إلى أين تتجه العلاقات المصرية - الإسرائيلية؟

بعد أزمة «فيلادلفيا» ورفض السيسي محادثة نتنياهو

جدارية وسط القاهرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يوم عيد الشرطة الأربعاء (رويترز)
جدارية وسط القاهرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يوم عيد الشرطة الأربعاء (رويترز)
TT

إلى أين تتجه العلاقات المصرية - الإسرائيلية؟

جدارية وسط القاهرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يوم عيد الشرطة الأربعاء (رويترز)
جدارية وسط القاهرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يوم عيد الشرطة الأربعاء (رويترز)

اتخذت الانتقادات المصرية للإجراءات الإسرائيلية بشأن الحرب في قطاع غزة منحى تصاعدياً، إذ تزامن اتهام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إسرائيل بـ«عرقلة وصول المساعدات إلى غزة»، مع تقارير إسرائيلية أشارت إلى رفض الرئاسة المصرية طلباً بتحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع السيسي هاتفياً، ما عدّه مراقبون مؤشراً على «احتقان» في العلاقات بين البلدين.

وانتقد السيسي الإجراءات الإسرائيلية التي تتسبب في عرقلة دخول المساعدات إلى قطاع غزة من الأراضي المصرية، مؤكداً خلال احتفالية في مصر بـ«عيد الشرطة»، الأربعاء، أن «معبر رفح مفتوح يومياً، وعلى مدار 24 ساعة، إلا أن الإجراءات التي تتم من الجانب الإسرائيلي - حتى نستطيع إدخال المساعدات دون أن يتعرض لها أحد - هي التي تؤدي لذلك»، وأضاف أن «ذلك يعد أحد أشكال الضغط على القطاع وسكانه من أجل موضوع إطلاق سراح الرهائن».

ويعد هذا التصريح من جانب الرئيس المصري، الذي يحرص في معظم الأحيان على عدم توجيه انتقادات علنية ومباشرة لأطراف إقليمية أو دولية، هو الأبرز من جانب مصر في هذا الصدد، إذ اكتفت السلطات المصرية سابقاً بالإشارة إلى الإجراءات الإسرائيلية، إما ضمن بيانات رسمية للخارجية المصرية، أو عبر تصريحات لرئيس الهيئة العامة للاستعلامات، وهي جهة إعلامية تابعة للرئاسة المصرية.

مساعدات مصرية تستعد لدخول قطاع غزة (الهلال الأحمر المصري)

وجاء الانتقاد الرئاسي لإسرائيل في أعقاب تحميل الأخيرة لمصر «مسؤولية منع دخول المساعدات إلى قطاع غزة» خلال نظر قضية «الإبادة الجماعية» التي أقامتها جنوب أفريقيا ضد تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية، منتصف الشهر الحالي، ما أثار غضباً مصرياً حينها.

ورداً على ذلك الاتهام، أعلن رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ضياء رشوان، أن القاهرة «سترسل رداً إلى محكمة العدل الدولية للتأكيد على أنها لم تغلق معبر رفح».

رفض مصري

تزامن تصاعد وتيرة الانتقادات المصرية للمواقف الإسرائيلية مع ما ذكرته تقارير إعلامية إسرائيلية (الأربعاء)، حول رفض مكتب الرئيس المصري طلباً من رئيس الوزراء الإسرائيلي لمحادثة السيسي هاتفياً. ووفقاً لصحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، فإن مكتب نتنياهو حاول عبر مجلس الأمن القومي تنسيق المحادثة في الأيام القليلة الماضية، لكن تم رفضها.

وأشارت الصحيفة، نقلاً عن «القناة 13» التلفزيونية الإسرائيلية، إلى أن الأمر «مرتبط بالتوترات حول مسألة من سيسيطر على الحدود بين مصر وغزة بعد انتهاء الحرب الحالية، حيث تحدثت تقارير عن أن إسرائيل تسعى للسيطرة على الحدود». وقالت إن هناك اتصالات تجرى على مستوى أدنى بين البلدين، وإن وفوداً إسرائيلية زارت القاهرة في الأسابيع الأخيرة.

وتسببت التصريحات الإسرائيلية بشأن السيطرة على محور «فيلادلفيا» المحاذي للحدود المصرية، لمنع تهريب أسلحة إلى داخل قطاع غزة عبر أنفاق تمر من سيناء المصرية أسفل الشريط الحدودي، في ردّ مصري، صرّح به رئيس «الاستعلامات»، الذي وصف التصريحات الإسرائيلية بأنها «ادعاءات وأكاذيب»، واعتبرها «محاولة لخلق شرعية لسعيها لاحتلال ممر فيلادلفيا، بالمخالفة للاتفاقيات والبروتوكولات الأمنية الموقعة بينها وبين مصر».

ومحور فيلادلفيا هو شريط حدودي بطول 14 كيلومتراً بين غزة ومصر، ويعدّ منطقة عازلة بموجب «اتفاقية كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل، وتصاعد التركيز الإسرائيلي عليها منذ نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما أشار نتنياهو في مؤتمر صحافي إلى أن منطقة «محور فيلادلفيا» ينبغي أن تكون تحت سيطرة إسرائيل.

فلسطينيون هربوا من الغارات الإسرائيلية بجوار السياج الحدودي مع مصر في رفح الأربعاء (أ.ب)

وشدّد الردّ المصري على أن أي تحرك إسرائيلي باتجاه إعادة احتلال محور فيلادلفيا «سيؤدي إلى تهديد خطير وجديّ للعلاقات المصرية - الإسرائيلية».

علاقات «محتقنة»

وصف السفير رخا أحمد حسن، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، مساعد وزير الخارجية سابقاً، العلاقة بين القاهرة وتل أبيب حالياً بأنها «محتقنة»، مشيراً إلى أن «الأكاذيب» الإسرائيلية حول مسؤولية مصر عن عدم دخول المساعدات إلى قطاع غزة كانت سبباً في زيادة ذلك الاحتقان، خاصة أن مصر منذ بداية الأزمة وهي حريصة على إدخال المساعدات لسكان قطاع غزة، ونظّمت زيارات لمسؤولين دوليين وأمميين للاطلاع على حقيقة الموقف في معبر رفح، وزاد من الاحتقان كذلك الرغبة الإسرائيلية المحمومة للسيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا).

وأضاف حسن لـ«الشرق الأوسط» أن رفض الرئيس المصري تلقي اتصال رئيس الحكومة الإسرائيلية «منطقي»، مشيراً إلى أنه في ظل المواقف الإسرائيلية التي لا تتجاوب مع جهود التهدئة، بل تدفع باتجاه التصعيد، وتوجه اتهامات زائفة لمصر، فإنه «لا مجال للحوار»، وأن الرفض المصري «يفوت الفرصة على رئيس الوزراء الإسرائيلي للحديث عن تفاهمات مع مصر بشأن الإجراءات الإسرائيلية»، وهو ما كان سيسعى إلى توظيفه في الداخل الإسرائيلي وإلى تشويه علاقة مصر مع الفلسطينيين.

وأوضح الدبلوماسي المصري السابق أن هناك قنوات دبلوماسية وأمنية موجودة، إذا كان لدى الإسرائيليين ما يريدون إيصاله للقاهرة، معتبراً أن تصعيد لهجة الانتقادات المصرية «يعكس ما وصلت إليه الأمور من تدهور»، التي بلغت برأيه «قمة التوتر السياسي والإعلامي». وحذّر من إمكانية أن تتصاعد الأمور إذا واصلت إسرائيل نهج الاستفزاز والتلاعب، مطالباً بأن يكون هناك دور لشركاء إسرائيل، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، لتحجيم الجنوح الإسرائيلي لزيادة رقعة التوتر والصراع بالمنطقة.

وحذّرت مصر مراراً من خطورة استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وطالبت بوقف شامل لإطلاق النار، كما انخرطت في وساطة، بالتنسيق مع قطر والولايات المتحدة، لوقف القتال وتبادل الأسرى بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية، ونجحت تلك الجهود في التوصل إلى هدنة دامت أسبوعاً في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

سياسة ضبط النفس

بدوره، أكد د. خالد فهمي، المستشار بمركز الدراسات الاستراتيجية، التابع للقوات المسلحة المصرية، أن مصر «لا تزال ملتزمة بضبط النفس والتعامل بمسؤولية تجاه الاستفزازات الإسرائيلية»، مشيراً إلى أن «تحلي ردّ الفعل المصري بالانضباط يرجع إلى رغبة القاهرة في الاستمرار في لعب دور حيوي في إدخال المساعدات للسكان في قطاع غزة، ومواصلة جهود الوساطة لوقف الحرب، رغم الضغوط والتحديات، ومنها مواقف قطاعات في الرأي العام المصري تدفع باتجاه اتخاذ قرارات انفعالية».

نازحون فلسطينيون من شمال غزة بالقرب من الجدار الفاصل بين مصر والقطاع (وكالة الأنباء الألمانية)

ووصف فهمي، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، ما ذكر عن رفض الرئيس المصري تلقي اتصال نتنياهو، وكذلك انتقاده العلني لعرقلة إسرائيل دخول المساعدات إلى غزة، بأنه «رسالة قوية وواضحة لإسرائيل وداعميها»، لافتاً إلى أن تصاعد حدة الخطاب المصري «يعكس ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف العدوان وعدم المضي قدماً في إشعال الأزمات بالمنطقة».

وشدّد على «قدرة مصر على حماية أمنها القومي والتصدي لأي مخاطر»، وأن الهدوء في ردود الفعل «ينبغي أن يُفهم بطريقة صحيحة»، مؤكداً أن الضغوط والاستفزازات الإسرائيلية «لن تجبر القاهرة على التخلي عن دعمها للفلسطينيين أو القبول بتهجيرهم».


مقالات ذات صلة

ترمب يلتقي نتنياهو وينتقد تصريحات هاريس عن إسرائيل

المشرق العربي ترمب مستقبلاً نتنياهو في «بالم بيتش» أمس (آموس بن - غيرشوم / جي بي أو / د.ب.أ)

ترمب يلتقي نتنياهو وينتقد تصريحات هاريس عن إسرائيل

نفى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وجود أي توتر في العلاقات بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، معرباً عن تأييده ومساندته لإسرائيل.

هبة القدسي (واشنطن) علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي القوات الإسرائيلية تطلق قنابل إنارة فوق خان يونس في جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة: معارك خان يونس أجبرت 180 ألف شخص على النزوح

أفادت الأمم المتحدة بأن أكثر من 180 ألف فلسطيني اضطروا للنزوح خلال أربعة أيام من القتال العنيف حول مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (خان يونس)
الولايات المتحدة​ صورة آخر لقاء جمع الرئيس دونالد ترمب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المكتب البيضاوي في 15 سبتمبر 2020 (أ.ب)

نتنياهو يلتقي ترمب بأمل الحصول على تأييد أكبر لإسرائيل

يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في لقائه بالرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري، دونالد ترمب، على نيل تأييد أكبر لأمن إسرائيل.

هبة القدسي (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (أ.ب)

أميركا ترجئ ترحيل بعض اللبنانيين بسبب التوتر بين إسرائيل و«حزب الله»

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، الجمعة، أن الولايات المتحدة أرجأت ترحيل بعض المواطنين اللبنانيين من البلاد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي الرئيس الأميركي جو بايدن يستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض 25 يوليو (أ.ب)

البيت الأبيض يحذّر نتنياهو من خطورة تنازلاته للمتطرفين في حكومته

كشفت مصادر سياسية في تل أبيب عن أن اللقاءات الثلاثة التي أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في واشنطن مع بايدن وهاريس وسوليفان، كانت صعبة للغاية.

نظير مجلي (تل أبيب)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز