لماذا لم تُحسم حرب غزة حتى الآن؟

فلسطيني نازح يتفقد منزله في دير البلح بقطاع غزة نهاية أغسطس الماضي (إ.ب.أ)
فلسطيني نازح يتفقد منزله في دير البلح بقطاع غزة نهاية أغسطس الماضي (إ.ب.أ)
TT

لماذا لم تُحسم حرب غزة حتى الآن؟

فلسطيني نازح يتفقد منزله في دير البلح بقطاع غزة نهاية أغسطس الماضي (إ.ب.أ)
فلسطيني نازح يتفقد منزله في دير البلح بقطاع غزة نهاية أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

عند اندلاع الحرب يسقط الردع، وخلال الحرب، تُختبر الاستراتيجيات العسكريّة التي كانت قد حُضّرت من أفرقاء الصراع. تبقى طبيعة الحرب ثابتة على أنها تُخاض لأهداف سياسيّة. أما خصائص الحرب فهي متغيّرة بسبب التحوّلات في ثلاثة أبعاد هي: السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وتندرج التكنولوجيا على أنها عامل أساسيّ مُؤثّر في تبدّل خصائص الحرب.

لم يعد خوض الحرب في القرن الحادي والعشرين حكراً على الدولة-الأمةّ، ويعود السبب إلى انخفاض تكلفة خوض الحرب بشكل دراماتيكيّ، فضلاً عن تفشّي التكنولوجيا ذات الاستعمال المزدوج (Duel Use).

حسب مجلّة «الإيكونوميست»، يعيش 100 مليون نسمة من أصل 400 مليون في الشرق الأوسط تحت حكم الميليشيات. في الشرق الأوسط أيضاً، يدير اللاعب من خارج إطار الدولة (Non State Actor)، وبامتياز، ديناميكيّة اللعبة الجيوسياسيّة في هذه المنطقة؛ فهو لاعب هجين، هو داخل الدولة عندما يناسبه الأمر، وهو خارجها عندما يريد.

يُقدّم خدمات جيوسياسيّة لراعيه على حساب دولته الأساسيّة، وعند الترجمة السياسيّة لإنجازاته، يخرج هو ودولته من سدّة القرار، لكنه يحظى من الراعي بمكاسب محدودة لجهوده وخدماته، يترجمها هو في وقت لاحق إلى مكاسب سياسيّة داخل مجتمعه الأساسيّ وعلى حساب المكوّنات الاجتماعيّة الأخرى، تُحضِّر وتهيئ هذه المعادلة الأرض الخصبة للحروب الأهليّة.

حاملة الطائرات الأميركية «أبراهام لينكولن» ومجموعتها القتالية (صفحة حاملة الطائرات على «فيسبوك»)

بعد النكسة في حرب الأيام الستّة عام 1967، أنتجت قمّة الخرطوم اللاءات الثلاثة: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض. لم تحضر سوريا القمّة ودعت إلى حرب شعبيّة ضد إسرائيل.

نقلت هذه القمّة الصراع مع إسرائيل من الأمّة - الدولة العربيّة (المهزومة) إلى لاعب من خارج إطار الدولة، ألا وهو «منظّمة التحرير الفلسطينيّة». ولقد شكّل لبنان من جهّة، جبهة المواجهة العسكريّة المباشرة خصوصاً بعد اتفاق القاهرة عام 1969. ومن جهّة أخرى، شكّل العالم العربيّ خصوصاً دول الخليج العمق الاستراتيجيّ لهذه المواجهة، وفي كلّ الأبعاد خصوصاً الماديّة والسياسيّة.

دفع لبنان ثمن هذه المواجهة، فسقطت الدولة، كما سقطت «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» بعد اجتياح لبنان عام 1982. وقّعت المنظّمة اتفاق «أوسلو» مع إسرائيل عام 1993، لتتغيّر ديناميكيّة الصراع العربي - الإسرائيليّ إلى غير رجعة وبشكل جذريّ.

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

من خارج الدولة

بنت حركة «حماس» دولتها الخاصة في قطاع غزّة بعد الانقلاب على السلطة الفلسطينية عام 2007، لتتغيّر مرّة أخرى ديناميكيّة الصراع العربيّ - الإسرائيليّ بشكل جذريّ، وهنا قد يمكن القول إن الصراع العربي - الإسرائيليّ لم يعد صراعاً قوميّاً، بل تحوّل إلى البُعد الدينيّ، وبعد دخول العامل الإيرانيّ، قد يمكن القول إنه لم يعد عربياً كما كان من قبل.

بشّر هذا التحوّل بالحرب المستدامة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإذا تخلّل هذه الحرب بعض التوقّفات، فإنما هي «استراحة للمحارب»، وبذلك، شكّلت القضيّة الفلسطينيّة منصّة لمن يرغب من غير الدول العربيّة في لعب دور إقليمي لتحقيق أهدافه وطموحاته الجيوسياسيّة.

اعترف الراحل أبو علي مصطفى، أمين عام «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» عام 2000 خلال مقابلة تلفزيونيّة، بأن الاستراتيجيّة الكبرى التي اعتمدتها فصائل المقاومة ضد إسرائيل كانت خاطئة، لأنها قلّدت الحرب الفيتناميّة التحرّريّة، وذلك دون درس وتحليل خصوصيّة هذه التجربة. خصوصاً أن حركة المقاومة كي تنجح، هي بحاجة دائماً (والكلام لأبو علي) إلى «عاملين أساسيّين هما: الحماية الشعبيّة، والحماية الجغرافيّة (لدى فيتنام العمق الجغرافي الاستراتيجي الأمر الذي يسمح بتنفيذ العمليات ضد القوات الأميركيّة والاختفاء بسرعة) أما العمق الجغرافيّ الاستراتيجيّ للمقاومة الفلسطينيّة في فلسطين المحتلّة هو ليس داخل فلسطين، كالضفّة الغربيّة مثلاً، لا بل يتمثّل حتماً في العمق العربيّ، فإذا تخلّت القضيّة الفلسطينيّة عن العمق العربيّ، فهي حتماً خاسرة».

صورة أرشيفية تجمع (من اليمين) أبو علي مصطفى والقدومي وعرفات وجورج حبش، وأبو إياد وأبو ماهر اليماني

معضلات «حماس»

أرادت «حماس» إعادة هندسة القطاع طبوغرافياً وجغرافياً. ولأنها تفتقر إلى العمق العربيّ، فقد سعت إلى السيطرة الأفقيّة، كما السيطرة العمودية عبر الأنفاق. فـ«حماس»، وحسب الكاتبة دفنيه ريتشموند باراك، في مقال نشرته «فورين أفيرز» أعادت إنتاج حرب الأنفاق. هدفت «حماس» من هذه الاستراتيجيّة إلى تكبير (Aggrandize) مساحة القطاع، وجعل الأهميّة الاستراتيجيّة تحت الأرض بدلاً من أن تكون على سطحها، متفوّقة بذلك على الأنفاق الفيتناميّة، كما اتجهت إلى قتال يعتمد مبدأ البساطة مقابل التعقيد، خصوصاً في مجال التكنولوجيا (Asymmetry). أيضاً اعتمدت «حماس» مبدأ قياس «الربح بعدم الخسارة».

فهل يمكن لـ«حماس» تكرار «طوفان الأقصى»؟ بالطبع لا. فالأمر يتطلّب تحضيراً عسكريّاً تراكميّاً على فترات زمنيّة طويلة، كما يتطلّب وسائل كافية. وهذا أمر ليس متوفّراً في المديين القريب أو المتوسط، وحتى البعيد، كما أنه أمر منوط بحالة «حماس» بعد توقّف القتال في القطاع.

فلسطينيون في خان يونس أعلى مركبة عسكرية إسرائيلية جرى الاستيلاء عليها ضمن عملية «طوفان الأقصى» 7 أكتوبر الماضي (د.ب.أ)

تبيّن بعد حروب كثيرة أن من يعتمد عنصر المفاجأة ضد عدو أقوى منه بكثير لتحقيق نصر مؤقّت، يخسر عادةً في نهاية المطاف، خصوصاً إذا كان في عزلة جغرافيّة، وإذا كان لدى هذا العدو القدرة اللوجيستيّة الكبيرة، كما لديه حريّة الحركة والقدرة النارية التدميريّة، فقد ألقت إسرائيل حتى الآن نحو 100 ألف طن من المتفجرات على غزّة.

معضلات إسرائيل

أرادت إسرائيل دائماً حسم الحرب بسرعة، ويعود سبب ذلك إلى أنه لا يمكن لإسرائيل أن تبني جيشاً كبيراً، لا بل هي تعتمد على عنصر الاحتياط، فتكون المعادلة كالتالي، حسب بعض المفكّرين الاستراتيجيّين الإسرائيليّين:

لا يمكن لإسرائيل أن تُبيد أعداءها بضربة واحدة، وعليه، قد يمكن القول إن الحرب مُستدامة مع العرب.

وجُلّ ما يمكن لها أن تفعل، هو تدمير قدرات العرب العسكريّة عند كل حرب، وبشكل لا يمكّن العرب من التعويض إلا بعد فترة طويلة. وبذلك، تستعمل إسرائيل الاحتياط لفترة قصيرة، ومن ثم تحرّره للعودة إلى المجتمع الإسرائيلي.

يُعد الردع الإسرائيلي عاملاً مهمّاً، لكن فقط لتأخير وقوع الحرب، ومن هنا فالتركيز والاستثمار في القدرات العسكريّة من ضمن مبدأ «التفوّق النوعي العسكريّ».

تقاتل إسرائيل اليوم في قطاع غزّة، بجيش لم يُعدّ لهكذا حرب طويلة، استنزافية. فالاحتياط لا يزال يقاتل في غزّة والضفة الغربيّة لفترة تزيد على عشرة أشهر. لم تستطع إسرائيل ترميم ردعها، كما لم تستطع أن تحسم بسرعة وتقيس نصرها، تقاتل إسرائيل على سبع جبهات في نفس الوقت.

جنود إسرائيليون بقطاع غزة يحضرون مراسم كجزء من يوم الذكرى الوطني للجنود الذين سقطوا خلال الحروب وضحايا الهجمات وسط الصراع المستمر بين إسرائيل وحركة «حماس» في قطاع غزة 13 مايو 2024 (أ.ف.ب)

فهل أصبح لزاماً على إسرائيل أن تُغيّر عقيدتها العسكريّة الاستراتيجيّة؟ يُجيب بعض الخبراء بـ«نعم»، ويعارض آخرون بأن إسرائيل تعاني من معضلات لا حلّ لها في الجغرافيا، والطبوغرافيا وحتى الديمغرافيا.

الحرب اليوم

دمّرت إسرائيل وقتلت، لكنها لم تربح، وهي ليست قادرة على ترجمة ما حقّقته القوة العسكريّة تكتيكيّاً إلى نصر استراتيجيّ. في المقابل، ضربت «حماس» الوضع الذي كان قائماً لكنها عاجزة عن الترجمة السياسيّة لعملية «طوفان الأقصى»، لكنها حتى الآن تمنع إسرائيل من الانتصار، وبذلك تتشكّل المعادلة التالية: «تربح (حماس) إذا لم تخسر، وتخسر إسرائيل إذا لم تربح». إذاً نحن في وضع استنزافي وطريق مسدود (Stalemate) للفريقين دون أفق سياسيّ. في هكذا حالة، لا بد من فرض الحل من الخارج. فهل ستنجح أميركا؟


مقالات ذات صلة

أميركا: تحدثنا مع إسرائيل حول قناة لمناقشة الضرر على المدنيين في غزة

المشرق العربي فلسطيني يسير بجوار أنقاض منزل دمرته غارات إسرائيلية في خان يونس جنوب قطاع غزة (رويترز)

أميركا: تحدثنا مع إسرائيل حول قناة لمناقشة الضرر على المدنيين في غزة

قالت وزارة الخارجية الأميركية اليوم الخميس إن الولايات المتحدة أجرت محادثات مع إسرائيل الأسبوع المنصرم حول عقد أول اجتماع باستخدام قناة اقترحت واشنطن إنشاءها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
شمال افريقيا رد فعل فلسطينيين بعد تعرض مدرسة تؤوي النازحين لضربة إسرائيلية في مخيم الشاطئ بغزة (رويترز)

القاهرة تستضيف مؤتمراً إغاثياً لغزة بمشاركة «الأونروا»

أعلن مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون المتعددة الأطراف والأمن عمرو الجويلي أن مصر سوف تستضيف الشهر المقبل مؤتمراً وزارياً لحشد المساعدات الإنسانية لغزة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شؤون إقليمية فلسطينيون يتلقون مساعدات غذائية في مخيم البريج للاجئين بقطاع غزة 6 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

تقرير: المهلة الأميركية لإسرائيل لتحسين الوضع الإنساني في غزة قد يتم تمديدها

قال موقع «أكسيوس» نقلاً عن مسؤولين أميركيين، إن المهلة التي حددتها واشنطن لإسرائيل لتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة قد يتم تمديدها لأسبوع أو أسبوعين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية بنيامين نتنياهو (يسار) ويوآف غالانت (رويترز) play-circle 00:32

المحكمة العليا الإسرائيلية: إقالة نتنياهو لوزير الدفاع أثناء الحرب تثير الشكوك

خلصت المحكمة العليا في إسرائيل إلى أن إقالة رئيس الوزراء لوزير الدفاع أثناء الحرب تثير الشكوك، لكنها عَدَّت أنه لا يوجد سبب قانوني للتدخل في القرار.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي خريطة التحذير التي نشرها الجيش الإسرائيلي عبر صفحة المتحدث باسمه أفيخاي أدرعي على منصة «إكس»... (الجيش الإسرائيلي)

الجيش الإسرائيلي يصدر أمر إخلاء لسكان أحياء عدة شمال قطاع غزة

أصدر الجيش الإسرائيلي، اليوم (الخميس)، أمر إخلاء لسكان أحياء عدة في شمال قطاع غزة، بعد تصنيفه لها «مناطق قتال خطرة».

«الشرق الأوسط» (غزة)

إسرائيل تختبر دفاعات «عاصمة الحدود» اللبنانية

مشيّعون يقرأون الفاتحة على أرواح 16 شخصاً قُتلوا بغارة إسرائيلية على بلدة برجا قُبيل مراسم الجنازة في مدينة صور جنوب لبنان أمس (إ.ب.أ)
مشيّعون يقرأون الفاتحة على أرواح 16 شخصاً قُتلوا بغارة إسرائيلية على بلدة برجا قُبيل مراسم الجنازة في مدينة صور جنوب لبنان أمس (إ.ب.أ)
TT

إسرائيل تختبر دفاعات «عاصمة الحدود» اللبنانية

مشيّعون يقرأون الفاتحة على أرواح 16 شخصاً قُتلوا بغارة إسرائيلية على بلدة برجا قُبيل مراسم الجنازة في مدينة صور جنوب لبنان أمس (إ.ب.أ)
مشيّعون يقرأون الفاتحة على أرواح 16 شخصاً قُتلوا بغارة إسرائيلية على بلدة برجا قُبيل مراسم الجنازة في مدينة صور جنوب لبنان أمس (إ.ب.أ)

اختبرت القوات الإسرائيلية على مدى الأيام الماضية، دفاعات «حزب الله» في محيط مدينة بنت جبيل التي تعرف بأنها «عاصمة الحدود»، وأكبر المدن الحدودية في جنوب لبنان، في محاولة لنقل المعركة إلى المدينة بعد فشل التوغل في مدينة الخيام خلال اليومين الماضيين، وذلك في ظل مراوحة في العملية البرية، حولتها إلى «حرب استنزاف» وتراشق صاروخي، بعد أربعة أسابيع على انطلاقها.

ونفذت مجموعات إسرائيلية محاولتي تسلل، إحداها سلكت طريقاً بين يارون ومارون الراس من الجهة الشرقية، بينما حاولت الثانية أن تسلك الطريق الممتد في الحدود بين رميش وعين إبل، وصولاً إلى الأطراف الجنوبية لبنت جبيل. وبدت «كمجموعات استطلاع ومناورة، لكنها لم تدخل إلى أحياء بنت جبيل»، حسبما قالت مصادر لـ«الشرق الأوسط».

وجاءت تلك المحاولات في أعقاب مراوحة في المعركة البرية. وقالت المصادر إن المعركة «تحوّلت إلى حرب استنزاف، حيث لم تطرأ أي تغيرات على خريطتها منذ أسبوعين، فيما تدخل القوات الإسرائيلية إلى القرى الحدودية مجموعات هندسة، تفخخ المنازل والأحياء، وتفجرها في اليوم التالي».

وتمضي إسرائيل بمواصلة قصفها الجوي الموسع في العمق اللبناني، الذي أسفر عن خسائر بلغت ضعفي خسائر حرب يوليو (تموز) 2006، لناحية الأعداد البشرية التي فاقت الثلاثة آلاف، والتدمير الذي فاق 35 ألف وحدة سكنية مدمرة بشكل كامل، فضلاً عن خسائر تفوق الـ10 ملايين دولار.