إسرائيل تستقدم لواء إضافياً إلى حدود لبنان و«حزب الله» يطلق مرحلة جديدة

اشتباكات داخل القرى ومسيّرات باتجاه صفد

خلال مراسم دفن القتلى الذين سقطوا قبل يومين في مدينة النبطية إثر القصف الإسرائيلي الذي استهدف مبنى البلدية وأدى إلى مقتل رئيسها وعدد من أعضائها ومن الموظفين (إ.ب.أ)
خلال مراسم دفن القتلى الذين سقطوا قبل يومين في مدينة النبطية إثر القصف الإسرائيلي الذي استهدف مبنى البلدية وأدى إلى مقتل رئيسها وعدد من أعضائها ومن الموظفين (إ.ب.أ)
TT

إسرائيل تستقدم لواء إضافياً إلى حدود لبنان و«حزب الله» يطلق مرحلة جديدة

خلال مراسم دفن القتلى الذين سقطوا قبل يومين في مدينة النبطية إثر القصف الإسرائيلي الذي استهدف مبنى البلدية وأدى إلى مقتل رئيسها وعدد من أعضائها ومن الموظفين (إ.ب.أ)
خلال مراسم دفن القتلى الذين سقطوا قبل يومين في مدينة النبطية إثر القصف الإسرائيلي الذي استهدف مبنى البلدية وأدى إلى مقتل رئيسها وعدد من أعضائها ومن الموظفين (إ.ب.أ)

أعلن الجيش الإسرائيلي استقدامه لواءً إضافياً من قوات الاحتياط من أجل مهام عملياتية على الحدود اللبنانية، وذلك بعد ساعات على إعلان «حزب الله» إطلاق «مرحلة جديدة وتصاعدية» في المواجهة مع إسرائيل واستخدام «صواريخ دقيقة» للمرة الأولى، متحدثاً عن مواجهة «المئات من مجاهدي المقاومة أكثر من 70 ألف ضابط وجندي إسرائيلي في العمليات البرية».

وقال الجيش الإسرائيلي في بيان إنه «وفقاً لتقييم الوضع، يستدعي جيش الدفاع الإسرائيلي لواءً احتياطياً إضافياً للقيام بمهام عملياتية في الساحة الشمالية»، بالقرب من الحدود اللبنانية، وفق ما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية».

وأتى ذلك بعدما كان قد أعلن «حزب الله»، مساء الخميس، عن الانتقال إلى «مرحلة جديدة وتصاعدية» في المواجهة مع إسرائيل «ستتحدث عنها مجريات وأحداث الأيام المقبلة»، مشيراً إلى أن عناصره يستهدفون «تحشدات العدو الإسرائيلي في المواقع والثكنات العسكرية على طول الحدود... وفي المستوطنات والمدن المحتلة في الشمال» باستخدام «مختلف أنواع الصواريخ، ومنها الدقيقة التي تُستَخدم للمرة الأولى».

وفي حين لم يوضح «حزب الله» ماهية المرحلة الجديدة التي تحدث عنها، أكّد أنه يستمر في المواجهات البرية، متحدثاً عن اشتباكات داخل بعض القرى اللبنانية، ومشيراً إلى أن «حصيلة خسائر العدو بلغت 55 قتيلاً وأكثر من 500 جريح من ضباط وجنود».

رفع معنويات

ويضع رئيس مركز «الشرق الأوسط والخليج للتحليل العسكري - أنيجما»، رياض قهوجي، إعلان «حزب الله» عن مرحلة جديدة في المواجهات في خانة «رفع معنويات جماعته»، «إلا إذا كان يقصد أن المواجهة انتقلت اليوم إلى داخل الأراضي اللبنانية»، وفق تعبيره.

ويقول قهوجي لـ«الشرق الأوسط» إن «الحديث عن بدء مرحلة جديدة ليس إلا محاولة لرفع معنويات جماعته وللقول لهم بأنه لا يزال قوياً، بحيث إن (حزب الله) استخدم معظم أسلحته من الصواريخ الصغيرة إلى الباليستية وما لم يستخدمه، إذا وجد فلن يغيّر شيئاً في المعادلة»، مشيراً إلى أن المواجهات تتركز اليوم على المعارك البرية لمحاولة صد التقدم الإسرائيلي»، سائلاً: «هل يقصد (حزب الله) أن الجيش الإسرائيلي بات داخل لبنان وباتت المواجهة في الأراضي اللبنانية؟».

ويرى أن «(حزب الله) يتكبّد خسائر كبيرة وهو لم يعد يملك شيئاً عسكرياً، في حين يخسر الجانب الإسرائيلي بدوره جنوداً في المعركة البرية، وهو أمر طبيعي ومتوقع في معارك من هذا النوع، لكنه من الواضح أنه يمضي قدماً في مواجهته، ولا يبدو أن شيئاً تغيّر من الجانب الإسرائيلي حتى الآن».

مسارات التقدم

وفي وقت تستمر فيه المواجهات البرية مع الغموض الذي يحيط بتفاصيلها، تحدث «حزب الله» عن اشتباكات داخل القرى اللبنانية. وقال في بيان إن «الجيش الإسرائيلي يتكبّد خسائر فادحة على امتداد محاور المواجهة عند الحافة الأمامية في جنوب لبنان»، مشيراً إلى أن إسرائيل «استقدمت منذ بدء العمليات البرية 5 فرق عسكرية تضم أكثر من 70 ألف ضابط وجندي ومئات الدبابات والآليات العسكرية. في المقابل كان المئات من مجاهدي المقاومة بكامل جهوزيتهم واستعدادهم للتصدي لأي توغل بري إسرائيلي باتجاه قرى جنوب لبنان».

وتحدث عن المعركة البرية، مشيراً إلى «تصاعد في وتيرة المواجهات البطولية التي يخوضها مجاهدو المقاومة مع ضباط وجنود العدو الإسرائيلي المتوغلة من عدة مسارات في القطاعين الشرقي والغربي باتجاه قرى العديسة، ورب ثلاثين، وبليدا، ومركبا، والقوزح، وعيتا الشعب، وراميا، بتغطية نارية كثيفة من سلاح الجو والمدفعية استهدفت القرى المذكورة ومحيطها». ولفت إلى أنه وفق خطط ميدانية معدّة مسبقاً، تصدى مقاتلوه في محيط وداخل بعض القرى عبر استهداف مسارات التقدم، واستدراج القوات الإسرائيلية إلى بعض الكمائن المتقدمة داخل بعض القرى الحدودية، حيث دارت اشتباكات عنيفة مع العدو من المسافة صفر، خصوصاً في بلدات القوزح، ورب ثلاثين، «مما أسفر عن تكبد العدو 10 قتلى وأكثر من 150 جريحاً وتدمير 9 دبابات ميركافا و4 جرافات عسكرية».

وأكد في الوقت عينه استمرار القوتين الصاروخية والجوية باستهداف تحشدات العدو الإسرائيلي في المواقع والثكنات العسكرية على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية وفي المستوطنات والمدن المحتلة في الشمال، وصولاً إلى قواعده العسكرية في عمق فلسطين المحتلة، بمختلف أنواع الصواريخ والمسيّرات الانقضاضية التي تُستخدم للمرة الأولى، وذكّر بأن وحدة الدفاع الجوي أسقطت طائرتي استطلاع من نوع «هرمز 450».

استهداف صفد

في غضون ذلك، أعلن «حزب الله» قصف جنود إسرائيليين في مدينة صفد في شمال إسرائيل بطائرات مسيّرة، «رداً على اعتداءات العدو الإسرائيلي على القرى الجنوبية الصامدة والمنازل الآمنة».

كذلك، استمر الحزب بإطلاق الصواريخ باتجاه شمال إسرائيل، وقال في بيانات متتالية إنه قصف جنوداً إسرائيليين بمدينة صفد في شمال إسرائيل بطائرات مسيّرة و‏تجمّعاً آخر في محيط بلدة عيتا الشعب في أثناء محاولتهم إجلاء الجنود الجرحى والقتلى ‏بصلية صاروخية كبيرة، واستهدف تحرّكات لجنود الجيش الإسرائيلي عند أطراف بلدة كفركلا بقذائف المدفعية.

واستهدف أيضاً مستوطنة زرعيت وثكنة يوأف في الجولان السوري المحتل بصليات صاروخية.

في المقابل، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه تم اعتراض مسيّرة من لبنان باتجاه الجليل الغربي، صباح الجمعة، بعدما كان قد أشار إلى رصد إطلاق 15 صاروخاً من لبنان تجاه خليج حيفا، فيما أشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى إطلاق 10 قذائف من لبنان باتجاه الجليل الغربي وأكدت أنه تم اعتراضها.

وأفادت الجبهة الداخلية الإسرائيلية، الجمعة، بأن صفارات الإنذار دوّت في زرعيت بالجليل الأعلى، ومن ثم كريات شمونة وبلدات عدة بالجليل الأعلى، وأعلن الجيش الإسرائيلي، في بيان له، أن سلاح الجو نفّذ غارات على نحو 150 هدفاً في غزّة وفي العمق اللبناني مستهدفاً مسلحين ومستودعات ذخيرة وأعمدة إطلاق ومواقع قنص ومراقبة.

اغتيال رمال

وقال الجيش الإسرائيلي إنه اغتال محمد حسين رمال، قائد منطقة الطيبة في «حزب الله»، مشيراً إلى أن قوات من الفريق القتالي التابع للواء السابع عثر على قاذفات محملة جاهزة للانطلاق باتجاه بلدات شمال البلاد ودمرتها.

ولفت إلى مواصلة «مقاتلات الفرقتين 36 و91 عملياتها في منطقة جنوب لبنان، حيث عثرت على العديد من الأسلحة، بما في ذلك أسلحة القناصة، والكثير من المعدات القتالية، وقاذفات مضادة للدبابات وصواريخ من نوع بركان جاهزة للاستخدام وموجهة نحو إسرائيل».

وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي عبر منصة «إكس» إن قوات اللواء 188 دمّرت مقراً مركزياً تحت الأرض ومسار نفق لـ«حزب الله» حيث مستودعات الأسلحة، وعشرات البنى التحتية ووسائل قتالية، مشيراً إلى مقتل 4 مقاتلين في الحزب.

وكانت وسائل إعلام إسرائيلية أعلنت، مساء الأربعاء، عن إصابة 13 جندياً في حادثة صعبة؛ حيث استهدفت مُسيّرة متفجرة قوة للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، وأشارت إلى أنه تم نقل 3 جنود مصابين خلال الليل من المواجهات في لبنان إلى مركز زيف الطبي.

قصف متواصل

وكذلك استمر القصف المتواصل على بلدات الجنوب حيث يسقط المزيد من القتلى والجرحى وتم تدمير مبانٍ بأكملها، فيما ساد الهدوء الحذر في البقاع لليوم الأول بعد تعرضه، الأسابيع الماضية، لقصف غير مسبوق أدى إلى تدمير قرى بكاملها، مع استمرار الهدوء في الضاحية الجنوبية، منذ صباح الأربعاء.

جانب من المباني المدمرة في النبطية نتيجة القصف الكثيف الذي تتعرض له المدينة (إ.ب.أ)

وأفادت «الوكالة الوطنية للإعلام» بأن الطيران الحربي الإسرائيلي نفّذ عدواناً جوياً واسعاً في جنوب لبنان؛ حيث شنّ غارات على مدينة النبطية مستهدفاً مبنى سكنياً في حي الراهبات؛ ما أدى إلى تدميره، إضافة إلى مبنى على طريق بلدة حاروف، كما تعرضت بلدة دير سريان لغارة جوية، تلتها غارة على زوطر الغربية وغارة على كوثرية السياد، وتعرض مدخل بلدة حبوش وبلدة يحمر الشقيف وعيتا الشعب وعيتا الجبل وأطراف بلدة شبعا لغارات جوية. كما تعرضت بلدات حانين ورامية والبازورية والشعيتية وجويا في قضاء صور لقصف، وبيت ليف وعيتا الشعب في قضاء بنت جبيل لقصف بقذائف دبابات الميركافا، حسب «الوطنية».

وسقط 3 قتلى وعدد من الجرحى في غارة على بلدة جويا، إضافة إلى قتيلين في بلدة الزرارية، حسب «الوطنية»، مشيرة كذلك إلى سقوط قتيلين في أنصار وقتيل في زوطر الشرقية.


مقالات ذات صلة

«حزب الله» يوسع رقعة استهدافات صواريخه إلى تل أبيب

المشرق العربي أبنية مدمرة في منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية نتيجة القصف الإسرائيلي (أ.ف.ب) play-circle 00:42

«حزب الله» يوسع رقعة استهدافات صواريخه إلى تل أبيب

أعاد «حزب الله» تفعيل معادلة «بيروت مقابل تل أبيب» التي كثيراً ما رفعها، عبر استهداف قلب إسرائيل.

كارولين عاكوم (بيروت)
المشرق العربي تصاعد الدخان جراء غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت اليوم (رويترز)

​تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت

تجددت الغارة الإسرائيلية (الأحد) على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات وجهها الجيش الإسرائيلي للسكان بإخلاء موقعين

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)

أطفال لبنان عرضة للقتل والصدمات النفسية

أصبح خبر مقتل أطفال في لبنان بشكل يومي، بغارات تنفذها إسرائيل بحجة أنها تستهدف عناصر ومقرات وأماكن وجود «حزب الله»، خبراً عادياً يمر مرور الكرام.

بولا أسطيح (بيروت)
المشرق العربي جانب من الأضرار التي أصابت مركز الجيش اللبناني في منطقة العامرية في قضاء صور إثر استهدافه بقصف إسرائيلي مباشر (أ.ف.ب) play-circle 00:37

ميقاتي: استهداف إسرائيل الجيش اللبناني رسالة دموية

رأى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن استهداف إسرائيل مركزاً للجيش اللبناني بالجنوب يمثل رسالة دموية مباشرة برفض مساعي التوصل إلى وقف إطلاق النار.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

لم تكن الغارة الإسرائيلية الثالثة التي استهدفت منطقة البسطة وسط بيروت ذات طابع عسكري فقط؛ بل كان لها بُعدٌ رمزي يتمثل في ضرب منطقة أضحت بيئة مؤيدة لـ«حزب الله».

يوسف دياب (بيروت)

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
TT

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)

لم تكن الغارة الإسرائيلية الثالثة التي استهدفت منطقة البسطة، وسط بيروت فجر الجمعة، ذات طابع عسكري فقط، بل كان لها بُعدٌ رمزي يتمثّل في ضرب منطقة أضحت من البيئات الشعبية المؤيدة لـ«حزب الله»، وتماهت معه منذ تأسيسه في عام 1982 يوم انشق عن حركة «أمل» بصفته تنظيماً مسلّحاً حمل اسم «حركة أمل الإسلامية».

يكفي الحديث عن تاريخ هذه المنطقة لإدراك أن استهدافها وتدميرها لا يقفان عند حدود تعقّب قيادات «الحزب» واغتيالهم وترويع بيئته في قلب العاصمة بيروت فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى تدمير أحياء ومبانٍ ما زالت تحفظ على جدرانها وفي ذاكرتها كثيراً من تاريخ بيروت الجميل، رغم تغيّر هويتها، لا سيما شارع المأمون الذي تحمل عقاراته ومبانيه أسماء عائلات بيروتية سنيّة ومسيحية رغم انتقال ملكيتها في السنوات الماضية إلى أسماء أشخاص من الطائفية الشيعية الذين يدورون في فلك «حزب الله»، بعد أن عزز الأخير وجوده ونفوذه في البسطة وامتداداً منها إلى مناطق أخرى، سواء بفعل استملاك العقارات، أو بنقل سجلات قيد عائلات من الجنوب إلى بيروت لغايات سياسية انتخابية وأحياناً أمنية.

لا يختلف اثنان من أبناء بيروت على أن الهوية الطائفية والسياسية لمنطقة البسطة تغيّرت كثيراً، ويشير مختار المصيطبة، صائب كلش، إلى أن «المنطقة التي استهدفتها الغارة الإسرائيلية، وتحديداً شارع المأمون، ذات غالبية سنيّة بامتياز، وأغلب سكانها من عائلات: عيتاني، وشاتيلا، والنويري، وعيدو، والتنير، ومنيمنة، ومغربل، وسوبرة، وكان فيها عدد لا بأس به من العائلات المسيحية مثل: مجدلاني، وجنحو، ومنيّر، والمطران، وعودة... وغيرها».

وأوضح كلش لـ«الشرق الأوسط» أنه «على أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والتهجير من الجنوب إلى بيروت، استوطنت عائلات شيعية في هذه المنطقة، وآثرت البقاء فيها، واستملكت عقارات وشققاً سكنية، ورفضت مغادرتها حتى بعد انسحاب إسرائيل إلى خلف ما كان يعرف بالشريط العازل في الجنوب».

مجزرة «فتح الله»

اللافت أن دور «حزب الله» ووجوده بدأ يتعزز مع اكتشاف ارتباطه بإيران، واتخذ في بداياته من منطقة البسطة مكاناً لقياداته وتقوية نفوذه، وحوّل ثكنة «فتح الله» الواقعة في شارع المأمون مقراً لقيادته. لكن بعد أشهر قليلة من عام 1987، وفي ظلّ تمدده عسكرياً بالمنطقة، اصطدم مع القوات السورية إثر دخول الأخيرة إلى «بيروت الغربية» على أثر إقدام «الحزب» على قتل جندي سوري، عندها عمد الجيش السوري إلى تصفية 27 عنصراً من مقاتلي «الحزب» داخل هذه الثكنة وسيطر عليها، وعرفت العملية يومها بـ«مجزرة فتح الله»، لينقل على أثرها «الحزب» مركز قيادته إلى الضاحية الجنوبية.

اتخذ «حزب الله» من تلك المجزرة عبرة لإعادة صوغ علاقته بالجيش السوري، خصوصاً في ظلّ العلاقات المتنامية بين إيران وسوريا. وأكد المختار كلش أنه «بعد سيطرته عسكرياً على بيروت، سمح الجيش السوري لـ(الحزب) بأن يتمدد في منطقة البسطة شعبياً، وهذا سهّل عليه وعلى مؤيديه استملاك الشقق والمنازل، خصوصاً بين عامي 1988 و1990عندما أطلق العماد ميشال عون ما سماها (حرب التحرير) ضدّ الجيش السوري، وتسبب ذلك في هجرة المئات من أبناء العائلات البيروتية السنيّة والمسيحية من المنطقة، والخشية من استهداف منطقتهم من الجيش اللبناني الذي كان تحت إمرة ميشال عون، كما شمل التهجير النهائي غالبية المسيحيين، وبقي وجود بعضهم رمزياً».

رجال أمن لبنانيون في وسط بيروت... وتبدو خلفهم صورة الأمين العام الراحل لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ب)

صحيح أن شوارع وأحياء المصيطبة، القريبة من البسطة، لا تزال تحمل أسماء شخصيات بيروتية سنيّة، إلّا إن وجهها تبدّل أيضاً، وهذا تظهّر بشكل كبير بعد انخراط «حزب الله» في العمل السياسي؛ بدءاً من الانتخابات النيابية في عام 1992 وحصوله على كتلة وازنة، كما تعزز أكثر بعد تحرير الجنوب في عام 2000، لكنّ التحوّل الأكبر انطلق في عام 2005 على أثر خروج الجيش السوري من لبنان على خلفية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وتصدّر «الحزب» المشهد السياسي ليأخذ الدور الذي كان يمارسه السوريون في لبنان.

نقل نفوس

ويلفت كلش إلى أن «عدد الشيعة المسجلين في دوائر النفوس ببيروت كان ضئيلاً جداً، لكن بعد عام 2005 نُقلت نفوس آلاف العائلات من الجنوب إلى بيروت، وسُجلوا في مناطق مثل المصيطبة، والباشورة، والمرفأ، امتداداً إلى ميناء الحصن وعين المريسة، والسبب في ذلك تعزيز حضور (الحزب) في الانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية، بدليل أن نائب (الحزب) عن بيروت، أمين شرّي، حصد 33 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، بينها 28 ألف صوت شيعي، مقابل 6 آلاف صوت فقط لنائب حركة (أمل) محمد خواجة».

ذاكرة المصيطبة

لم يُكتب الكثير عن منطقة المصيطبة، إلّا إن أبناءها المتجذرين فيها يحملون في ذاكرتهم ووجدانهم تاريخ منطقتهم، ويشير المحامي مروان سلام، رئيس جمعية «بيروت منارتي»، إلى أن البسطة «مصنّفة ضمن قائمة أشهر المناطق التراثية، لكن العوامل التي دخلت عليها غيّرت كثيراً من مزاياها». ويؤكد سلام لـ«الشرق الأوسط» أن المنطقة «تميزت بما تحتوي من مراكز إدارية وتعليمية وطبية، بالإضافة إلى عدد من الحدائق والمتنزهات التي جرى تشويه وجهها؛ إما عمداً، وإما تقصيراً»، لافتاً إلى أنها «غنيّة بالمطاعم والمقاهي الواقعة في مبانٍ تراثية قديمة». ويردّ سلام تسمية المنطقة «البسطة» إلى أنها «اعتُمدت مقراً لسلطة المماليك، وحملت هذا الاسم نسبة إلى الكرسي الخشبي التي كان يجلس عليه السلطان».

أكثر من ذلك، حملت المنطقة اسم «البسطة الشريفة»، كما يقول المحامي مروان سلام؛ «ففيها كانت تقام حلقات تلاوة القرآن الكريم ورواية الأحاديث النبوية الشريفة، وكان لأهل بيروت في ذلك الحين مكانان يتحلقون فيهما للغرض المذكور؛ هما (البسطة الفوقا) و(البسطة التحتا)، ويعنون بهما الحلقات الدينية».

محطة القبضايات

ويتحدث عن مزايا أبناء المنطقة؛ «إذ كانت محطة دائمة للقبضايات الذين يرتادون مقاهيها، وكانت معبراً لـ(ترامواي بيروت) الذي ينطلق من البربير إلى النويري ثم البسطتين الفوقا والتحتا، والباشورة، وصولاً إلى محطته في (ساحة رياض الصلح)». ويضيف سلام أن البسطة «رغم صغر مساحتها، فإنها كات تحوي عدداً من المستشفيات منها: (البربير)، و(الإسلامي)، و(مليح سنو) و(مستشفى الدكتور محمد خالد)، إضافة إلى مدارس: (الشيخ نور)، و(عزيز مومنة)، و(شريف خطاب)، و(العلماوي) و(مكارم الأخلاق). كما خرّجت عدداً كبيراً من الفنانين، منهم: نجاح سلام، ومحمد سلمان، وأنطوان كرباج، وشوشو، ومحمد شامل، ومحيي الدين سلام، والرسام مصطفى فروخ... وغيرهم. وهؤلاء جميعاً من أبنائها وكانت تفخر بهم ويفخرون بها وبتاريخها».