متطوعون يعيدون الحياة إلى قلب الخرطوم

مبادرة شعبية تعيد للبرلمان نظافته... وتكنس عنه «سخام» الحرب

الشابة قسمة علي تشارك في تنظيف محيط المبنى (الشرق الأوسط)
الشابة قسمة علي تشارك في تنظيف محيط المبنى (الشرق الأوسط)
TT

متطوعون يعيدون الحياة إلى قلب الخرطوم

الشابة قسمة علي تشارك في تنظيف محيط المبنى (الشرق الأوسط)
الشابة قسمة علي تشارك في تنظيف محيط المبنى (الشرق الأوسط)

اختلط الغبار برائحة الحديد المحروق، وامتدت الأيادي الشعبية لتمسك بالمكانس لا البنادق، لا تلاحقهم صحافة ولا أضواء تُسلَّط على جهودهم، ومع ذلك هم من قلب المدينة المنهكة، الخرطوم، يعيدون ترتيب الفوضى وإحياء «الأمل» بصبر المتعبين وإصرار الناجين.

هذه ليست مجرد حملة نظافة، بل إعلان شعبي بأن الخراب لا يهزم بالكلمات، بل بالأفعال الصغيرة المتكررة، رجال لاتزال إصاباتهم بائنة، ونساء عدن للعاصمة الخرطوم، بعد شهور من الغياب، وشباب دون وظائف لكنهم بآمال عريضة، اجتمعوا لا ليطلبوا شيئاً، بل ليفعلوا شيئاً بسيطاً، لكنه «جوهري».

مشهد لعملية تنظيف البرلمان وفي الخلفية يظهرالمبنى العتيق (الشرق الأوسط)

من أجل الوطن

شرعت مجموعة شبابية ونسوية تنضوي تحت اسم «من أجل الوطن» في إعادة نظافة «المجلس التشريعي» بالخرطوم - البرلمان السابق - لا ليزيلوا الغبار والأتربة فقط، بل ليعيدوا للمكان رمزيته، وتحويله من شاهد على الانهيار إلى نقطة انطلاق نحو الاستعادة، كأنهم يقولون للعالم: «لسنا بحاجة إلى معجزة، فقط مساحة آمنة، ووقت كافٍ، وشيء من الإرادة».

هذه ليست قصة عن مبنى جرى تنظيفه، بل قصة مدينة تنفض الرماد عن كتفيها، وشعب يؤمن بأن ما لا يبنيه السياسيون، قد يبنيه المواطنون حين يتخلون عن الانتظار.

بين أنقاض الحرب، شرع أكثر من 300 متطوع، وهم يحملون شعار حملة «من أجل الوطن»، لينظفوا بأياديهم ما دمَّرته الحرب، ليعلنوا أن أولى خطوات التعافي بدأت، لا في القاعات الرسمية، بل في شوارع المدينة، ووسط أنقاض البرلمان السابق.

أعضاء «من أجل الوطن» يزيلون الحشائش والخرائب المتراكمة (الشرق الأوسط)

«الرصاص لن يثنينا»

كان مبنى المجلس التشريعي لولاية الخرطوم ذاتَ يوم مركزاً للقرار الوطني، لكنه أصبح الآن ساحةً للإرادة الشعبية، وذلك أن عشرات الشباب والنساء، استهلوا حملةً واسعةً لتنظيف، وتنظيف مواقع أخرى في وسط المدينة «المدمَّرة»، وإزالة «رواسب الحرب» من طرقها ومبانيها.

لم يتذرع مصابو الحرب بإصاباتهم. جاء محمد حسين (60 عاماً)، متطوعاً «من أجل الوطن»، رغم أن 3 رصاصات طائشة أصابت يده اليمنى في أثناء المعارك، رصدته «الشرق الأوسط» يزيح شظايا الزجاج المتناثرة عن الأرض، وينقلها للقمامة، لكن الزجاجات أصابت يده اليسرى بجرح سال منه الدم غزيراً، كأنه يعيد الترنم بالأغنية الثورية «الرصاص لن يثنينا».

لم يذهب الرجل بعيداً، أو يتذرع بالإصابة ليعود أدراجه، بل جلس على كرسي بلاستيكي، ومن مجلسه شرع في توجيه المتطوعين، مرة يحذرهم من السقف المتصدع الذي تتدلى منه أسلاك الكهرباء المكشوفة، أو من مخاطر تختبئ تحت الأنقاض.

الشاب محمد مصطفى أحد المتطوعين يحاول إزالة الخرائب (الشرق الأوسط)

خطوات صغيرة تصنع الفرق

الشابة الثلاثينية، قسمة علي، وهي منشغلة بإزالة السخام، قالت لـ«الشرق الأوسط»: «عدت إلى الخرطوم، لأعيد لها شيئاً من كرامتها»، بعد أن فارقتها منذ بداية الحرب، وتابعت: «لم آت للنزهة، بل للمشاركة في تنظيف المبنى الذي يحمل رمزية وطنية كبيرة... الغبار خانق؛ لذلك أضع الكمامات والقفازات، وألفُّ رأسي بإحكام، لكن ذلك لن يمنعني أن أكون فخورة بما أعمل للمكان الذي يحتضن تاريخ بلادنا».

ودعا الشاب محمد مصطفى، أترابه للمشاركة في مبادرات إعادة الحياة لمدينتهم. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «نحن نعاني البطالة التي أفرزتها الحرب، ولدينا وقت فراغ كبير، فلماذا لا نخصصه لخدمة مدينتنا بدلاً عن انتظار المجهول؟».

وبينما يرفع محمد عبد الله بقايا الركام المحترق ويضعها في سيارات النفايات، تغيَّر لون جلبابه الأبيض إلى السواد، ومع ذلك وهو يمسح عرقاً أسود يتصبب منه، قال: «هذه مساهمة صغيرة، لكنها خطوة نحو بيئة نظيفة، وحياة جديدة».

المصاب بالرصاصات الثلاث محمد حسين يشارك في الحملة بيد واحدة (خاص)

عودة للحياة بعد موات

بدأت مبادرة «من أجل الوطن»، في منطقة شرق النيل بمدينة الخرطوم بحري، بمبادرة من الناشط المجتمعي، حيدر قدور، واتسعت أعمالها لتصل إلى وسط الخرطوم.

عرّف قدور المبادرة بأنها عمل تطوعي أبوابه مفتوحة لأي سوداني يرغب في إعادة الحياة إلى مدينته. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ما دمَّرته الحرب، لا تعيد إعماره الحكومة وحدها، بل علينا، بصفتنا شركاء في الوطن، لعب دور في إعادة إعماره».

كانت سلطات الولاية قد أعلنت سابقاً، أن آليات ومعدات النظافة، تعرَّضت للنهب والتخريب، ولتدمير «ممنهج»، وأن التقديرات تقول إن إعادة إعمار المدينة بحاجة لمليارات الدولارات الأميركية.

ورغم هذا الدمار الذي تشهده الأعين قبل أن ترصده التقارير، بدأت في العاصمة الخرطوم مؤشرات لعودة الحياة تدريجياً، يتبدى ذلك في العودة المحدودة للحكومة الاتحادية، وإعادة فتح عدد من المحلات التجارية وسط المدينة، وأحاديث عن خطة لاستئناف الرحلات الجوية عبر مطار الخرطوم.

ما تشهده الخرطوم الجريحة، وما يقوم به الناس هناك، ليس مجرد حملة تنظيف، بل فعل رمزي يقول إن الخرطوم لا تزال على قيد الحياة، وإن أهلها لم يفقدوا الإيمان باستعادة الوطن بأياديهم حتى ولو جريحة، وليس بأيدي غيرهم.


مقالات ذات صلة

«اليونيسف» تحذر من مستوى غير مسبوق من سوء التغذية بين الأطفال في شمال دارفور بالسودان

شمال افريقيا مستويات غير مسبوقة من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور (أ.ب)

«اليونيسف» تحذر من مستوى غير مسبوق من سوء التغذية بين الأطفال في شمال دارفور بالسودان

حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف»، اليوم الثلاثاء، من وجود «مستويات غير مسبوقة وخطيرة» من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور في غرب السودان.

«الشرق الأوسط» (دارفور)
شمال افريقيا عناصر من «الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ف.ب)

«الدعم السريع» تعلن سيطرتها على منطقة استراتيجية في جنوب كردفان

أعلنت «قوات الدعم السريع»، الثلاثاء، سيطرتها على منطقة «التقاطع» الاستراتيجية في ولاية جنوب كردفان.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا فتاة سودانية نازحة في مخيم بمدينة القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب) play-circle

أول بعثة أممية إلى الفاشر في السودان تتحدث عن مدنيين في حالة «صدمة» وظروف عيش «مُهينة»

حذّرت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالسودان دينيس براون، الاثنين، عقب عودتها من الفاشر بغرب البلاد، عن حالة «صدمة» يعيشها السكان في «ظروف مُهينة».

«الشرق الأوسط» (بورت سودان (السودان))
شمال افريقيا القافلة خلال تحركها الأحد من أمام مقر «الهلال الأحمر المصري» (مجلس الوزراء المصري)

أول قافلة مساعدات برية مصرية إلى السودان

انطلقت من القاهرة، الأحد، أول قافلة مساعدات برية مصرية إلى السودان، تحمل نحو 70 طناً من الأغذية والمستلزمات الطبية.

عصام فضل (القاهرة )
شمال افريقيا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يصافح رئيس «مجلس السيادة» قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في مجمع الرئاسة بأنقرة يوم 25 ديسمبر 2025 (أ.ف.ب)

البرهان يطلب من الرئيس التركي المساعدة في وقف الحرب

طلب رئيس «مجلس السيادة» قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التدخل والمساعدة في وقف الحرب ببلاده

محمد أمين ياسين (نيروبي)

تمديد حالة الطوارئ في تونس لمدة شهر

علم تونس (رويترز)
علم تونس (رويترز)
TT

تمديد حالة الطوارئ في تونس لمدة شهر

علم تونس (رويترز)
علم تونس (رويترز)

مددت تونس حالة الطوارئ في البلاد لمدة شهر تبدأ مطلع شهر يناير (كانون الثاني) المقبل حتى يوم 30 من الشهر نفسه.

ونشر قرار التمديد من قبل الرئيس قيس سعيد في الجريدة الرسمية. وكان آخر تمديد شمل عام 2025 بأكمله.

ويستمر بذلك سريان حالة الطوارئ في البلاد لأكثر من عشر سنوات، منذ التفجير الإرهابي الذي استهدف حافلة للأمن الرئاسي وسط العاصمة يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015، وأدى إلى مقتل 12 عنصراً أمنياً ومنفذ الهجوم الذي تبناه تنظيم «داعش».


«اليونيسف» تحذر من مستوى غير مسبوق من سوء التغذية بين الأطفال في شمال دارفور بالسودان

مستويات غير مسبوقة من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور (أ.ب)
مستويات غير مسبوقة من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور (أ.ب)
TT

«اليونيسف» تحذر من مستوى غير مسبوق من سوء التغذية بين الأطفال في شمال دارفور بالسودان

مستويات غير مسبوقة من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور (أ.ب)
مستويات غير مسبوقة من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور (أ.ب)

حذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف»، اليوم الثلاثاء، من وجود «مستويات غير مسبوقة وخطيرة» من سوء التغذية بين الأطفال بولاية شمال دارفور في غرب السودان.

وقالت المنظمة، في بيانٍ نشره موقع أخبار الأمم المتحدة، إن مسحاً حديثاً أظهر أن أكثر من نصف الأطفال الذين جرى تقييمهم في محلية أم برو بالولاية يعانون سوء التغذية الحادّ، «في ظل استمرار القتال وقيود شديدة على وصول المساعدات الإنسانية المُنقذة للحياة».

ووفقاً للمسح، الذي أجرته «اليونيسف»، في الفترة بين 19 و23 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، يعاني واحد من بين كل ستة أطفال من «سوء التغذية الحاد الوخيم»، وهي حالة تهدد الحياة ويمكن أن تُودي بحياة الطفل في غضون أسابيع إذا لم يجرِ علاجها.

وقالت المديرة التنفيذية للمنظمة كاثرين راسل إن «كل يوم يمر دون وصول آمن ودون عوائق يزيد خطر ضعف الأطفال ومزيد من الوفيات والمعاناة من أسباب يمكن الوقاية منها تماماً».

ودعت «اليونيسف» كل الأطراف إلى السماح بوصول المساعدات بشكل فوري وآمن ودون عوائق، وحضّت المجتمع الدولي - بما يشمل الدول التي لها نفوذ على أطراف الصراع - على تكثيف الضغط الدبلوماسي والسياسي، بشكل عاجل، لضمان الاتفاق على هدنة إنسانية واحترامها.

وتابعت المنظمة: «دون هدنة إنسانية يمكن التنبؤ بها واحترامها، لن يكون بوسع عمال الإغاثة إيصال الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الطبية وخدمات الحماية بأمان، ويستمر الأطفال في دفع الثمن الأكبر».


«الدعم السريع» تعلن سيطرتها على منطقة استراتيجية في جنوب كردفان

عناصر من «الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ف.ب)
عناصر من «الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

«الدعم السريع» تعلن سيطرتها على منطقة استراتيجية في جنوب كردفان

عناصر من «الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ف.ب)
عناصر من «الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ف.ب)

أعلنت «قوات الدعم السريع»، الثلاثاء، سيطرتها على منطقة «التقاطع» الاستراتيجية في ولاية جنوب كردفان، ونشر عناصر تابعون لها مقاطع مصورة تُظهر انتشارها هناك.

ولم يصدر أي تعليق من الجيش السوداني بهذا الخصوص، مع استمرار تمدد «الدعم السريع» وحليفتها «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة عبد العزيز آدم الحلو، في مناطق واسعة من الإقليم.

وقالت «الدعم السريع»، في بيان نشر على منصة «تلغرام»، إن «قوات تأسيس» المتحالفة معها بسطت سيطرتها بالكامل على المنطقة الواقعة بين مدينتي كادوقلي والدلنج، وإن هذه الخطوة تأتي «ضمن عمليات الانفتاح العسكري وتأمين الخطوط المتقدمة»، كما أنها تمكنت من «تسلم عدد من المركبات العسكرية والأسلحة والذخائر».

وأوضح البيان أن «هذا الانتصار يمثل خطوة أساسية نحو تحقيق أهداف استراتيجية في الولاية».

وتخضع مدن ولاية جنوب كردفان، خصوصاً العاصمة كادوقلي ومدينة الدلنج، لحصار خانق تفاقمت حدته عقب استيلاء «الدعم السريع» على مدينة بابنوسة، وبلدة هجليج النفطية، بولاية غرب كردفان، وانسحاب قوات الجيش التي كانت في تلك البلدات إلى دولة جنوب السودان.

من جهة ثانية، أفادت مصادر بأن الجيش السوداني شن هجمات بالطائرات المسيّرة الانتحارية والقتالية، على مواقع عدة لتمركزات «قوات الدعم السريع» حول مدينتي كادوقلي والدلنج، في محاولة لإيقاف تقدمها بالولاية.

نازحون يصطفون للحصول على مساعدات غذائية في مخيم بشمال كردفان (أ.ف.ب)

وتجدد القتال بضراوة في مناطق واسعة من ولاية جنوب كردفان خلال الأشهر الماضية بعد انضمام «الحركة الشعبية» إلى «قوات الدعم السريع»، وفصائل عسكرية أخرى، ضمن «تحالف السودان التأسيسي (تأسيس)».

بدورها، قالت «الحركة الشعبية»، في بيان الثلاثاء، إنها سيطرت على حامية عسكرية تابعة للجيش السوداني في منطقة تقاطع البلف، على طريق الدلنج - كادوقلي. وأضافت أن قواتها تواصل التقدم الميداني في إطار عمليات تهدف للوصول إلى العاصمة كادوقلي.

والأسبوع الماضي سيطرت «قوات تأسيس» على بلدة برنو، التي تبعد نحو 30 كيلومتراً من مدينة كادوقلي، وبدأت تتوغل في المناطق الجبلية المحيطة بها.

وكانت منصات «الدعم السريع» قد تحدثت في الأيام الماضية عن تحشيد كبير لقواتها في مناطق بالقرب من كادوقلي بهدف تكثيف الضغط على الجيش والقوات المتحالِفة معه، وتعزيز مواقعها في مناطق استراتيجية بهدف تمهيد الطريق لمهاجمة المدينة.

وفي وقت سابق سيطرت «الحركة الشعبية» على منطقتي الكرقل والدشول، الواقعتين على الطريق الرئيسية المؤدية إلى الدلنج؛ ثانية كبرى مدن الولاية، واتهمت الجيش السوداني والقوات المتحالفة بـ«عدم السماح للمدنيين بالمغادرة واستخدامهم دروعاً بشرية».

ومنذ أشهر تفرض «قوات تأسيس» طوقاً محكماً على كل المناطق حول مدن جنوب كردفان، وتقطع طرق وخطوط الإمداد لقوات الجيش السوداني المحاصَرة داخل كادوقلي.