يُسلّط القرار الإسرائيلي بمنع وزير شؤون القدس في السلطة الفلسطينية، أشرف الأعور، من دخول الضفة الغربية لمدة 6 أشهر الضوء على العلاقة المعقدة بين إسرائيل والسلطة، ويظهر حيرة إسرائيلية بكونها قوة قائمة بالاحتلال في التعامل مع السلطة التي تريد حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية التخلص منها، ولا تستطيع حتى الآن.
واستدعت المخابرات الإسرائيلية الوزير الفلسطيني أشرف العور، وهو مقدسي، الاثنين، وسلمته قراراً بمنع دخول الضفة الغربية وحذّرته من أنه «متورط في أنشطة تتبع السلطة الفلسطينية تضرّ بسيادة إسرائيل وتلحق الضرر بأمن الدولة».
وبينما تُسيطر إسرائيل عسكرياً على مواقع مختلفة في الضفة، فإنها تكرس بقرارها الأخير فكرة خروج الضفة عن سيطرتها، وأنها بعهدة السلطة التي تهاجمها وتحمّلها مسؤولية انتشار المسلحين، وترفض تحميلها مسؤولية غزة أيضاً.
ويعني القرار الإسرائيلي منع الوزير من تمثيل السلطة في القدس، باعتبار القدس «عاصمة إسرائيل» وفق ما تزعم إسرائيل، كما أنه يمنع الوزير بصفته شخصاً يحمل الهوية الإسرائيلية من دخول مناطق السلطة الفلسطينية، باعتبارها مناطق «أعداء» أو «غير آمنة»، وهو إجراء متبع عادة.
ويبدو القرار مواكباً لما قالت الحكومة الفلسطينية إنه محاولة لإحكام عزل القدس عن محيطها الوطني والمؤسساتي، لكنه أيضاً لا ينسجم مع سياسات إسرائيل القائمة على التخلص من السلطة الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول)؛ لأنه في حقيقة الأمر يشير إلى اعتراف تل أبيب الضمني بكيان السلطة ورمزيتها وسيادتها على الضفة الغربية.
إضعاف أم تخلص؟
ومنذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية في ديسمبر (كانون الأول) 2022 كان الاتجاه واضحاً نحو الاستمرار في إضعاف السلطة.
لكن بعد هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر، عملت إسرائيل على التخلص من السلطة، وهو إجراء مُعقّد وضع إسرائيل نفسها في مأزق، فظهرت تارة كمن يريد بقاء السلطة ضعيفة، وأخرى في خانة تفكيك السلطة، وأحياناً كمن يسعى للانفصال عنها وحسب.
والانقلاب على السلطة بدا جلياً بعد شهرين فقط من الحرب على غزة، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، مؤكداً أن اتفاق أوسلو كان خطأ إسرائيل الكبير.
وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه يؤكد الشكوك بأن إسرائيل تريد التخلص من «أوسلو» ومنها.
ومنذ السابع من أكتوبر الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.
وتعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً تقريباً، بلا سيادة حقيقية، وبلا انتخابات رئاسية أو مجلس تشريعي.
ويتضافر غياب الأفق السياسي والاقتصادي، مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، في مواجهة أكثر حكومة يمينية متطرفة عرفتها السلطة يوماً، وما فتئت تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، فيه الكثير من المس بهيبتها، وبرنامجها السياسي، ووظيفتها.
والأسبوع الماضي منع نتنياهو الرئيس الفلسطيني محمود عباس من مغادرة رام الله إلى سوريا بطائرات مروحية أردنية كما جرت عليه العادة قبل ذلك، وبعد أيام قليلة منعت إسرائيل رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى من زيارة مناطق في الضفة الغربية تقع في «المنطقة ج» الواقعة تحت سيطرة أمنية إسرائيلية.
نظام جديد
وقالت مصادر أمنية لـ«الشرق الأوسط» إن إسرائيل «تحاول اختبار نظام جديد في الضفة يقوم على فرض أمر واقع».
وخلال أشهر قليلة نصبت إسرائيل مئات البوابات على مدن ومخيمات وبلدات الضفة الغربية وعزلتها، وراحت تعرقل تنقل الفلسطينيين داخل الضفة عبر إغلاق البوابات في ساعات محددة وإغلاق الحواجز الرئيسية في ساعات أخرى، في حين تشق طرقاً جديدة لفصل حركة الفلسطينيين داخل الضفة عن الإسرائيليين.
وبشكل مدروس يقتحم الجيش الإسرائيلي مناطق الضفة كل يوم في النهار والليل، بينما تقوم الشرطة الإسرائيلية بتحرير مخالفات للسائقين في مدن الضفة في إعلان واضح للفلسطينيين أنهم يعيشون اليوم تحت حكم إسرائيلي.
وأوضحت المصادر الأمنية أن «سيطرة إسرائيلية كاملة تحدث في الضفة؛ فهم يتحكمون في حركة الفلسطينيين ويسيطرون عليهم ويفرضون عليهم نظام فصل عنصري».
انفصال أم تفكيك؟
يبدو الانفصال عن السلطة أمراً معقداً لإسرائيل، ويحتاج ذلك إلى تحويل السلطة إلى نظام حكم ذاتي أو إعطاء الفلسطينيين دولتهم، وهو أمر لا يبدو وارداً الآن.
أما تفكيك السلطة، فيبدو الهدف الحقيقي، ولم يخفِ وزراء في الحكومة الإسرائيلية مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش، أنهم يسعون للتخلص من السلطة صراحة، ويتبجحون بعدم وجود شعب فلسطيني أصلاً.
وأكد سموتريتش أنه ماضٍ في خطة لحل السلطة، وإقامة نظام حكم مدني إسرائيلي في الضفة يقوم على تغيير «الحامض النووي DNA» للضفة.
وبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن «الهدف الفوري (لخطة سموترتيش) هو تفكيك السلطة الفلسطينية»
وسموتريتش هو نفسه الذي حول صلاحيات الإدارة المدنية التابعة للجيش، لمدير مدني، وهو هيليل روط، الذي أصبح بمثابة حاكم فعلي للضفة الغربية.
وعقَّب مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط» على تلك الخطوات بالقول: «إنهم يستهدفون المشروع الوطني من خلال استهداف السلطة وتقويضها، ويحاولون إظهار السلطة أمام شعبها ضعيفة وواهية وغير جديرة».
ويحظى سموتريتش بدعم حكومته، والأحد، خلال حفل استيطانيّ، أُقيم لافتتاح حيّ في مستوطنة «هار براخا» في الضفة الغربية المحتلة، حضره وزير الدفاع الإسرائيليّ، يسرائيل كاتس، ووزير القضاء ياريف ليفين، وآخرون، قال الأخير: «نريد السيادة هنا، وفي جميع أنحاء أرض إسرائيل، حقُّنا في هذه الأرض لا يقبل الجدل، ولا يتطلب تصويتاً في الكنيست، أو موافقة من أي جهة».
وضم الضفة الغربية لم يعد هدفاً تسعى إسرائيل لتحقيقه، بل أضحى واقعاً يفرض نفسه ولا يجد قوة تعرقله، بحسب ما قال رئيس «مديرية الاستيطان» بوزارة الدفاع الإسرائيلية، يوني دانينو لصحيفة «هآرتس»، وهو وضع يعني عملياً نهاية السلطة الفلسطينية التي قامت من أجل نقل الفلسطينيين من الفترة الانتقالية بعد «أوسلو» إلى الدولة.
هل الطريق سهلة لإسرائيل؟
قطعاً لا؛ لأن هذا سيعني أن على إسرائيل إعادة احتلال الضفة الغربية، وهي مسألة بالغة التعقيد والكلفة.
وقال مصدر فلسطيني كبير لـ«الشرق الأوسط» إن إسرائيل لن تستطيع شطب السلطة بهذه السهولة. وأضاف: «السلطة مطلب دولي وعربي، وانهيارها له تبعات مكلفة على إسرائيل نفسها».
وشرح أنه «على إسرائيل إذا أرادت إعادة الاحتلال أن تكون مسؤولة عن التعليم والصحة والأمن والنفايات، وعليها أن تدفع الرواتب وتنشر جيشها وشرطتها هنا، التكاليف باهظة على الإسرائيليين قبل غيرهم من جميع النواحي، أمنياً ومالياً وسياسياً ولوغيستياً».
الإسرائيليون أنفسهم يعرفون التبعات؛ إذ حذَّر الباحث في «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» يوحانان تسوريف في دراسة نشرها المعهد في أغسطس (آب) الماضي، من أن انهيار السلطة سيكون له تداعيات بعيدة المدى وعميقة، وسيمثل «النهاية الرسمية» لعصر اتفاقيات أوسلو، بل وسيحول «حماس» والمنظمات الإسلامية الأخرى في المنطقة «بدائل بارزة للنظام القائم».
ويحذّر الباحث من أن انهيار السلطة أيضاً «سيضر بسياسة إسرائيل التطبيعية مع الدول العربية، وسيضطرها إلى تحمل مسؤولية إدارة الشؤون المدنية للبلدات والمدن الفلسطينية، وسيكون العبء على الميزانية هائلاً، وسيخلق هذا الوضع الكثير من التحديات لإسرائيل، وسيكون الأمن أعظم اختبار لها». وبحسبه، فإن انهيار السلطة «لن يكون مجرد قضية ثنائية بين القدس ورام الله؛ بل سيكون أيضاً مشكلة إقليمية ودولية».