لم يقتصر تأثير «التمرد المسلح» الذي أقدمت عليه قوات «فاغنر» في روسيا يوم السبت، على الأراضي الروسية فحسب، فكثير من الدول، بل والقارات، كانت تترقب تداعيات الحدث الذي وُصف بـ«المفاجئ والصادم»، وكانت أفريقيا من بين أكثر المتابعين لتطورات الموقف، حيث تنشط قوات تابعة لـ«فاغنر» في دول عدة بها، سواء بشكل معلن أو سري.
أزمة «فاغنر» طرحت تساؤلات عدة حول مستقبل المجموعة الروسية في القارة السمراء، وإذا ما كانت تحولات القيادة بها ستلقي بظلالها على واقع المجموعة في أفريقيا، أم سيتواصل استخدامها بوصفها ذراعاً لتمديد نفوذ موسكو في القارة، وسط تنافس دولي محتدم (سياسي وعسكري).
ولم يستبعد محللون من دول أفريقية تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، استمرار «التوظيفين السياسي والاستراتيجي» للمجموعة الروسية في القارة بوصفها أداة يستعين بها الكرملين في مواجهة استقطاب دولي حاد، إلا أنهم أشاروا إلى احتمالية «قلق مشروع» لدى الدول التي توجد «فاغنر» على أراضيها خشية تكرار سيناريو «الانفلات غير المتوقع».
بديل جذاب
وتشير تقارير لمؤسسات بحثية ومراكز استراتيجية دولية إلى تمركز قوات تابعة لمجموعة «فاغنر» الروسية في دول أفريقية عدة، منها مالي وأفريقيا الوسطى وليبيا والسودان، إضافة إلى تقديم خدمات أمنية بعدد من دول منطقة الساحل والصحراء.
ويصف تقرير نشرته شبكة المجتمع المدني «المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان (GIATOC)»، خلال العام الحالي، حول «فاغنر» في أفريقيا، المجموعة بأنها «اللاعب الروسي الأكثر نفوذاً في أفريقيا اليوم».
وأشار تحليل نشره موقع «مجلس العلاقات الخارجية (The Council on Foreign Relations - CFR)» إلى أن «فاغنر» تمتلك علاقات قوية مع عديد من الحكومات الأفريقية على مدى العقد الماضي من خلال عمليات في 8 دول أفريقية على الأقل، وفقاً لوثائق أميركية مسربة.
يقول اللواء دكتور معتصم عبد القادر الحسن، المستشار بالأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية في الخرطوم، «قدمت (فاغنر) خدمات عديدة في ليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي في مجال تدريب الجماعات المعارضة، والتخطيط العملياتي»، كما «عملت في السودان مع قوات (الدعم السريع) قبل تمردها»، خصوصاً في مجالي التدريب، وحراسة مناجم الذهب.
ويعتمد مستقبل «فاغنر» في أفريقيا، كما صرح الحسن لـ«الشرق الأوسط» على «طريقة تعامل الحكومة الروسية معها بعد الأزمة الأخيرة»، مشيراً إلى اعتقاده بأن الرئيس الروسي «في احتياج لهذه المجموعة سواء في أوكرانيا أو في أفريقيا؛ لأنها تلعب أدواراً من الصعب على الجيش الروسي الرسمي القيام بها».
وبحسب تحليل المنظمة الأميركية، فإن الحكام الأفارقة «يرون فاغنر بديلاً جذاباً لمصادر أخرى من القوة العسكرية، مثل بعثات الأمم المتحدة، وقوات الاتحاد الأفريقي، وقوات دول من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، التي لا تهتم كثيراً بأفريقيا بخلاف دعم المعارك ضد الإرهابيين المتطرفين».
ولفت تقرير مجلس العلاقات الخارجية إلى أن «نشر مقاتلي فاغنر في أفريقيا يجري بسرعة، كما أن امتلاكهم أسلحة متطورة يمكّنها من استخدام القوة بسرعة وبلا رحمة، بما يجعلها خياراً مفضلاً لدى عديد من الأنظمة في دول أفريقية تعاني اضطراباً أمنياً وسياسياً».
أدوار متعددة
ويشير تقرير نشره موقع مركز «الحوار الأفريقي» للدراسات السياسية (الأحد) بعنوان «مرتزقة مجموعة فاغنر في أفريقيا: لماذا لم تكن هناك معارضة فعالة لطردهم»، إلى انتشار عناصر المجموعة الروسية في أفريقيا الوسطى منذ عام 2018 للدفاع عن حكومة الرئيس فوستين أرشانغ تواديرا ضد هجمات المتمردين على العاصمة بانغي، وقد حصلت الشركات التابعة لـ«فاغنر» في المقابل على حقوق غير مقيدة في استغلال مناطق بالغابات، والسيطرة على منجم ذهب نداسيما الذي يحقق أرباحاً كبيرة.
ويشير تقرير المركز، الذي تأسس عام 2015 ولديه فروع في دول أفريقية عدة، إلى دور «فاغنر» في موزمبيق عام 2019 للمساعدة في محاربة تنظيم «داعش» في مقاطعة كابو ديلغادو الشمالية، رغم فشلها في احتواء التمرد وانسحابها من المنطقة بعد بضعة أشهر.
وفي السودان تقدم «فاغنر»، منذ عام 2017، خدمات تدريب وحراسة الموارد المعدنية، وفي الآونة الأخيرة ورد أن المجموعة كانت تزود ميليشيا قوات «الدعم السريع» السودانية بالصواريخ خلال حربها ضد الجيش السوداني، كما أشار إلى أدوار لـ«فاغنر» في ليبيا، حيث اتّهمت قوات «فاغنر» خلال عام 2019 بارتكاب عمليات قتل خارج نطاق القانون وزرع ألغام أرضية في مناطق مدنية.
واتهمت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، في مايو (أيار) 2022، «فاغنر» بـ«استخدام الألغام الأرضية المحظورة والفخاخ المتفجرة في ليبيا عامي 2019 و2020»، ودعت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في «تلك الجرائم».
ويتوقع الحسن، أن «يحتفظ بوتين بتلك المجموعة، رغم أحداث السبت، مع إجراء تعديلات مستقبلية في قيادة الجيش ووزارة الدفاع، وتعديلات على دور (فاغنر) في أوكرانيا وأفريقيا»، مشيراً إلى أن المجموعة حققت وجوداً عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً في أفريقيا و«بتكلفة ليست صفرية وحسب، وإنما بمكاسب ثمينة». ويخلص إلى أن «دور (فاغنر) سيتضاعف في القارة، القارة المغلوبة على أمرها، على حساب تقليص دورها في أوكرانيا»، على حد قوله.
مخاوف مشروعة
وتشير المؤشرات الأولية لتعاطي السلطات الروسية مع أزمة «فاغنر»، إلى أن «هناك حرصاً على الحفاظ على الجسم الرئيسي لها»، كما يلفت الدكتور خالد عكاشة مدير «المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية»، الذي أوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن «ثمة تفرقة بين أدوار المجموعة الروسية في أوروبا، وتحديداً في روسيا وأوكرانيا، والأدوار التي يمكن أن تؤديها خارجياً».
واستبعد عكاشة «الاستغناء عن (المكاسب) التي حققتها روسيا في المستقبل المنظور على الأقل»، لافتاً إلى أن أدوار فاغنر «عززت النفوذ الروسي في عديد من مناطق القارة، وفي مواجهة قوى كبرى، منها الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة وحتى الصين التي لا تتعارض صداقتها مع روسيا مع حقيقة التنافس بينهما في القارة الأفريقية، ومن الصعب التضحية بتلك المكاسب الكبيرة».
ولا تبدو الصورة حتى الآن واضحة في عديد من الدول الأفريقية التي تستعين بخدمات «فاغنر»، فقد رفض المتحدثان باسمَي حكومتي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى التعليق على أزمة المجموعة الروسية مع سلطات موسكو، لكن في المقابل يرى مدير المركز المصري للفكر، أن هاتين الدولتين ستنتابهما «مخاوف مشروعة»، مشيراً إلى أن «أزمة السبت»، التي أشعلتها «فاغنر» على الأراضي الروسية ستبقى «هاجساً يؤرق الدول التي توجد تلك المجموعة على أراضيها».
ويوضح أن المكون العسكري والاقتصادي لـ«فاغنر» «بات محل شكوك بشأن إمكانية تكرار الانفلات المفاجئ، وهو ما سيجبر الدول المستعينة بخدمات المجموعة الروسية على إعادة حساباتها»، إلا أنه يذهب في الوقت ذاته إلى أن معظم الدول المستعينة بفاغنر «تعاني هشاشة سياسية وأمنية تجعلها لا تستغني عن خدمات المجموعة بسهولة».
سيناريوهات متنوعة
تلك المخاوف لا تبدو بعيدة عن عيون محللي الوضع في دول توجد بها «فاغنر»، ومنها مالي التي كانت من أوائل الدول التي استعانت بخدمات المجموعة الروسية، إذ يتوقع المحلل السياسي المالي باسيرو دومبيا أن تكون للأزمة الأخيرة بين فاغنر والكرملين «عواقب على الجبهة الأمنية في مالي».
ويشير دومبيا لـ«الشرق الأوسط» إلى أن عناصر «فاغنر»، التي لا تحظى باعتراف رسمي في مالي، قدمت خدمات للتدريب والتسليح خلال مكافحة عناصر الجماعات المسلحة التابعة لتنظيمي «داعش» و«القاعدة»، وأن هناك أدواراً مهمة تقوم بها العناصر الروسية المدربة جيداً على هذا النوع من القتال.
ويعتقد المحلل المالي أن موقف موسكو من «فاغنر» سيكون له التأثير الأكبر في موقف باماكو من المجموعة الروسية، فحكومة مالي «لا تستطيع التضحية بعلاقاتها مع روسيا، حتى ولو من أجل الحفاظ على فاغنر، لا سيما أن هناك تعاوناً اقتصادياً وعسكرياً بالغ الأهمية من الصعب التضحية به».
ويبدي الدكتور خالد فهمي مستشار «مركز الدراسات الاستراتيجية»، التابع للقوات المسلحة المصرية، اتفاقاً حول تأثير التعاطي الروسي الرسمي مع «فاغنر»، مؤكداً أن إعادة دمج عناصر المجموعة في المجتمع العسكري الروسي سيكون لها تأثير لافت في حضورها على الساحة الأفريقية.
وأشار لـ«الشرق الأوسط» إلى سيناريوهات عدة لمستقبل «فاغنر» في أفريقيا، منها سيناريو إعادة بناء «داعش» بعد هزيمته في العراق وسوريا، حيث يتم وضع قيادة جديدة بمسمى وأسلوب عمليات مختلف، حيث يمكن أن يشكل أفراد المجموعة ممن لن ينضموا للجيش الروسي نواة لقوات جديدة تستخدم في المواقع ذاتها، لكن بغطاء مغاير، قد توفره الدول المستخدمة لخدمات «فاغنر».
واستبعد فهمي تخلي عناصر «فاغنر» عن مصالحهم الاقتصادية الكبيرة التي تحققت خلال السنوات الماضية، مشيراً إلى إمكانية تأسيس مجموعة مستقلة في أفريقيا، لا تتبع للقيادة المركزية في روسيا، وقد يكون لقيادات الصف الثاني في المجموعة دور لافت، بعد إبعاد مؤسس وقائد المجموعة يفغيني بريغوجين إلى بيلاروسيا، وإذا فشلت تلك القيادات، فقد تذوب عناصر «فاغنر» في صفوف ميلشيات أخرى، وتقدم خدماتها بصورة فردية، مشيراً إلى أن حسم أيّ من تلك السيناريوهات لحضور «فاغنر» في أفريقيا يحتاج إلى وقت قد يمتد إلى أشهر عدة لحين وضوح قرار موسكو بشأن مستقبل المجموعة، وبالأخص خارج حدودها.