هل تغادر تشاد دوامة «الانقلابات» وتدخل المسار الديمقراطي؟

أنهت الماراثون الرئاسي بـ«خروقات» وتنتظر النتائج

مسؤول في مركز اقتراع يقوم بعدِّ الأصوات في مركز الاقتراع بمدرسة أبينا في نجامينا في 6 مايو 2024 خلال الانتخابات الرئاسية في تشاد (أ.ف.ب)
مسؤول في مركز اقتراع يقوم بعدِّ الأصوات في مركز الاقتراع بمدرسة أبينا في نجامينا في 6 مايو 2024 خلال الانتخابات الرئاسية في تشاد (أ.ف.ب)
TT

هل تغادر تشاد دوامة «الانقلابات» وتدخل المسار الديمقراطي؟

مسؤول في مركز اقتراع يقوم بعدِّ الأصوات في مركز الاقتراع بمدرسة أبينا في نجامينا في 6 مايو 2024 خلال الانتخابات الرئاسية في تشاد (أ.ف.ب)
مسؤول في مركز اقتراع يقوم بعدِّ الأصوات في مركز الاقتراع بمدرسة أبينا في نجامينا في 6 مايو 2024 خلال الانتخابات الرئاسية في تشاد (أ.ف.ب)

على وقع أزيز طائرات حربية تطوف سماء حي «شغوا»، على مستويات منخفضة، كانت تشاد تطوي يومها الثاني والأخير من انتخابات رئاسية وُصفت بـ«الاستثنائية» جرت بين 10 مرشحين أبرزهم، رئيس المرحلة الانتقالية محمد إدريس ديبي، ورئيس وزرائه الدكتور سيكسيه مسارا.

وجرت عملية الاقتراع التي اكتنفتها بعض «الخروقات» (الأحد والاثنين) الماضيين، في أجواء «توتر شديدة»، وانتشار أمني في العاصمة نجامينا، ليكون أول ماراثون رئاسي بمنطقة الساحل الأفريقي منذ موجة انقلابات، طارحاً كثيراً من التساؤلات.

وقُبيل إعلان النتائج المبدئية، الخميس، ينقسم جُل التشاديين إلى فريقين رئيسيين كل منهما يأمل لمرشحه حسمها. فهناك من يأمل في فوز الشاب ماسرا، بينما ينتظر آخرون نجاح ديبي «ليستكمل ما بدأه من تنمية»، وكلاهما يتمنى خروج تشاد من «دائرة التوتر»، وفق عمر المهدي بشارة، رئيس «حزب حركة الخلاص الوطني» التشّادية (MSNT).

وعكست الحملات الانتخابية التي شهدتها البلاد طوال الشهر الماضي، حالة من الاحتقان تمثلت في رفع شعارات مبطنة لم تخلُ من التهديد والوعيد، إذا جرى التلاعب بنتائج الاستحقاق، وهو الشعور الذي يراود تشاديين كثيرين.

كما لم يخلُ المشهد الانتخابي من إسالة دماء؛ إذ أفادت تقارير إعلامية تشادية بمقتل ناخب على الأقل في موندو، ثاني أكبر مدينة في الدولة الواقعة في وسط أفريقيا، إلى الجنوب من العاصمة نجامينا، بعد أن فتح مسلحون مجهولون النار على مركز اقتراع.

عمر المهدي بشارة رئيس «حزب حركة الخلاص الوطني» التشّادية «MSNT» (الشرق الأوسط)

وفي ظل أجواء ساخنة، استبق ماسرا وقوع أي تزوير محتمل، موجهاً حديثه إلى مالك منصة «إكس» إيلون ماسك، بمدّ التشاديين بخدمة الإنترنت، بداعي أن «النظام الحاكم سيقطع الإنترنت في حال هزيمته»، كما دعا أنصاره عبر حسابه على «فيسبوك» برصد ومتابعة حالات المخالفة وتوثيقها.

غير أن بشارة، الذي تحدث إلى «الشرق الأوسط» لم يخفِ شكوكه من أن السلطة الانتقالية قد ترفض تسليم الحكم حال إخفاقها في الاستحقاق الذي عدّه «تحصيل حاصل»، متحدثاً لنا على كثير من «الخروقات» التي اكتنفت الانتخابات.

استمارة مسربة لعميلة فرز الأصوات في الانتخابات التشادية (الشرق الأوسط)

ويضع هذا الاستحقاق ديبي في مواجهة ماسرا الذي كان في السابق معارضاً سياسياً، وفرّ إلى خارج البلاد في عام 2022، ولكن سُمِح له بالعودة بعد عام. ويخوض السباق أيضاً رئيس الوزراء السابق ألبرت باهيمي باداكي و7 مرشحين آخرين.

وثمّن ديبي، رئيس الفترة الانتقالية موقف الشعب التشادي، وقال: «بينما تعيش العملية الانتقالية أيامها الأخيرة مع بدء فرز أصوات الناخبين، أشيد بالشعب الذي ذهب إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة وبهدوء لترشيح زعيمه، هذا الصفاء يبلور بشكل رائع النضج الديمقراطي للشعب صاحب السيادة».

وعدّد نشطاء تشاديون أشكال التجاوزات والخروقات التي شابت عميلة الاقتراع، من بينها «عدم عثور مواطنين من الأقاليم الجنوبية لم يجدوا بطاقاتهم في مراكز التصويت، مع اكتشاف صناديق معبأة ببطاقات ناخبين جرى حرقها».

صناديق اقتراع محترقة خلال عملية الاقتراع في تشاد (الشرق الأوسط)

ويبلغ عدد الناخبين المسجلين نحو 8.5 مليون شخص. وإذا لم يحصل أي مرشح على أكثر من 50 في المائة من الأصوات سيجري اللجوء إلى جولة ثانية في 22 يونيو (حزيران). وتزامن التصويت مع انسحاب مؤقت للقوات الأميركية من تشاد، الحليف المهم في منطقة غرب ووسط أفريقيا.

ومن بين الأسئلة التي يطرحها الاستحقاق «الاستثنائي» الذي يحلّ على تشاد: ما مدى إمكانيتها مغادرة «دائرة التوتر» والانتقال إلى المسار الديمقراطي؟ وهناك يقول رئيس «حزب حركة الخلاص الوطني»: «لا نعتقد أننا سنغادر هذه الدائرة سريعاً».

وأرجع بشارة ذلك لأسباب من بينها «الصراعات المسلحة في دول الجوار، والنفوذ الدولي في دول الساحل والصحراء... هذه الأسباب بالتأكيد ستكون عقبة أمام المسار الديمقراطي في تشاد الذي ستعلن نتائجه بشكل نهائي في 21 مايو (أيار) الحالي».

ويرجع كثير من التشاديين أسباب تحليق الطائرات العسكرية، صاحبة (الأزيز) إلى أنها كانت تستهدف مراقبة منزل رئيس الوزراء ماسرا في حي «شغوا»، بموازاة دوريات أمنية ومشاهدة مركبات مدرعة وعربات تقل جنوداً، بالإضافة إلى قوات مكافحة الشغب، خصوصاً في الأحياء الجنوبية المؤيدة للمعارضة بالعاصمة نجامينا.

ويرى الصحافي التشادي أبو بكر محمد عبد السلام، أن بلده كغيره من بلدان المنطقة الأفريقية في شريط الساحل والصحراء، مر بصراعات سياسية واجتماعية واقتصادية عدة على مرّ نصف قرن، «ومنذ استقلاله وحتى الآن يعيش في حالات مزرية واضطرابات مختلفة عقّدت عليه الانتقال الديمقراطي».

استمارة مسربة لعملية فرز الأصوات في الانتخابات التشادية (الشرق الأوسط)

ويعتقد عبد السلام في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أنه رغم امتلاك تشاد موارد تجعلها في مصاف الدول الناهضة، «فإن الإدارات المتعاقبة القائمة على الحكم القبلي سعت طويلاً لتغذية أطماع القبائل، واللعب على إثنيات بعينها؛ بينما بقية الشعب تشهد عذابات وويلات الحروب المتقطعة من فترة إلى أخرى».

وهنا يستدرك عبد السلام: «تظل هذه الانتخابات كمثيلاتها من الاستحقاقات الأخرى التي مرت، وبنفس الأدوات والأساليب، والتوقعات بفوز مرشح (التحالف من أجل تشاد موحد)»، في إشارة إلى محمد ديبي ووالده الراحل إدريس.

كان ديبي، الذي أدلى بصوته في ساعة مبكرة من صباح (الاثنين)، قد تعهد بتعزيز الأمن، وسيادة القانون، وزيادة إنتاج الكهرباء. وقال في منشور على «فيسبوك» بعد التصويت: «اليوم أتعهد بتنفيذ التزام رابع، وهو إكمال عملية الانتقال (السياسي) التي بدأت في البلاد منذ 3 سنوات. والأمر الآن في يد الشعب الذي يجب أن يُقبل على التصويت بكثافة لاختيار رئيسه».

وزاد عبد السلام من الحديث عن الخروقات التي شهدتها العملية الانتخابية، وقال إنه في ظل غياب إشراف الجهات الدولية على مراقبة الانتخابات، «شوهد كثير من التجاوزات، ووُثّق بعضها» من بينها نقل صناديق الاقتراع، وملؤها لصالح بعض المرشحين، كما سرق البعض بيانات لناخبين وأوصلوها إلى منازل أحد المرشحين.

مسؤول مركز اقتراع يقوم بإحصاء الأصوات في مركز الاقتراع في مدرسة أبينا بنجامينا في 6 مايو 2024 خلال الانتخابات الرئاسية في تشاد (أ.ف.ب)

ويرى الصحافي التشادي أن هذه التصرفات «لا يمكن أن تجلب ديمقراطية، وأي تحول في الحاضنات الديمقراطية يجب أن يتسم بالنزاهة عبر صناديق الاقتراع»؛ «لذا أستبعد أن ينعم بالديمقراطية بلد مر بكل هذا الخراب في التنظيم والأنظمة».

جلّ التخوفات التشادية تتجسد في تشابه المواقف، حيث يعتقد البعض أن هذه الأجواء تتشابه إلى حد ما مع نفس أجواء ما قبل انتخابات الرئيس الراحل إدريس ديبي. وكانت بعض أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، قد استبقت الماراثون، ودعت إلى مقاطعة الانتخابات، وأرجعوا هذا إلى مخاوف بشأن احتمال تزويرها.

واعتلى محمد ديبي السلطة، وأصبح زعيماً لتشاد، في أبريل (نيسان) 2021، خلال عملية وُصفت بـ«الانقلاب العسكري» بعد مقتل والده إدريس ديبي، الذي سبق أن تولى السلطة عبر «انقلاب عسكري» عام 1990. ويرأس محمد، الآن، المجلس العسكري الانتقالي المكون من 15 عضواً.


مقالات ذات صلة

«نساء القطط»... جينيفر أنيستون تهاجم فانس لانتقاده هاريس «غير المنجبة»

الولايات المتحدة​ الممثلة الشهيرة جينيفر أنيستون (أ.ب)

«نساء القطط»... جينيفر أنيستون تهاجم فانس لانتقاده هاريس «غير المنجبة»

انتقدت الممثلة الشهيرة، جينيفر أنيستون، جي دي فانس، بعد أن وصف بعض السيدات من الحزب الديمقراطي، بمن في ذلك كامالا هاريس بـ«نساء القطط بلا أطفال».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (أ.ف.ب)

ترمب يحذر: الأبقار قد تحل مكان البشر

يعتقد الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب أن الأبقار ستحل مكان البشر في النهاية إذا تم حظر تناول اللحوم الحمراء.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الوزير السابق بلقاسم ساحلي يعلن رفع طعون في قرار رفض ترشحه للرئاسة (إعلام الحملة)

وزير جزائري سابق يطعن في أسباب رفض ترشحه للرئاسة

رفض وزير جزائري سابق المسوّغات التي قدمتها «سلطة الانتخابات» لتفسير رفض ترشحه لاستحقاق الرئاسة، فيما أعلن مرشحان تم قبول ملفهما عزمهما خوض الحملة الشهر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون أبرز المرشحين للفوز بولاية ثانية (الرئاسة)

غربلة ملفات المرشحين لـ«رئاسة» الجزائر تبقي على 3

سيقتصر السباق في الانتخابات الرئاسية الجزائرية، المقررة في السابع من سبتمبر المقبل، على ثلاثة مترشحين، بحسب ما أعلنت عنه هيئة الانتخابات.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
أوروبا لوسي كاستيتس مرشحة لمنصب رئيس الوزراء في فرنسا 4 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

من هي لوسي كاستيتس المرشّحة لقيادة حكومة فرنسا؟

اقتصادية غير معروفة... من هي لوسي كاستيتس المرشّحة لقيادة الحكومة الفرنسية؟

كوثر وكيل (باريس)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز