مسؤولون سابقون يستعرضون لـ«الشرق الأوسط» سياسة واشنطن تجاه السودان

في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع»

عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)
عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)
TT

مسؤولون سابقون يستعرضون لـ«الشرق الأوسط» سياسة واشنطن تجاه السودان

عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)
عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)

في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب في السودان، تتخبط السياسة الأميركية في سعيها للتوصل إلى حل سلمي يضمن وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية إلى الملايين من السودانيين العالقين في خط النزاع.

فبعد أكثر من أشهر على توقف محادثات جدة، تأمل الولايات المتحدة في عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات الشهر الحالي، مع سعي المبعوث الجديد إلى السودان توم بيريللو، لدفع الطرفين المتنازعين على التفاوض بهدف إنهاء النزاع. وفي هذا الإطار، استعرضت «الشرق الأوسط» آراء مسؤولين أميركيين سابقين بشأن النزاع في السودان والسياسة الأميركية هناك.

ووصفت سوزان بايج، السفيرة الأميركية السابقة لدى دولة جنوب السودان، الوضع في السودان بـ«المروع»، معربة عن أسفها حيال غيابه عن التغطية الإعلامية حول العالم في ظل الأزمات الدولية المزدادة. وقالت بايج لـ«الشرق الأوسط»: «هناك كثير من الأزمات الأخرى في العالم، حيث توجد أيضاً حالات إنسانية صعبة وحروب جارية، لكن السودان مهم للغاية والناس هناك يعانون حقاً».

من ناحيته، يعد دونالد بوث المبعوث الخاص السابق إلى السودان ودولة جنوب السودان، أنه بعد عام من الصراع «يبدو أن الانقسامات في السودان تتعمق وتزداد صلابة». ويفسّر بوث لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً إن «القوات المسلحة السودانية (الجيش) التي ظهر قادتها خلال حكم البشير الإسلامي بعد انقلاب عام 1989 تعتمد بشكل مزداد على دعم أنصار نظام البشير السابق، بما في ذلك (حركة العدل والمساواة)، وهي المعارضة الإسلامية السابقة في دارفور. إن مكاسب الجيش السابقة دفعت بالآخرين إلى زيادة دعمهم له، ولهذا فإن المجموعة الوسطية من العناصر المسلحة المحايدة تتقلص. وشروط الجيش لوقف إطلاق النار تتمثل في دعوة قوات (الدعم السريع) للاستسلام والتفكك. ومن ناحيتها، تعدّ قوات (الدعم السريع) والجنرال حميدتي أنهم لن يجدوا مكاناً لهم في السودان إذا انتصر الجيش والإسلاميون، ولهذا فلديهم حافز على القتال. سوف يستمرون في هذا طالما يحافظون على الدعم الخارجي. أما المجموعات المدنية السياسية ومجموعات المجتمع المدني التي تحاول البقاء على الحياد وتسعى لعملية انتقالية تقود إلى حكومة مدنية، فلا تزال مشتتة بسبب الخلافات السياسية والشخصية».

طفلان يحملان مساعدات في مدرسة تؤوي نازحين فروا من العنف في السودان 10 مارس 2024 (أ.ف.ب)

نوع العملية الانتقالية

وأوضح بوث أن «ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، عكست رفضاً للدولة الإسلامية، لكن الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين أصبح أكثر عمقاً. بالإضافة إلى ذلك، يحدث الصراع الحالي في وقت يشهد فيه النظام الدولي تقلبات كبيرة، مع التأثير الكبير لكثير من اللاعبين الخارجيين في رسم كيفية تطور الصراع». ويختم بوث قائلاً إن «السودان بحاجة ماسة إلى حوار وطني شامل لرسم طريق إلى الأمام يمكن لمجموعة واسعة من السودانيين الاتفاق عليها. ثم يحتاج إلى أمر نادر الوجود، وهو قائد يتمتع بالكاريزما والمهارة السياسية اللازمة لرؤية مسار نحو تنفيذ الرؤية هذه وبناء شعور بالهوية الوطنية المشتركة».

ويعدّ بوث أن «القوات المسلحة ليست مهتمة بنوع العملية الانتقالية التي يسعى إليها المدنيون، ولهذا فهم يحاولون تقويض مصداقية المدنيين عبر الزعم أنهم، خصوصاً تحالف (تقدم)، يساندون قوات (الدعم السريع)». كما يشير بوث إلى أن كل طرف في النزاع يعدّ المساعدات الإنسانية تساعد الطرف الآخر، ولهذا فقد تصدوا لإيصالها.

وفي خضم هذه التجاذبات يتساءل بوث: «كيف يمكن لهذا الكابوس أن ينتهي؟ ربما بفوز طرف واحد رغم أن هذا مستبعد نظراً لتاريخ السودان في الحروب الأهلية. ربما تظهر جهود إقليمية ودولية موحدة تستطيع إقناع الجيش وقوات (الدعم السريع) بالموافقة على وقف لإطلاق النار بمراقبة خارجية وإيصال المساعدات الإنسانية. أو ربما ستؤدي المجاعة إلى إعادة ضبط تفكير الطرفين».

من ناحيته، يعدّ ألبرتو فرنانديز القائم بأعمال السفير الأميركي في السودان سابقاً، أن الوضع يبدو أنه على حاله من الناحية العسكرية «رغم التقدم الأخير من جانب الجيش خلال الشهرين الماضيين مقارنة بتقدم قوات (الدعم السريع) في ديسمبر 2023». ويضيف فرنانديز لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «هذا يعني استمرار وتفاقم الكارثة الإنسانية بحق الشعب السوداني. ورغم أن الجيش يتقدم الآن، فإن هذا لا يعد اتجاهاً حاسماً، سيكون هناك مزيد من القتال».

أما كاميرون هادسون كبير الموظفين السابق في مكتب المبعوث الخاص إلى السودان، فيؤكد أن التوصل إلى نهاية للحرب أصبح أكثر صعوبة من بداية النزاع. ويضيف في حديث مع «الشرق الأوسط» قائلاً: «لقد وصل الطرفان إلى نقطة يصعب فيها الاستسلام، لكن في الوقت نفسه لم يخسر أي طرف بما فيه الكفاية كي يتوقف تماماً عن القتال. بالإضافة إلى ذلك، لقد فقد المجتمع الدولي تركيزه ونفوذه، مما ترك البلاد في حالة من الفوضى. في هذه المرحلة، لا يمكن التحدث عن انتقال سياسي، بل يجب أن نركز على تجميد النزاع لدرجة يمكن فيها إيصال المساعدات الإنسانية. فإن لم يحدث ذلك فسيموت مزيد من الناس بسبب الجوع والأمراض التي يمكن علاجها... أكثر مما سيموتون جراء الحرب».

آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» في الخرطوم (رويترز)

طروحات وانتقادات

ومع استمرار النزاع من دون «نور في نهاية الأفق»، يلوح فرنانديز بخيارين يمكن لإدارة بايدن أن تعتمدهما لإنهاء النزاع، محذراً من «خطورتهما»: الأول إقناع الطرفين بأن التسوية المتفاوض عليها مع هدنة عاجلة هي المسار الوحيد للخروج من الحرب، أو التزام الولايات المتحدة بشكل حاسم بدعم طرف على حساب الآخر.

وأضاف فرنانديز أن المشكلة في هذه الأزمة أن «الطرفين يريدان الانتصار، خصوصاً الجيش الذي يعتقد أنه يحقق تقدماً الآن. لذلك فإن الطرف الأضعف هو من سيطلب الهدنة. إذن، هل تركز السياسة الأميركية على الهدنة والمساعدات الإنسانية والمفاوضات وغيرها، أم على النتيجة النهائية عبر دعم أميركي للقوات المسلحة على حساب الطرف الآخر لتحقق الفوز الميداني من دون معرفة ما سيحدث بعد ذلك؟ لو كانت هناك حلول سهلة لكانت حصلت».

من ناحيتها، وجهت بايج انتقادات لاذعة للإدارة الأميركية في تعاطيها مع ملف السودان، مشيرة إلى تأخرها مثلاً في تعيين سفير أميركي بالخرطوم، وقالت: «السياسة الأميركية في السودان ارتكبت كثيراً من الأخطاء وأضاعت كثيراً من الفرص. كثير من دبلوماسيتنا أصبح معسكراً، فقد اعتدنا على التعامل مع كل شيء عبر التركيز على مكافحة الإرهاب، ونرى كل الأمور من ذلك المنظار».

كما أعربت السفيرة السابقة عن خيبة أملها من عدم إعطاء المبعوث الخاص المعين توم بيريللو صلاحيات كافية تضمن حصوله على خط تواصل مباشر مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، مشيرة إلى أنه يقدم تقاريره من خلال مساعدة بلينكن، مولي فيي. وأضافت أن «فكرة وجود مبعوث خاص أنه يقدم زاوية فريدة من نوعها لا تقدمها بالضرورة مساعدة الوزير أو السفير. لذلك فإن أسلوب التعيين مخيب للآمال بعض الشيء».

لاجئون سودانيون يجمعون المياه من بئر في مخيم «أدريه» على الحدود السودانية - التشادية (إ.ب.أ)

غياب التصريحات القوية

كما تنتقد بايج غياب تصريحات قوية وواضحة من قبل الإدارة حول ما يجري في السودان، قائلة: «أين هي التقارير حول ما يحدث في المفاوضات؟ ما المواقف؟ ماذا حصل للاتفاق الذي تم التوقيع عليه والذي اتفق من خلاله الطرفان على احترام القانون الإنساني وعدم استهداف المدنيين؟ ماذا فعلنا حيال ذلك؟ كان من المفترض أن تكون هناك آلية تنفيذ. أين تقف هذه الآلية الآن؟».

وسلطت بايج الضوء على صعوبة إقناع الأطراف المتقاتلة بضرورة التوصل إلى حل تفاوضي، ففسرت قائلة: «العناصر المقاتلة دوماً تعتقد أنها تستطيع الفوز في ساحة المعركة. ومن الصعب دائماً إقناعها بوجوب التوصل إلى حل تفاوضي، لأنه بالنسبة لهم هذا يعني الخسارة. إن العسكريين غير مدربين على التفاوض وعلى المحادثات، لكن على تحقيق النصر العسكري».

لكن هادسون أشار إلى أن تعيين مبعوث خاص جديد ونشيط يعطي بعض الأمل بأن واشنطن قد تتمكن من البدء في تنظيم رد عالمي لوقف القتال والتطرق إلى الوضع الإنساني. وأضاف هادسون: «بالتأكيد، لم تعد الولايات المتحدة في موقع يمكنها بمفردها إجبار الأطراف على رمي أسلحتهم والتفاوض. لكن بالعمل مع دول أخرى تدعم هذا الطرف أو ذاك، يمكن لواشنطن استخدام نفوذها على أمل بناء ائتلاف دبلوماسي قادر على الضغط على الأطراف للسماح على الأقل بدخول المساعدات وتجنب أسوأ سيناريو إنساني».

ويعدّ بوث أن الولايات المتحدة أدركت مبكراً التهديد الكبير الذي سيشكله النزاع بين الجيش وقوات «الدعم السريع» على السودان وعلى المنطقة، «لذا فقد تفاعلت بسرعة مع السعودية لبدء محادثات جدة».

لكن المبعوث السابق يشير إلى أن هذه المساعي «تأثرت سلباً بثقة كل من القوات المسلحة السودانية وقوات (الدعم السريع) بأنهما تستطيعان الانتصار عسكرياً، نظراً لمستوى الدعم الخارجي الذي كانتا تتلقيانه». وقال بوث إن تعيين مبعوث خاص «أضاف زخماً جديداً لجهود الولايات المتحدة لتوحيد الدعم الإقليمي اللازم لحل تفاوضي ولإقناع قيادة الجيش وقوات (الدعم السريع) بضرورة إنقاذ السودان وشعبه».

مقاتلون من تجمع «قوى تحرير السودان» (أ.ف.ب)

عسكرة المجتمع أسوأ السيناريوهات

وفي مقابل مواجهة هذه التحديات، يعرب المسؤولون السابقون عن تخوفاتهم من أسوأ السيناريوهات في المرحلة المقبلة، فيقول فرنانديز إن «أسوأ مخاوفي هو ما يحدث بالفعل، أي عسكرة المجتمع وتجزئته على أسس سياسية وقبلية وعرقية، والضغط الشديد على المدنيين أو غير العسكريين أو غير الحزبيين للتوافق أو الاختفاء، وانتشار اليأس والجوع وسوء التغذية بين السودانيين».

من ناحيتها، تتخوف بايج من التهجير الجماعي، ليس فقط من دارفور، بل في كل الأمكنة الأخرى التي شهدت عنفاً عرقياً، وتتساءل: «متى سنتخذ إجراء قوياً؟ أنا قلقة بشأن عدد الأشخاص الذين سيتم تهجيرهم قسراً، وهذا يعد جريمة حرب. قلقة من جرائم أخرى ضد الإنسانية ونحن صامتون. أنا قلقة بشأن عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم ومن تدمير بلدات وقرى بأكملها ومحوها تماماً. نحن لا نسمع عن كل ذلك».

أما هادسون فيعدّ السيناريو الأسوأ هو «الموت الجماعي لمئات الآلاف من المدنيين السودانيين، وأغلبهم من النساء والأطفال، الذين قد يموتون جوعاً وبسبب الأمراض في الأشهر المقبلة فقط، لأن المجتمع الدولي لا يستطيع إيصال المساعدات إليهم».

وأضاف: «بعد ذلك، الخوف هو أن القتال سيزداد سوءاً ويتوسع إلى مناطق جديدة، ما سيؤدي إلى وقوع الملايين من الضحايا والنازحين. على المدى الطويل، هناك خوف من انهيار تام للدولة، وبلد مقسم، ما سيخلق مساحة للقوى المتطرفة والإجرامية والقبلية للسيطرة على مناطق كبيرة من البلاد، ولاستباحة المجتمعات، واستهداف المدنيين وتصدير الاضطراب إلى منطقة واسعة من أفريقيا».

ويقول بوث إن أسوأ مخاوفه هو «استمرار القتال، ما سيجعل من الصعب على السودان أن يجد طريقاً لاستيعاب تنوعه بسلام، وبالتالي البقاء على قيد الحياة، أو حتى الازدهار كدولة موحدة». ويوفر المبعوث السابق نظرة تاريخية للنزاع في السودان، فيشرح قائلاً: «الانقسامات في السودان تتجاوز الخلاف بين الجيش وقوات (الدعم السريع). فالفظائع في دارفور تعكس صراع الأساليب الرعوية والزراعية والخلافات العرقية القديمة».


مقالات ذات صلة

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

شمال افريقيا رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه شاحنات الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر «أدري» الحدودي الحيوي مع تشاد.

ديكلان والش (نيويورك)
شمال افريقيا قائد الجيش البرهان وقائد «الدعم السريع» حميدتي خلال إحدى المناسبات السابقة على الحرب (أرشيفية)

حملات «إسفيرية» وشعبية لحث الجيش السوداني على التفاوض

علت الأصوات المطالبة بوقف الحرب وإحلال السلام في السودان، متحديةً التضييق الذي تفرضه الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن وحلفاؤهما ضد كل من ينادي بـ«لا للحرب».

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا صورة أرشيفية تُظهر دخاناً يتصاعد فوق الخرطوم مع اشتباك الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» (رويترز)

«الخارجية السودانية»: ندرس المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار

تقتصر المحادثات بين طرفي القتال في السودان؛ الجيش و«الدعم السريع»، على بحث وقف إطلاق النار والعنف في جميع أنحاء البلاد، لتمكين وصول المساعدات.

وجدان طلحة (بورتسودان)
شمال افريقيا مسلّحون من «الدعم السريع» في سنار (مواقع التواصل)

«الدعم السريع» يعلن الاستيلاء على السوكي وإحكام الحصار على سنار

تعد مدنية السوكي واحدة من مدن ولاية سنار الاستراتيجية وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل الأزرق وتبعد عن العاصمة الخرطوم بنحو 300 كيلومتر.

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا الرئيس الإريتري آسياس أفورقي (تصوير: بشير صالح)

أفورقي يفاجئ الجيش بطرد القائم بأعمال السفارة السودانية في أسمرا

«التحول الراهن في الموقف الإريتري، يمكن أن يكون حافزاً لاستعادة الموقف الإريتري لجانب القوى المدنية، إذا ضربنا على الحديد وهو ساخن».

أحمد يونس (كمبالا)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز