رياض سلامة... من جوائز التكريم إلى أروقة المحاكم

حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة (رويترز)
حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة (رويترز)
TT

رياض سلامة... من جوائز التكريم إلى أروقة المحاكم

حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة (رويترز)
حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة (رويترز)

كان على مدى سنوات عرّاب استقرار الليرة وانتعاش الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية، فحصد جوائز وتكريماً في العالم، لكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، المستهدف بتحقيقات عدة في لبنان والخارج، أوقف، الثلاثاء، إثر استجوابه في قضية اختلاس أموال، في مشهد انتظره اللبنانيون طويلاً، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

ويشكّل سلامة منذ ثلاثة أعوام محور تحقيقات محلية وأوروبية تشتبه في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وأساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا عن تحويله الأموال إلى حسابات في الخارج و«الإثراء غير المشروع».

ومنذ نهاية ولايته في 31 يوليو (تموز) 2023 حاكماً لمصرف لبنان، ابتعد سلامة (74 عاماً) عن الأنظار، ولم يظهر إلا أواخر عام 2023 في جنازة شقيقه في ضاحية بيروت الشمالية.

في أول مثول له أمام القضاء اللبناني بعد انتهاء ولايته، أوقف سلامة «بعد استجوابه على مدى ثلاث ساعات حول شبهات اختلاس من مصرف لبنان تفوق 40 مليون دولار (...) جرى تحويلها إلى الخارج»، بحسب مصدر قضائي.

وسلامة الذي شغل منصبه منذ عام 1993، يُعدّ أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم.

حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة (رويترز)

يعدّ سلامة مهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية (1975 - 1990). لكن على وقع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يشهده لبنان منذ 2019، يُحمِّل كثر أركان الطبقة الحاكمة وسلامة، مسؤولية الفشل في إدارة أزمات البلاد المتلاحقة.

وتحمّل جهات سياسية ومحللون ومواطنون في لبنان سلامة مسؤولية انهيار العملة الوطنية، وينتقدون بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها طوال السنوات الماضية، باعتبار أنها راكمت الديون وسرّعت الأزمة، إلا أنه دافع مراراً عن نفسه بتأكيده أن المصرف المركزي «موّل الدولة، ولكنه لم يصرف الأموال».

وحتى آخر يوم من ولايته، واصل سلامة الدفاع عن السياسة النقدية التي اعتمدها، لافتاً إلى أنه حاول «التخفيف من وطأة الأزمة» الاقتصادية التي هزت لبنان منذ أكثر من خمس سنوات.

وقال خلال مقابلة مع قناة محلية قبل أيام من انتهاء ولايته، «سأطوي صفحة من حياتي، وأعتقد أنه بين الثلاثين عاماً، 27 عاماً ساهم خلالها البنك المركزي بسياساته النقدية بإرساء الاستقرار والنمو الاقتصادي».

ورغم التحقيقات التي تستهدفه، لطالما أصر سلامة الذي نال جوائز إقليمية ودولية وأوسمة شرف تقديراً لجهوده في منصبه وكان أول حاكم مصرف مركزي عربي يُقرَع له جرس افتتاح بورصة نيويورك، على أنه جمع ثروته من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة «ميريل لينش» المالية العالمية، ومن استثمارات في مجالات عدة بعيداً عن عمله على رأس حاكمية مصرف لبنان.

«هروب إلى الأمام»

يقول اقتصادي مخضرم وخبير في الأسواق المالية، متحفظاً عن ذكر اسمه لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «لقد كان تاجراً ووسيطاً طيلة حياته، وهذه هي المشكلة. هناك حاجة إلى شخصية اقتصادية لإدارة مصرف مركزي، لا إلى شخص مقرّب من النظام المصرفي ويودّ حمايته».

في المقابل، يرى الخبير الاقتصادي نيكولا شيخاني أن سلامة «عرف كيف ينعش الاقتصاد ويكسب ثقة المستثمرين».

وتمكّن لبنان طوال سنوات من جذب رؤوس أموال من الخارج، مقابل منح فوائد مرتفعة للغاية للمودعين. وبات القطاع المصرفي ركيزة رئيسية في الاقتصاد اللبناني.

ومنذ توليه منصبه، حافظت الليرة على استقرارها بعدما ثبّت سلامة سعر صرفها على 1507 ليرات، وهو ما كان يبرّره بوجود «احتياطات مهمة بالدولار الأميركي» لدى المصرف المركزي سرعان ما نضبت منذ بدء الأزمة التي برزت مع امتناع الحكومة اللبنانية عن دفع ديونها المستحقة. فبدأ الانهيار وشحّت السيولة.

ومنذ تعيينه، تم التجديد لسلامة أربع مرات. نال في عام 2006 جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم من مجلة «يورو موني»، ثم من مجلة «بانكر» عام 2009، وحاز أوسمة شرف فرنسية.

وبغطاء سياسي، انخرط سلامة منذ عام 2016 في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع احتياطي المصرف المركزي ورسملة المصارف، لكن خبراء اقتصاديين يعدّونها من بين الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تعميق أزمة البلاد المالية.

حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يحيي الموظفين في آخر يوم عمل له (إ.ب.أ)

«الليرة بخير»

يتكلّم سلامة بصوت منخفض، ومن دون أي انفعالات. ولا يبتسم علناً إلا نادراً.

مع بدء أزمة شحّ السيولة وفرض المصارف قيوداً مشددة على سحب الودائع خصوصاً بالدولار في خريف 2019، أصرّ في الأشهر الأولى على أن «الليرة بخير».

لكن على وقع انهيار صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، فقدت العملة المحلية أكثر من 98 في المائة من قيمتها أمام الدولار.

ورغم الانتقادات التي طالت أداءه، وشبهات الاختلاس وغسل الأموال والإثراء غير المشروع التي تلاحقه في لبنان والخارج، بقي سلامة في منصبه، مستفيداً من حماية سياسية توفّرها له قوى رئيسية في البلاد.

ويشتبه محقّقون أوروبيون في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وبأنه أساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان.

وبناء على التحقيقات، أصدرت قاضية فرنسية في باريس والمدعية العامة في ميونيخ، العام الماضي، مذكرتي توقيف بحق سلامة جرى تعميمهما عبر الإنتربول.

إلا أن النيابة العامة في ميونيخ ألغت في يونيو (حزيران) مذكّرة التوقيف بحق سلامة؛ لأنه «لم يعد يشغل منصب حاكم مصرف لبنان المركزي، وبالتالي لم يعد هناك أي خطر (...) بإتلاف أدلة». لكن القرار لا يعني أن التحقيق انتهى.

ورغم أن مذكرة التوقيف الصادرة من فرنسا التي يحمل سلامة جنسيتها لا تزال سارية، لكنها من دون طائل؛ إذ لا يسلّم لبنان مواطنيه لمحاكمتهم في دولة أجنبية.

لكن سلامة يرفض التهم الموجهة إليه، متحدثاً عن «بيانات مزورة» وخلفيات «سياسية».


مقالات ذات صلة

مستشفيات جنوب لبنان تنفض عنها آثار الحرب... وتحاول النهوض مجدداً

المشرق العربي عامل رعاية صحية يسير في مستشفى نبيه بري الحكومي في النبطية بجنوب لبنان (رويترز)

مستشفيات جنوب لبنان تنفض عنها آثار الحرب... وتحاول النهوض مجدداً

تحاول المستشفيات في جنوب لبنان، النهوض مجدداً رغم الصعوبات، بعد انتهاء الحرب، بينما لا تزال مجموعة منها، لا سيّما الواقعة في القرى الحدودية، متوقفة عن العمل.

حنان حمدان (بيروت)
شؤون إقليمية جنود من قوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان (أ.ف.ب)

الجيش الإسرائيلي يُسلّم «اليونيفيل» 7 لبنانيين كان يحتجزهم

سلّم الجيش الإسرائيلي، اليوم (الأحد)، قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان (يونيفيل) 7 لبنانيين كان يحتجزهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت )
المشرق العربي رئيس «الاشتراكي» السابق وليد جنبلاط ونجله تيمور خلال اللقاء مع الشرع (أ.ف.ب)

جنبلاط يلتقي الشرع في «قصر الشعب»: عاشت سوريا حرة أبية

في زيارة هي الأولى لزعيم ومسؤول لبناني إلى دمشق بعد سقوط النظام، التقى رئيس «الاشتراكي» السابق وليد جنبلاط القائد العام للإدارة الجديدة أحمد الشرع.

«الشرق الأوسط» (بيروت - دمشق)
المشرق العربي البطريرك الماروني بشارة الراعي (الوكالة الوطنية)

«كباش» بين جعجع وباسيل على المرجعية المسيحية رئاسياً

لا تزال الحركة الناشطة على صعيد الملف الرئاسي «من دون بركة»، كما يؤكد مصدر معني بالمشاورات الحاصلة.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق يستيقظ ريكاردو كرم يومياً مع أفكار جديدة لا يهدأ قبل أن تتحقّق (من حفل عام 2023)

«النجوم تلمع أملاً» من أجل فنان لبنان المُلقى في النسيان

3 عقود في الإعلام والحوارات، جعلت اسم ريكاردو كرم اختزالاً للصدقية والشفافية. وبالتحاق الشغف والمحبة بالفضيلتَيْن المتراكمتَيْن، يضمن التجاوب وحماسة الخيِّرين.

فاطمة عبد الله (بيروت)

محققون أمميون يطلبون إذناً لبدء جمع الأدلة ميدانيا في سوريا

صورة جوية لسجن صيدنايا قرب دمشق (أ.ف.ب)
صورة جوية لسجن صيدنايا قرب دمشق (أ.ف.ب)
TT

محققون أمميون يطلبون إذناً لبدء جمع الأدلة ميدانيا في سوريا

صورة جوية لسجن صيدنايا قرب دمشق (أ.ف.ب)
صورة جوية لسجن صيدنايا قرب دمشق (أ.ف.ب)

أعلن رئيس محققي الأمم المتحدة بشأن سوريا الذين يعملون على جمع أدلة عن الفظائع المرتكبة في البلاد، اليوم (الأحد)، أنّه طلب الإذن من السلطات الجديدة لبدء عمل ميداني، وفق ما أودته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وأكد روبير بوتي، رئيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة المنبثقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، أنّه بعد تحقيقات أُجريت عن بُعد حتى الآن، «تمّ توثيق مئات مراكز الاعتقال (...) كلّ مركز أمن، كل قاعدة عسكرية، كل سجن، كان له مكان احتجاز أو مقبرة جماعية خاصة به».

وأضاف للوكالة: «سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن نعرف الحجم الكامل للجرائم المرتكبة».

ويقع مقر الآلية الدولية المحايدة والمستقلة في جنيف، وهي مسؤولة عن المساعدة في التحقيق ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم الأكثر خطورة بموجب القانون الدولي المرتكبة في سوريا منذ بداية الحرب في عام 2011.

ولم تسمح دمشق لهؤلاء المحققين التابعين للأمم المتحدة بالتوجه إلى سوريا في السابق.

وقال روبير بوتي إنّ فريقه طلب من السلطات الجديدة «الإذن للمجيء إلى سوريا لبدء مناقشة إطار عمل لتنفيذ مهمّتنا».

وأضاف المدعي العام والقانوني الكندي: «عقدنا لقاء مثمراً وطلبنا رسمياً... أن نتمكّن من العودة وبدء العمل، ونحن في انتظار ردّهم».

وفقاً لـ«المرصد السوري لحقوق الإنسان»، قُتل أكثر من 100 ألف شخص في سجون الحكومة السورية السابقة منذ عام 2011.

ومنذ فتح أبواب السجون بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد في الثامن من ديسمبر، برزت مخاوف بشأن وثائق وغيرها من الأدلة المتّصلة بالجرائم.

وقال بوتي إنّ هناك في سوريا «ما يكفي من الأدلة... لإدانة هؤلاء الذين يجب أن نحاكمهم» ولكن الحفاظ عليها «يتطلّب الكثير من التنسيق بين جميع الجهات الفاعلة».

واستُخدمت الأدلة التي تمّ جمعها عن بُعد من قِبَل الآلية الدولية المحايدة والمستقلّة في نحو 230 تحقيقاً خلال السنوات الأخيرة، تمّ إجراؤها في 16 ولاية قضائية، خصوصاً في بلجيكا وفرنسا والسويد وسلوفاكيا.