وضعت دراسة حديثة «التنافس بين الجزائر والمغرب على ملء الفراغ في منطقة الساحل جنوب الصحراء» تحت المجهر، وذلك عقب تراجع النفوذ الفرنسي في دول المنطقة، إثر الانقلابات التي شهدتها بين عامي 2021 و2023، علماً بأن هذا التنافس لا يقتصر على منطقة الساحل، بل يمتد أيضاً إلى مؤسسات الاتحاد الأفريقي، حيث تحتدم التجاذبات بينهما بغرض كسب مواقع نفوذ.
ونشرت المؤسسة البحثية «مركز كارنيجي للشرق الأوسط»، بموقعها الإلكتروني، تقريراً للباحثة المتخصصة في الشؤون السياسية بالمغرب العربي، ياسمين زرهلول، ذكرت فيه أن الساحل يشهد «عملية إعادة اصطفافٍ استراتيجية ملحوظة، مدفوعةً باستعادة زخم النزعة القومية، وتراجع تأثير دول غربية كانت تتمتّع سابقاً بنفوذ كبير في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، واتّساع رقعة التنافس الجغرافي بين دولتَين قويتَين في منطقة المغرب العربي، هما المغرب والجزائر».

وأكدت الدراسة أن سياسة الحزم التي انتهجتها مالي والنيجر وبوركينافاسو مع فرنسا، بعد التحولات في أنظمة الحكم التي أفرزتها التغييرات خارج الانتخابات، وضعت حداً للنفوذ الفرنسي الذي امتد لعشرات السنين في المنطقة بحكم رواسب الاستعمار، مبرزة أن المغرب والجزائر «سارعا إلى ملء الفراغ الناجم عن ذلك، محاولَين استخدام مشاريع البنى التحتية الكبيرة كشكلٍ من أشكال التوظيف الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية خدمةً لأهداف السياسة الخارجية».
المواني وخطوط الطاقة أدوات لتصعيد التنافس
في ضوء هذا الصراع بين البلدين المغاربيين الكبيرين، «تجاوزت المواني وخطوط الأنابيب دورهما التقليدي بوصفهما وسائل للتنمية الاقتصادية، لتصبح عناصر محورية في الصراع حول القيادة والنفوذ الإقليمي لكل من الطرفين»، في تقدير الباحثة زرهلول، التي تجري أبحاثها في جامعة أكسفورد، حيث تركز على موضوعات مثل الحدود وأوضاع المغرب العربي بعد الاستعمار.
وكأمثلة على السباق بين البلدين على افتكاك مساحات للنفوذ في الساحل، ذكرت مشروع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب المطروح منذ عقدٍ من الزمن، وخط أنابيب الغاز العابر للصحراء، وهو مشروع جزائري تمّ تأخيره لفترةٍ طويلة.
وتشير الدراسة إلى أن المشروعين «سيعيدان رسم خريطة التفاعل بين المغرب العربي والساحل بعد اكتمال إنجازهما»، لافتة إلى مساهمة الإمارات العربية المتحدة في تمويل مشروع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب.

وأكدت الورقة البحثية أن «تحالف دول الساحل» الذي أطلقته الدول الثلاث في سبتمبر (أيلول) 2023، «أرسى إطاراً جديداً للتعاون الأمني والدفاع المشترك بينها»، وفي ضوئه انسحبت هذه الدول من تكتّلاتٍ تقليدية مثل «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا»، و«مجموعة دول الساحل»، التي تأسست بجنوب الجزائر في 2010. ومنحت هذه التحولات «المرونة اللازمة للدول الثلاث لإقامة علاقات عملٍ جديدة ككتلة واحدة، وهذا ما يُعطي التحالف قيمةً أكبر وتأثيراً أقوى، ويجعله شريكاً جذاباً محتملاً للمغرب والجزائر»، حسب الدراسة التي أوضحت أيضاً أن «بروز هذا التحالف كمنصّةٍ لتعزيز نفوذ دول الساحل، أتاح بشكلٍ غير مقصود الفرصة أمام المغرب والجزائر لتوسيع نطاق تأثيرهما، وزاد بالتالي من تنافسهما».
وتناولت الورقة «المبادرة الملكية الأطلسية» التي أطلقها المغرب في 2023، والتي تهدف إلى تمكين مالي والنيجر من الحصول على منفذٍ إلى المحيط الأطلسي مباشرةً عبر المواني البحرية المغربية. وستنتهي الممرّات البرية عند ميناء الداخلة في المياه العميقة، وهو مشروع يكلف 1.2 مليار دولار أميركي، حسب الدراسة، موجه لتفريغ وشحن أحجام كبيرة من البضائع.
نقص في التمويلات وغياب الاستقرار
أوضحت الورقة بأن نيامي يمكن أن تستفيد من مكاسب كبيرة يتيحها مشروع أنابيب الغاز العابر للصحراء؛ إذ من المتوقّع أن تمتلك النيجر حصة 10 في المائة من خط الأنابيب الذي يعبر نيجيريا والنيجر والجزائر، وهو ما من شأنه أن يمكّنها من تعزيز إمداداتها المحلية من الغاز وتحقيق الإيرادات، وفق الدراسة، التي تحرص على التأكيد بأن نجاح المشاريع الكبرى في منطقة الساحل «مرهون بتأمين التمويل والاستقرار الأمني، وهما عنصران تعاني المنطقة من نقص واضح فيهما»، موضحة أنه رغم إنشاء بنك كونفدرالي في عام 2025 لتعزيز السيادة المالية، «تبقى قدرات دول الساحل محدودة، ما يُلقي بظلال من الشك على إمكانية تنفيذ هذه المشاريع فعلياً».

وأغفلت الدراسة الإشارة إلى التوترات المتصاعدة بين الجزائر ودول «تحالف الساحل»، منذ حادثة إسقاط الطائرة المسيّرة المالية من قِبل سلاح الجو الجزائري مطلع أبريل (نيسان) الماضي. وقد أدّت هذه الحادثة إلى قطيعة دبلوماسية بين الدول الثلاث والجارة الشمالية، كما أعلنت دول التحالف، الأسبوع الماضي، انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، احتجاجاً على رفضها تسلُّم شكوى ضد الجزائر تتهمها بـ«بعمل عدواني موجه ضدها» في قضية تحطيم الطائرة.
الصراع الثنائي يمتد إلى المنظمة القارية
المعروف أن بين الجزائر والمغرب صراعاً قوياً على توسيع نطاق التأثير داخل مؤسسات الاتحاد الأفريقي، حيث يتركز بشكل خاص على قضية الصحراء. ومنذ عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي في عام 2017، بعد غياب دام أكثر من ثلاثين عاماً، تصاعدت حدة المنافسة بين الدولتين، حيث تسعى كل منهما إلى تعزيز نفوذها داخل هياكل الهيئة الأفريقية.

كما يتجاوز هذا الصراع نزاع الصحراء ليشمل التنافس بحدة على المناصب واللجان داخل الاتحاد الأفريقي، حيث يحاول الطرفان تعيين ممثلين موالين لهما في مواقع قيادية، تؤثر على صنع القرار في مجالات مثل السلم والأمن والتنمية والهجرة. كما يسعى كل بلد إلى تقديم نفسه شريكاً إقليمياً مفضلاً؛ فالجزائر تبرز دورها في دعم سيادة الدول وحل النزاعات، بينما يروج المغرب لنفسه بوصفه شريكاً تنموياً قادراً على تقديم مشاريع ملموسة في البنية التحتية والاستثمار.




