يعيش الطبيب اختصاصي التخدير والعناية المكثفة، هيثم مكاوي، في شارع «الستين» الذي يعد إحدى أكثر المناطق سخونة منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع». غادر معظم سكان المنطقة الراقية منازلهم هرباً من القتال الذي يدور داخل الحي، لكن مكاوي لم يستطع المغادرة لأن كبار السن من أسرته لا يمكنهم الخروج. ويرى مكاوي أن اتفاق الطرفين في جدة قد يكون مناسبة يستغلها لإخراج ذويه كبار السن الذين حبستهم الحرب في أخطر مناطق القتال.
وتصاعدت حدة الاشتباكات بين الطرفين منذ عشية توقيع «إعلان جدة الإنساني» يوم الخميس الماضي؛ إذ شهدت أنحاء عدة من العاصمة الخرطوم عمليات قتالية واسعة، وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام أنباء عن انتهاكات لحقت بالمدنيين خلال اليومين الماضيين، من بينها اغتصاب لنساء، إضافة إلى اتساع دائرة النهب والسلب للمساكن والمنشآت والمصانع وغيرها. ومع التدهور القياسي في الأوضاع الإنسانية بعد أسابيع من القتال في الخرطوم، يترقب سكان المدينة الهدنة الفعلية للفرار من المدينة.
ورغم الخطر الماثل، بدا الطبيب مكاوي متفائلاً بالتزام الطرفين بوقف القتال، قائلاً: «تفاؤل الناس ناتج عن اعتقادهم بأن الطرفين يجب أن يتحليا بشرف الجندية الذي يعني حماية المواطنين». وتابع: «أتمنى أن يستمع الطرفان لصوت العقل ويحافظا على مصالح وأرواح المواطنين، فهذه حرب ليس فيها منتصر، والمنتصر فيها خاسر أيضاً، ومحصلتها الكاملة صفرية».
سوء الأوضاع الصحية
وبحكم مهنته، رأى الطبيب مكاوي بوضوح سوء الأوضاع الصحية في البلاد، قائلاً: «ساءت الأوضاع على الأرض بشكل ملحوظ رغم توقيع إعلان جدة الإنساني، وأثر هذا على الأوضاع الصحية بصورة كبيرة، ولم تعد في البلاد منظومة صحية تستطيع حتى التعامل مع مصابي الطرفين، ناهيك عن الخسائر وسط المدنيين، ودخلنا في أزمة دواء وننتظر أزمة جوع، الأوضاع هنا ضبابية وكارثية، حتى لو توقفت الحرب فستترك آثاراً سيئة جداً».
ومنذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات «الدعم السريع» في 15 أبريل (نيسان)، فر عشرات الآلاف من السودانيين لاجئين إلى دول الجوار: مصر، إثيوبيا، تشاد، جنوب السودان، فيما نزح آلاف آخرون من العاصمة إلى مناطق خارجها، وقدّرتهم منظمات طوعية بأكثر من 150 ألف لاجئ، وعشرات الآلاف من النازحين.
ولا تزال أعداد كبيرة من المتأثرين بالحرب في الخرطوم يتكدسون أمام البوابات الحدودية بين دول الجوار بانتظار السماح لهم بالدخول، وتضاعفت أسعار أجرة سيارات النقل الداخلي بصورة خرافية، فيما تحولت معظم المناطق الطرفية لمحطات نقل ولائي خارج العاصمة.
صحافية ميدانية
صحافية ميدانية طلبت عدم كشف اسمها، قالت إن «إعلان جدة» لم يؤثر على الأوضاع في الأرض بعد، بل إنها ساءت أكثر مما كانت عليه قبل توقيعه. وأضافت: «الإعلان نص على فتح ممرات آمنة للمدنيين، وفهم عند الكثير من الناس بأنه تحذير لهم للخروج من الخرطوم، وكأنه يقول لهم من لم يغادر فليتحمل مسؤوليته، وأن الأطراف ستواصل الاقتتال داخل المدن، وهذا مؤشر على أن الطرفين لا يحترمان المدنيين ولا يقران حقوقهم الأساسية، رغم زعمهما أنهما المسؤولان عن حماية المدنيين والأرض»، معتبرة صراع الطرفين على السلطة والنفوذ هو الخطر الحقيقي الذي يهدد البلاد والمواطنين.
وفي وسائل التواصل الاجتماعي السودانية، سخر الكثيرون من الاتفاق واعتبروه دعوة لإخلاء الخرطوم ليتقاتل فيها الطرفان، ونشطت دعوات للناس باستغلال الظرف لمغادرة المدينة، وتم تناقل العديد من الطرائف بشأنه، وقال أحد المعلقين في منصة «واتساب» إن السودانيين كانوا ينتظرون الاتفاقية لإخراج الجيش و«الدعم السريع» من الخرطوم، لكن ما حدث أن المدنيين هم من خرج.
تزايد القتال
وتزايدت حدة الأعمال القتالية بين الطرفين طوال اليومين اللذين أعقبا توقيع «إعلان جدة»، وهو ما فسره بعض المراقبين بأنها محاولات لتقوية أوضاع الطرفين على الأرض قبل وقف إطلاق النار، لكن بحكم التجربة فإن المواطنين لم يعودوا يثقون بتعهدات الطرفين، خاصة بعد فشل وخرق أكثر من هدنة لم يلتزم بها الطرفان.
ففيما لا تزال قوات «الدعم السريع» المحمولة على عربات دفع رباعي تتجول بين الأحياء، لم تتوقف عمليات القصف الجوي التي يقوم بها طيران الجيش على مقراتهم. ويقول مواطنون إن أعمال القصف الجوي تتم بعشوائية، وإنها ألحقت بهم ضرراً بالغاً. ونقلت تقارير يوم السبت، أن المطربة الشهيرة الشابة شادن محمد حسين، أصيبت بشظية في منزلها بمدينة أمدرمان، وتتناقل الوسائط الاجتماعية أخباراً مماثلة عن قصف تعرضت وتتعرض له أعيان مدنية ومساكن، أودى بحياة الكثيرين. ووفقاً للأمم المتحدة فإن عدد القتلى المدنيين تجاوز 500 قتيل، وتجاوز عدد الجرحى 5 آلاف، مع عدد كبير غير محصى للمنازل والمصانع والمنشآت الحكومية.
أنصار البشير
من جانبهم، اعتبر مؤيدو الجيش السوداني من أنصار نظام الرئيس المعزول عمر البشير، مجرد التفاوض «إهانة للجيش»، وظلوا يطالبون بضرورة حسم قوات «الدعم السريع» عسكرياً قبل أي تفاوض، بل دأبوا على وسم كل من يطالب بوقف الحرب بـ«الخيانة وعدم الوطنية». ومن قبيل هذه المواقف، نقلت صفحة على موقع «تويتر» عن أحد الصحافيين المعروفين بانتمائهم للحركة الإسلامية، وصفه للاتفاق بأنه «اتفاق الخيبة»، قائلاً: «اتفاق برهان مع الجنجويد - الدعم السريع - لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به»، معلناً مغادرته للبلاد، قائلاً: «غادرت السودان صباح اليوم، بعد اتفاق الخيبة، وأستودع الله أرضنا وشعبنا».
ووقع الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» في مدينة جدة السعودية، يوم الخميس الماضي، «إعلان جدة الإنساني»، الذي توسطت فيه كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، ونص بشكل رئيسي على حماية المدنيين وفقاً للقانون الدولي الإنساني، لكنه خلا من أي تحديد لآليات تنفيذه أو مراقبته، في الوقت الذي واصل فيه الطرفان التفاوض في جدة للوصول إلى اتفاق قصير لوقف إطلاق النار، مع آليات مراقبة.