرية الصحافة والتعبير وحماية الصحافيين». واعتبرت باريس أن «الإجراءات المناهضة للصحافة أتت على خلفية قمع استبدادي ينفذه الانقلابيون». وبذلك تكون النيجر قد سارت على الدرب الذي سبقتها إليه مالي وبوركينا فاسو اللتان يحكمهما مجلسان عسكريان قاما بعد انقلابين.
وضع فرنسا مختلف
وتبدو فرنسا، يوماً بعد يوم، وبعكس الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الدول الغربية الأخرى؛ كألمانيا وإيطاليا اللتين لهما حضور سياسي واقتصادي وعسكري في النيجر، في مرمى السلطات المحلية. فعسكر النيجر «لا يفقهون» الأسباب التي دفعت باريس إلى ترحيل رعاياها بحجة الحالة الأمنية. وبحسب زعيم الانقلاب، فإن أي مواطن فرنسي لم يتعرض للتهديد أو الاعتداء. ولتكذيب باريس، تميزت المظاهرات التي حصلت، بمناسبة العيد الوطني، بالهدوء، إذ لم يقترب المتظاهرون الذين نزلوا إلى الساحات والشوارع للتعبير عن دعمهم للانقلابيين، من السفارة الفرنسية التي وفرت لها القوى الأمنية حماية مشددة. وعجل قرار باريس دفع دول أخرى (إيطاليا، وألمانيا، والولايات المتحدة، وبريطانيا...) لإجلاء رعاياها كلياً أو جزئياً.
آخر ما صدر عن المجلس العسكري إلغاء عدة اتفاقيات عسكرية مبرمة بين نيامي وباريس؛ أهمها الاتفاق الدفاعي الذي وقع قبل 10 سنوات. وقال أحد أعضاء المجلس العسكري في بيان تلاه عبر التلفزيون الرسمي، إنه «في مواجهة موقف فرنسا اللامبالي»، ورد فعلها تجاه الوضع في النيجر، «قرر المجلس الوطني لحماية الوطن إبطال اتفاقيات التعاون مع هذه الدولة (فرنسا) في مجال الأمن والدفاع».
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس بازوم قبِل أن تنشر فرنسا قسماً من قوة «برخان» التي سحبتها من مالي في قواعد نيجرية. كذلك قبِل استضافة قوة الكوماندوس التي انسحبت لاحقاً من بوركينا فاسو، الأمر الذي جعل من النيجر، بالنسبة لفرنسا، القاعدة العسكرية الرئيسية التي تستخدمها باريس في جهودها لمحاربة التنظيمات المتطرفة والإرهابية في منطقة الساحل. وكان قرار المجلس العسكري مرتقباً.
رفض باريس
وردت باريس على قرار السلطات الانقلابية بتأكيد أن وحدها السلطات الشرعية النيجرية التي تعترف بها فرنسا، كما بقية الأسرة الدولية، مؤهلة للتراجع عن هذه الاتفاقيات.
لكن المراقبين رأوا في ذلك خطوة منتظرة، حيث تقتدي نيامي بما حصل سابقاً في باماكو وواغادوغو. إلا أن انسحاب القوة الفرنسية، في حال قيامه، لا يمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها، بل سيتطلب مفاوضات مع المجلس العسكري واتفاقاً على البرنامج الزمني.
والصعوبة بالنسبة لباريس ستكون في إيجاد بلد أفريقي يستقبل القوة المنسحبة، علماً بأن لباريس قواعد عسكرية في تشاد وساحل العاج والسنغال. وبالمقابل، لم يصدر أي بلاغ عن المجلس العسكري بخصوص القاعدتين العسكريتين الأميركيتين أو الجنود الألمان والإيطاليين والبلجيكيين الموجودين في النيجر في أطر مختلفة. وهذا الواقع يبين بوضوح أكبر أن القطيعة هي بالتحديد مع البلد المستعمر السابق وليس مع الغرب بشكل عام.
إزاء انسداد الوضع في الداخل، واقتراب نهاية المهلة التي أعطتها «إيكواس» للانقلابيين للرجوع عن انقلابهم وإعادة محمد بازوم إلى موقعه الرئاسي، يبدو أن السير نحو تدخل عسكري يتم بخطى حثيثة. فاجتماعات رؤساء أركان 11 دولة منضوية في إطار المنظمة الأفريقية انتهت في أبوجا، كما انتهت زيارة الرجل الثاني في المجلس العسكري النيجري إلى باماكو وواغادوغو من أجل البحث في إنشاء جبهة مقابلة لجبهة «إيكواس» الداعية لاستخدام القوة العسكرية.
رفض الاستسلام لأي تهديد
وفي هذا السياق، قال الجنرال عبد الرحمن تشياني، رئيس الحرس الرئاسي سابقاً ورئيس المجلس العسكري والقائد الفعلي اليوم، إنه «يرفض الاستسلام لأي تهديد»، و«يرفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للنيجر»، وإن قواته «مستعدة للقتال والرد» على أي عمل عسكري يستهدفها. وجاء في بيان للمجلس أن «أي عدوان - أو محاولة عدوان - ضد دولة النيجر سيشهد رداً فورياً ودون إنذار من جانب قوات الدفاع والأمن النيجرية على أي عضو من أعضاء المنظمة باستثناء الدول الصديقة المعلقة عضويتها»، وهما بوركينا فاسو ومالي. وسبق لهذين البلدين أن حذرا من أن أي استهداف للنيجر سيعد «إعلاناً للحرب» عليهما، ما يستتبع تدخلهما العسكري.
لم تتأخر إيساتا تال سال، وزيرة خارجية السنغال، في إعلان استعداد بلادها في المشاركة بعملية عسكرية في النيجر وإرسال جنود إلى النيجر، إذا قررت «إيكواس» التدخل العسكري. وتفيد معلومات متداولة في باريس بأن ساحل العاج وبنين مستعدتان أيضاً للمشاركة، فيما ستكون القوات النيجرية العصب الرئيسي للقوة العسكرية، رغم تأكيد الرئيس النيجيري تمسكه بالسعي لـ«حل ودي».
لكن في غياب مثل هذا الحل، فإن أبوجا التي تتخوف من عدوى الانقلابات وتريد أن تفرض نفسها قوة مؤثرة تحافظ على الاستقرار في غرب أفريقيا وتدعم الأنظمة الديمقراطية وترفض خيار الانقلابات متسلحة بحجمها السياسي والاقتصادي والبشري وقواها العسكرية، تتخوف من أن التراجع عن التدخل سيفقد «إيكواس» أي مصداقية، وسينعكس ذلك على رئيسها بولا تينوبو الذي وصل إلى السلطة حديثاً، وهو من أشد الداعين لرفض التغيير السياسي الذي يتم بطرق غير ديمقراطية كما يريد وضع حد لقيام جبهة عريضة تضم الانقلابيين في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
عدم الرغبة في التدخل
يبقى سؤال أخير مزدوج وجهه الأول يتناول الموقفين الفرنسي والأميركي. بالطبع تشجع باريس وواشنطن «إيكواس»، لكنهما قطعاً لا ترغبان بالتدخل مباشرة وتسعيان للعمل بمبدأ «القيادة من الخلف»، لكنهما قادرتان على تغيير مسار الأحداث. والوجه الثاني يتناول «الغطاء القانوني» الذي يبيح التدخل العسكري. ومن الناحية المبدئية، ثمة طريقان لا ثالثة لهما: الأولى، الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي، وهو مستبعد بسبب «الفيتو» المرجح لروسيا والصين أو لكلتيهما معاً. والثانية، حصول طلب رسمي من الرئيس بازوم الذي تعدّه الأسرة الدولية رئيساً شرعياً وحيداً للنيجر. فهل ستعد الرسالة التي نشرها الأخير مساء الخميس في صحيفة «واشنطن بوست» وفيها عد نفسه «رهينة» ودعا «الحكومة الأميركية ومجمل الأسرة الدولية للمساعدة في إعادة الانتظام الدستوري» بمثابة دعوة رسمية للتدخل العسكري في بلاده؟ السؤال مطروح والإجابة في المقبل من الأيام.