«قوارب الموت» باتت تجتذب حتى التونسيين من الطبقة المتوسطة

والدة أحد الضحايا: لا أستطيع قبول فكرة أن السمك أكل ابني في البحر

عشرات قوارب الموت تنطلق من السواحل التونسية في محاولة للوصول إلى سواحل أوروبا (أ.ف.ب)
عشرات قوارب الموت تنطلق من السواحل التونسية في محاولة للوصول إلى سواحل أوروبا (أ.ف.ب)
TT

«قوارب الموت» باتت تجتذب حتى التونسيين من الطبقة المتوسطة

عشرات قوارب الموت تنطلق من السواحل التونسية في محاولة للوصول إلى سواحل أوروبا (أ.ف.ب)
عشرات قوارب الموت تنطلق من السواحل التونسية في محاولة للوصول إلى سواحل أوروبا (أ.ف.ب)

محمد اللافي شاب تونسي من الطبقة المتوسطة، وامتلاكه سيارةَ أجرة كان يعني حصوله على دخل لائق، وآفاق معقولة في ظل مستوى عيش التونسيين، لكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة له، ولم يغير شيئاً في قراره المحفوف بالمخاطر بأن يعبر البحر على متن قارب من أجل حياة جديدة في أوروبا.

كان اللافي واحداً من 40 شخصاً فُقدوا في يناير (كانون الثاني) عندما اختفى قاربهم بعد انطلاقه من شاطئ بالقرب من ميناء صفاقس، متجهاً إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، بعد بضع ساعات فقط من إبحاره.

عائلات الضحايا الذين ابتلعهم البحر في وقفة احتجاجية ضد تقصير السلطات في توفير مناصب شغل لأبنائهم (رويترز)

ومع تعثر الاقتصاد التونسي في السنوات الماضية، وتدهور المقدرة الشرائية وسوء الخدمات العامة، يذهب المزيد من الشباب للبحث عن ثروة ومستقبل أفضل في إيطاليا أو فرنسا، وهو ما أدى إلى ارتفاع كبير في الوفيات، حيث امتلأت مشرحة صفاقس بانتظام بجثث الغرقى. وقالت إيناس اللافي، شقيقة محمد التي لا تزال في حيرة من أمرها بسبب قرار أخيها البالغ من العمر 30 عاماً بالرحيل: «وضعنا طبيعي. أخي لم يعان من مشاكل مالية، وكان لديه سيارة للعمل بها». وخلال العام الماضي، بلغ عدد المفقودين والقتلى قبالة السواحل التونسية أكثر من 1300 شخص، معظمهم من دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهو رقم غير مسبوق في تونس. وفي الشهر الأول من عام 2024 وحده، غرق أكثر من 100 شخص قبالة سواحل تونس، من بينهم 60 تونسياً لم يتم العثور على جثثهم بعد.

* وفيات بالجملة

على الرغم من وجود عدد أكبر من الأشخاص الذين عبروا البحر المتوسط خلال ذروة أزمة الهجرة قبل سنوات وماتوا في البحر، فإن الأرقام غير مسبوقة بالنسبة للرحلات من تونس في 2023. وتأتي هذه الزيادة على الرغم من حملة واسعة النطاق تشنها السلطات التونسية، حيث قامت وحدات الحرس بتفكيك شبكات تهريب وإيقاف آلاف الأشخاص، أغلبهم من الأفارقة على الشاطئ وفي البحر، في أثناء محاولتهم العبور إلى لامبيدوزا.

والدة أحد الضحايا تحمل صورة ابنها الذي غرق بعد محاولته الهجرة سراً نحو أوروبا (رويترز)

وما يدفع المهاجرين المحتملين لركوب هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر خيبة الأمل المتزايدة بين كثير من التونسيين بشأن مستقبل بلادهم، وتجذبهم حكايات وسائل التواصل الاجتماعي عن مواطنيهم، الذين يصورون حياتهم الأوروبية الجديدة على أنها سهلة وناجحة. تقول إيناس اللافي، التي كانت تحتج رافعة صورة شقيقها: «محمد تأثر بمقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي دفعته للتضحية بما يملكه هنا، بحثاً عن نوعية حياة أفضل في أوروبا».

* طبقة جديدة من المغامرين

كانت قوارب الهجرة تجتذب بشكل رئيسي العاطلين عن العمل واليائسين فقط، لكنها بات تستهوي بشكل متزايد تونسيين من الطبقة المتوسطة، وأحياناً عائلات بأكملها. وفي العام الماضي، انتشر مقطع فيديو على نطاق واسع لرجل يبلغ من العمر 63 عاماً، قام بالرحلة مع زوجته وعشرة من أبنائه وأحفاده. وقبل ذلك بثت مؤثرة على «إنستغرام» مقاطع فيديو لها من رحلة هجرة.

محمد عيساوي شقيق الشاب منتصر الذي غرق قاربه في عمق البحر خلال محاولته الوصول إلى أوروبا (رويترز)

وتعاني تونس من أزمة اقتصادية ومالية خانقة، مع نقص في سلع بشكل متقطع، مثل السكر والأرز وأحياناً الخبز والحليب، مما أدى إلى طوابير طويلة في المتاجر في بعض الأحيان.

* أقارب المفقودين يحتجون

بدأت العائلات الثكلى إسماع أصواتها؛ إذ نظمت احتجاجاً محدوداً على الظروف السيئة التي يعتقدون أنها دفعت أحباءهم نحو حتفهم في البحر، وطالبوا بالمزيد من العمل لاستعادة جثثهم. وفي الاحتجاجات الأخيرة في الحنشة بصفاقس وبنزرت، أغلقت عائلات الطرق، ورفعت صور القتلى والمفقودين. وعقب ذلك قالت السلطات إنها بدأت عمليات البحث عن الجثث بسفن الحرس البحري مدعومة بطائرات الهليكوبتر. وعلى مدى أشهر، يقوم محمد العيساوي برحلة يومية تمتد 120 كيلومتراً من منزله في القيروان إلى صفاقس لتمضية ساعات في البحث في مشارح المستشفيات، وحتى الشواطئ المحلية عن أخبار شقيقه منتصر، الذي اختفى العام الماضي. وقال محمد إنه على الرغم من أن منتصر لم يكن لديه سوى وظائف غير مستقرة، فقد كان يعيش حياة عادية. وفيما يأمل، وهو يتنقل بين شواطئ المنطقة، في أن تكون جثة أخيه من بين عشرات الجثث التي يلفظها البحر هناك، يعتصر الألم بشكل أكثر وطأة آباء المفقودين.

منية الغماطي والدة الشاب سفيان الذي توفي في إحدى رحلات قوارب الموت (رويترز)

بدورها، لا تزال منية الغماطي متمسكة بالأمل في أن ينجو ابنها سفيان بطريقة ما من عبوره إلى أوروبا، رغم أنه لم تصلها أخبار عنه منذ أشهر. وتقول في بيتها بصفاقس لفريق «رويترز»: «لقد تحولت حياتي إلى جحيم. لا أستطيع قبول فكرة وفاته. إنها تقتلني». وكان سفيان البالغ من العمر 21 عاماً قد جمع 7000 دينار (2240 دولاراً) لدفع تكاليف رحلته؛ سعياً إلى بدء حياة جديدة، وإرسال الأموال إلى وطنه، لكن قاربه غرق. ووردت أنباء عن العديد من الوفيات ضمن القارب نفسه، لكن لم يتم العثور على جثته مطلقاً.

تقول والدته عن الأسباب التي دفعته للهجرة: «لا شيء يعجب هنا... الوضع محبط للغاية». ومع ذلك لم تترك منية باباً إلا طرقته؛ بحثاً عن جواب يشفي غليلها. وتتشبث بكل أمل صغير وكل معلومة عن حوادث الغرق في أي مكان من البحر المتوسط. لذلك تزور منية المشافي والمشرحة باستمرار، وقد اتصلت بالصحافيين وأرسلت صورته إلى السلطات في إيطاليا، لكن دون نتيجة. تضيف منية، وهي تكاد تنهار من الألم: «لا أستطيع قبول فكرة أن السمك أكل ابني في البحر».


مقالات ذات صلة

ما حقيقة طرد ليبيا مئات المهاجرين النيجريين إلى الصحراء؟

شمال افريقيا عملية ترحيل مهاجرين أفارقة من ليبيا إلى النيجر (جهاز مكافحة الهجرة غير النظامية)

ما حقيقة طرد ليبيا مئات المهاجرين النيجريين إلى الصحراء؟

اشتكى مصدر ليبي مسؤول من أن «منطقة أغاديز بوسط النيجر أصبحت نقطة انطلاق ومحطة عبور لتهريب المهاجرين الراغبين في الوصول إلى الشواطئ الأوروبية عبر بلده».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي صورة أرشيفية لمهاجرين على متن زورق بعد محاولة فاشلة للعبور إلى جزيرة ليسبوس اليونانية عندما اقترب منهم قارب لخفر السواحل التركي في مياه شمال بحر إيجه قبالة شواطئ كاناكالي بتركيا في 6 مارس 2020 (رويترز)

فقدان 45 مهاجراً في انقلاب قارب قبالة ساحل اليمن

أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في اليمن، اليوم (الخميس)، انقلاب قارب يقل 45 لاجئاً ومهاجراً قبالة ساحل اليمن.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا جانب من السياج الحدودي بين اليونان وتركيا في ألكسندروبوليس باليونان في 10 أغسطس 2021 (رويترز)

اليونان تنفي اتهامات أنقرة بدفع مهاجرين إلى الأراضي التركية

نفى خفر السواحل اليوناني اتهامات من وزارة الدفاع التركية، الاثنين، بأنه دفع مهاجرين من قبالة جزيرة ليسبوس إلى تركيا.

«الشرق الأوسط» (أثينا )
شمال افريقيا رانيا المشاط خلال لقاء وفد الاتحاد الأوروبي (مجلس الوزراء المصري)

مصر والاتحاد الأوروبي ينسقان لمجابهة «الهجرة غير الشرعية»

تنسق مصر والاتحاد الأوروبي لمجابهة «الهجرة غير الشرعية»، عبر برامج تعليمية وآليات حماية اجتماعية للشباب والأسر.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مهاجرون سريون تم اعتراض قاربهم من طرف خفر السواحل التونسية (أ.ف.ب)

تونس تعترض 74 ألف مهاجر سري حتى يوليو الحالي

الحرس البحري التونسي اعترض أكثر من 74 ألف مهاجر سري في البحر، كانوا في طريقهم إلى السواحل الأوروبية هذا العام وحتى منتصف يوليو (تموز) الحالي.

«الشرق الأوسط» (تونس)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز