سكان «النيل الأبيض» يخشون امتداد القتال إلى ولايتهم

لا مكان آمناً في السودان خصوصاً جوار الخرطوم

دخان فوق جنوب الخرطوم بسبب المعارك في 7 يونيو 2023 (أ.ف.ب)
دخان فوق جنوب الخرطوم بسبب المعارك في 7 يونيو 2023 (أ.ف.ب)
TT

سكان «النيل الأبيض» يخشون امتداد القتال إلى ولايتهم

دخان فوق جنوب الخرطوم بسبب المعارك في 7 يونيو 2023 (أ.ف.ب)
دخان فوق جنوب الخرطوم بسبب المعارك في 7 يونيو 2023 (أ.ف.ب)

يعيش سكان ولاية النيل الأبيض، وسط السودان، حالة من الترقب والتوتر والخوف من انتقال المعارك إلى مدن ولايتهم، خصوصاً بعد سيطرة «قوات الدعم السريع» الشهر الماضي على منطقة جبل أولياء، الواقعة على بُعد 40 كيلومتراً جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، وتعد الحدود الجنوبية لها مع ولاية النيل الأبيض.

وقبل جبل أولياء، سيطرت «قوات الدعم السريع» على منطقة ود عشانا، بولاية شمال كردفان على الحدود الغربية مع ولاية النيل الأبيض التي تقع على ضفتَي النهر الذي تحمل اسمه.

الولاية تحدها من الشمال ولاية الخرطوم، ومن الغرب شمال كردفان، ومن الجنوب الغربي ولاية جنوب كردفان، وولايتا الجزيرة وسنار من الشرق، وتنتهي حدودها الجنوبية مع ولاية أعالي النيل بدولة جنوب السودان. وقد ظلت آمنة منذ بدء الصراع في منتصف أبريل (نيسان) الماضي، بل استقبلت أعداداً كبيرة من النازحين الفارّين من الحرب في الخرطوم وكردفان.

قوة للجيش السوداني في أحد الشوارع بالخرطوم في 6 مايو 2023 (أ. ف. ب)

وتقول سلمى جاد الرب، التي تقيم في مدينة ربك بجنوب ولاية النيل الأبيض، لـ«وكالة أنباء العالم العربي»: «نعيش في قمة التوتر مع ازدياد حالة الاحتقان في الولاية، وجهّزنا حقيبة الطوارئ، لكن لا ندري إلى أين نذهب».

وتتخوف سلمى من أن تتعرض هي وأسرتها لانتهاكات لطالما سمعت عنها من النازحين من مناطق الصراع في الخرطوم، ومن ذلك الطرد من البيوت أو الاعتقال أو الاعتداءات الجنسية.

تقول إن فكرة ترك الديار في حد ذاتها مرعبة، وتضيف: «ننظر للمصير المجهول ونتساءل: كيف سننجو؟ وإلى أين نذهب في حال حدوث اشتباكات؟».

كل الإرهاصات مخيفة

سناء محمد، واحدة ممن نزحوا من الخرطوم إلى النيل الأبيض مسقط رأسها، تشير إلى وجود عدد كبير من الفارين من الخرطوم على أراضي ولاية النيل الأبيض، وتقول: «كل الإرهاصات مخيفة، فنحن هربنا من الخرطوم خوفاً من الاشتباكات، والآن نعيش في خوف وتوتر من حدوثها هنا، فمن الواضح أنْ لا مكان آمناً في السودان خصوصاً الولايات المجاورة للخرطوم».

كانت المنظمة الدولية للهجرة قد ذكرت في سبتمبر (أيلول) الماضي أن عدد النازحين داخلياً في السودان تضاعف تقريباً منذ بدء الصراع في أبريل. وقالت إن نحو 7.1 مليون شخص نزحوا داخل السودان، وأن معظم النازحين موجودون في ولايات شرق دارفور وشمال وجنوب دارفور وسنار والنيل الأبيض.

ومن سكان النيل الأبيض، تصف رشا حسن الوضع في مدينة القطينة التي تسكنها، وتقع في أقصى شمال الولاية على الحدود مع الخرطوم، بأنه «وضع صعب».

سودانيون أمام فرع مصرف محروق جراء المعارك في جنوب الخرطوم في 24 مايو 2023 (أ. ف. ب)

وقالت رشا لـ«وكالة أنباء العالم العربي»: «نعاني انقطاع التيار الكهربائي والماء منذ أكثر من 16 يوماً، وأصبحنا نشتري برميل المياه الواحد بسعر ثلاثة آلاف جنيه سوداني. وبعض الأسر تذهب في الصباح إلى النيل لغسل الملابس وتعود في المساء حاملةً معها براميل مياه صغيرة على عربات تجرها الحمير».

وأغلقت معظم المحال التجارية أبوابها وقيَّدت السلطات الأمنية في الولاية حركة المواطنين ليلاً من العاشرة مساءً.

وذكرت رشا أنها تسمع أصوات إطلاق نار بصورة متقطعة كل يوم، إلى جانب إغلاق المراكز الصحية الخاصة أبوابها، وأصبح بعض أقسام مستشفى القطينة التعليمي خارج الخدمة منذ سقوط منطقة جبل أولياء في يد «الدعم السريع».

وقالت: «أصبحنا في حالة من الخوف والرعب من المصير المجهول، خصوصاً أن معظم الجيران نزحوا إلى مناطق أخرى، وأصبحنا نستيقظ كل يوم وننظر إلى الخارج عبر النافذة للاطمئنان على أننا في أمان، وليست هناك جثة ملقاة على الطرقات، ولا مدافع منصوبة على الأرض».

ويتملك رشا الهلع من هول القصص التي سمعتها من الفارين من ويلات الحرب في الخرطوم، لا سيما بعد أحداث منطقة جبل أولياء الشهر الماضي، وقالت: «أصبحت خائفة من انتقال الصراع إلى القطينة خصوصاً أنها المنطقة الحدودية بين ولايتي النيل الأبيض والخرطوم».

كانت «قوات الدعم السريع» قد سيطرت الشهر الماضي على منطقة جبل أولياء، التي تضم معسكرات للجيش السوداني بما في ذلك قاعدة النجومي الجوية والدفاع الجوي، كما تضم خزان جبل أولياء، الذي يضم أيضاً جسراً صغيراً يربط الخرطوم بأمدرمان، وأجبرت قوات الجيش على التراجع جنوباً إلى مدينة القطينة.

عائلة سودانية هربت من المعارك تنتظر السماح لها بعبور الحدود الى تشاد في 26 يوليو 2023 (رويترز)

وعلى أثر هذه المعارك نزح معظم السكان في جنوب الخرطوم إلى ولايتي النيل الأبيض والجزيرة بوسط البلاد.

صوت العقل وصوت البندقية

والآن تزداد مخاوف سكان النيل الأبيض من تعرض المنطقة لهجوم «قوات الدعم السريع» لا سيما بعد تعثر المفاوضات في مدينة جدة، بالمملكة العربية السعودية، وتصاعد وتيرة المعارك بين الطرفين في الخرطوم، خصوصاً أن «قوات الدعم السريع» تتمركز في شمال وغرب الولاية.

لكن الدكتور إبراهيم مخير، مستشار قائد «قوات الدعم السريع»، قال لـ«وكالة أنباء العالم العربي»: «لسنا دعاة حرب، ونؤمن بأن الأولوية في حالة الحرب هي لصوت العقل والحوار وليس لصوت البندقية... تَمثّل هذا بوضوح في حالة مدينة الفاشر، فرغم قدراتنا العسكرية المتفوقة ما زلنا في حالة حوار كي لا يتعرض المواطنون لمعاناة الصدام المسلح وآثاره».

وأشار مخير إلى أن قرار الزحف على ولاية النيل الأبيض، أو أي ولاية أخرى، متروك للقيادة العسكرية ومبنيٌّ على التهديدات التي يتلقاها «الدعم السريع» والمواطنون من المعسكرات الموجودة بتلك الولاية أو غيرها.

ويقول الصحافي أحمد حمدان، الذي نزح من مدينة أم درمان بعد مرور خمسة أشهر على بداية الحرب: «المخاوف وسط سكان ولاية النيل الأبيض من هجوم وشيك لقوات (الدعم السريع) مستمرة منذ أكثر من شهر».

وأشار حمدان، في حديثه لـ«وكالة أنباء العالم العربي»، إلى أن المخاوف زادت بعد هجوم «الدعم السريع» على جبل أولياء جنوب الخرطوم، وبدء عملية نزوح واسعة لسكان المناطق الجنوبية للولاية خصوصاً مدينة القطينة، التي نزح أغلب سكانها جنوباً خوفاً من هجوم محتمَل عليها من «الدعم السريع».

ويضيف: «في مدينتي تندلتي وكوستي من الجهة الغربية لولاية النيل الأبيض، تسود حالة الترقب والحذر من هجوم (الدعم السريع)»، خصوصاً أن الولاية تطل من جهة الغرب على ولاية شمال كردفان، التي تسيطر «الدعم السريع» على أجزاء واسعة منها ويرتكز في منطقة ود عشانا، التي تبعد نحو 30 كيلومتراً من مدينة تندلتي.

مع ذلك، يستبعد حمدان مهاجمة «الدعم السريع» لولاية النيل الأبيض لأن ذلك سيفتح أمامها جبهة جديدة للقتال. ويقول: «يبدو أن قوات (الدعم السريع) غير مستعدة لذلك، ما لم تحسم وضع السيطرة العسكرية في الجبهات التي تقاتل فيها حالياً، خصوصاً في الخرطوم وكردفان، إذ ما زالت مدينة الأبيض وأجزاء من غرب كردفان تحت سيطرة الجيش».


مقالات ذات صلة

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

شمال افريقيا رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه شاحنات الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر «أدري» الحدودي الحيوي مع تشاد.

ديكلان والش (نيويورك)
شمال افريقيا صورة أرشيفية تُظهر دخاناً يتصاعد فوق الخرطوم مع اشتباك الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» (رويترز)

«الخارجية السودانية»: ندرس المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار

تقتصر المحادثات بين طرفي القتال في السودان؛ الجيش و«الدعم السريع»، على بحث وقف إطلاق النار والعنف في جميع أنحاء البلاد، لتمكين وصول المساعدات.

وجدان طلحة (بورتسودان)
شمال افريقيا مسلّحون من «الدعم السريع» في سنار (مواقع التواصل)

«الدعم السريع» يعلن الاستيلاء على السوكي وإحكام الحصار على سنار

تعد مدنية السوكي واحدة من مدن ولاية سنار الاستراتيجية وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل الأزرق وتبعد عن العاصمة الخرطوم بنحو 300 كيلومتر.

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا الرئيس الإريتري آسياس أفورقي (تصوير: بشير صالح)

أفورقي يفاجئ الجيش بطرد القائم بأعمال السفارة السودانية في أسمرا

«التحول الراهن في الموقف الإريتري، يمكن أن يكون حافزاً لاستعادة الموقف الإريتري لجانب القوى المدنية، إذا ضربنا على الحديد وهو ساخن».

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا جانب من «سد النهضة» (رويترز)

«سد النهضة»... هل تُضعف «زيادة الفيضانات» موقف مصر والسودان؟

يرى خبراء أن تأثير سنوات ملء السد الإثيوبي «منخفض حتى الآن على مصر والسودان».

أحمد إمبابي (القاهرة )

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز