«حماس» أخفت الأسرى عند عائلات... والإسرائيليون دخلوا بملابس نازحين ونساء

«الشرق الأوسط» تكشف بعض تفاصيل عملية النصيرات

طفلتان وسط الركام الذي خلفته أحداث مخيم النصيرات الدموية في أثناء تحرير 4 أسرى إسرائيليين (أ.ف.ب)
طفلتان وسط الركام الذي خلفته أحداث مخيم النصيرات الدموية في أثناء تحرير 4 أسرى إسرائيليين (أ.ف.ب)
TT

«حماس» أخفت الأسرى عند عائلات... والإسرائيليون دخلوا بملابس نازحين ونساء

طفلتان وسط الركام الذي خلفته أحداث مخيم النصيرات الدموية في أثناء تحرير 4 أسرى إسرائيليين (أ.ف.ب)
طفلتان وسط الركام الذي خلفته أحداث مخيم النصيرات الدموية في أثناء تحرير 4 أسرى إسرائيليين (أ.ف.ب)

العملية التي نفّذتها إسرائيل في قلب مخيم النصيرات بقطاع غزة، وتحولت إلى حمام دم، نُفّذت في النهار بهدف مفاجأة حركة «حماس»، ما يعكس «حرب الأدمغة» التي ينخرط فيها كل من إسرائيل والحركة الفلسطينية، وتظهر تكتيكات جديدة اعتمدتها إسرائيل للوصول إلى الأسرى وتحريرهم، في مقابل تكتيكات «حماس» التي نجحت، لأكثر من 8 أشهر، في إخفاء معظم المحتجَزين.

والهجوم المُباغت، الذي حرَّر 4 أسرى إسرائيليين، بعد قتل 274 فلسطينياً في مجرزة جديدة بمخيم النصيرات، لم يكن الأول من نوعه في المخيم، بل هو الثاني بعد فشل محاولة، في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مما يكشف حجم التعقيدات المتعلقة بإخفاء الأسرى، وأيضاً محاولة تحريرهم، فما الذي حدث في مخيم النصيرات؟

البداية كانت بالتسلل

دون سابق إنذار، عند الساعة 11 صباح يوم السبت، تغيَّر كل شيء عندما سيطرت أصوات الاشتبكات المسلّحة على المخيم. وفي حين كان الناس يحاولون فهم ما يجري، وجدوا أنفسهم تحت قصف مكثف بري وبحري وجوي، وانفجارات لا تتوقف، وطائرات مُسيّرة تقتل كل جسم حي متحرك، ووجدوا أنفسهم يموتون بلا مقدمات في عملية سريعة نسبياً. وقبل ذلك كانت قوة إسرائيلية خاصة تضم عدداً كبيراً من الجنود، الذين تخفّوا بلباس مدني فلسطيني، وتنكّروا بملابس رجالية ونسائية، وبعضهم وضع النقاب على وجهه، تسللوا إلى المخيم؛ في محاولة لتنفيذ عملية خاطفة وسريعة، قبل أن يجري اكتشافها، ويتغير كل شيء.

وقالت مصادر ميدانية في المخيم، لـ«الشرق الأوسط»، إن القوة الخاصة وصلت إلى مسرح العملية منقسمة إلى فرقتين؛ الأولى من خلال شاحنتين تجاريتين تحملان علامات لشركات فلسطينية محلية تعمل في غزة، والثانية من خلال سيارات مدنية إحداها كانت تحمل اسم منظمة دولية تُعنى بالمساعدات، والثانية كأنها تنقل نازحين من مكان إلى آخر. ووفق المصادر، فقد تقدمت السيارة التي تحمل أفراداً من القوة الخاصة، وكانوا يرتدون ملابس رجالية ونسائية، وبحوزتهم أمتعة محمولة، للإيهام بأنهم نازحون إلى مكان الشقق المستهدفة، بينما عملت المركبة التي كانت تحمل شعار منظمة دولية للتمويه، ووقفت شاحنة ثالثة في منطقة قريبة وكأنها جزء من عملية مساعدات يجري نقلها للمخيم، وسيارة رابعة تمركزت في مكان آخر بهدف وضع الأسرى بداخلها بعد تحريرهم.

وكشفت التحقيقات الداخلية أن المركبات المدنية، التي تسللت بها القوة الخاصة، وصلت من محور نتساريم عبر طريقين؛ الأولى من منطقة محيط المغراقة، والثانية من محيط الطريق الساحلية، وشقت طريقها باتجاه منطقة محيط مستشفى العودة، ثم إلى وسط مخيم النصيرات.

أطفال يبحثون في ركام منزلهم اليوم التالي للعملية التي نفذتها القوات الخاصة الإسرائيلية في النصيرات (أ.ف.ب)

اشتباكات في المنازل

بعد وصول المركبات، داهمت قوات خاصة مدعومة بالكلاب البوليسية بشكل سريع مبنى مكوناً من طابقين يعود للدكتور في الجامعة الإسلامية محمد الجمل، في حين داهمت قوات أخرى، بالتزامن على بُعد 300 متر، مبنى آخر لعائلة وشاح. وأكدت المصادر أن المداهمات كانت متزامنة، وجرت بأكثر من طريقة، من بينها تسلق سلالم وحبال. وفي مبنى عائلة الجمل، كان هناك 3 من الأسرى الإسرائيليين، في حين كانت الأسيرة الوحيدة في مبنى عائلة وشاح، محروسين من قِبل عائلات تنتمي إلى «حماس».

وقالت المصادر، لـ«الشرق الأوسط»، إن ذلك كان جزءاً من تكتيكات «حماس»، إذ عمدت «كتائب القسام» إلى وضع الأسرى مع عائلات عناصرها، دون لباس عسكري ودون أسلحة، وليسوا في أنفاق، كما كانت تعتقد إسرائيل. وأضافت المصادر: «كانت مهمة هذه العائلات الموثوق بها في تأمين الحراسة والطعام وأي احتياجات، وإبقاء الأسرى وسط المدنيين؛ لمنع لفت الانتباه». وأضافت المصادر أن عناصر «القسام» انتبهوا للأمر، لكن كان ذلك متأخراً، فدارت اشتباكات خفيفة داخل مبنى عائلة الجمل، قبل أن تقوم القوة الخاصة بإعدام عدد من أفراد العائلة؛ بينهم طفلان ووالدتهما، ومسلحون.

ومع سماع دويّ الاشتباكات داخل المنزل، وتحليق الطائرات المكثف، تيقّظ بعض المسلحين خارج المبنى، ممن يقطنون بالقرب منه لما يجري، ودخلوا في اشتباكات عنيفة مع القوات الإسرائيلية داخل الأبنية وخارجها، استُخدمت فيها كل أنواع الأسلحة، الخفيفة وقاذفات «آر بي جي» ومضادات دروع وأفراد وصاروخ لإسقاط طائرة مروحية طراز «أباتشي»، ما دفع الطائرات الحربية والمروحية والدبابات للتدخل؛ من أجل تأمين خروج القوات الخاصة. ووفق المصادر، «كانت العملية أسهل نسبياً في منزل عائلة وشاح، الذي قُتل فيه مسلّح واحد من العائلة كان يقوم بحراسة الأسيرة».

وسرعان ما تحوَّل المخيم إلى ساحة دم شهدت قصفاً من كل مكان، في حين بدأت الدبابات الإسرائيلية التوغل على طريق صلاح الدين الرئيسية من أجل قطع كل الطرق إلى مخيم النصيرات. وكانت تلك الدبابات بالأساس قد توغلت، عدة مرات، قبل أيام من العملية في منطقة شرق مخيم البريج، وكذلك في منطقة شرق دير البلح، في إطار التمويه والتضليل لتنفيذ العملية الأساسية. واتضح لاحقاً أن هذه القوات، التي وصلت من محور نتساريم، هي التي نجحت في تخليص مركبة الأسرى، بعدما تعطلت خلال انسحابها.

إطفائيون يخمدون ناراً أشعلها القصف الإسرائيلي على المخيم في أثناء عملية تحرير بعض الأسرى (أ.ف.ب)

الانسحاب الدموي ولحظات ارتباك

كانت لحظة الانسحاب هي الأكثر دموية، إذ عمدت إسرائيل إلى إلقاء أطنان المتفجرات فهدمت عدداً من المنازل والمباني، واستهدفت كل سيارة وشخص كان يتحرك في المنطقة، وقصفت كل الشوارع التي مرت من خلالها سيارة الأسرى، وكانت تحدث فجوات ضخمة فيها؛ لمنع المسلّحين من ملاحقتها قبل أن تتعطل السيارة، فتزيد إسرائيل حِمم النار، حتى تمكنت كتائب من «الفرقة 98» التي تقدمت مع الدبابات، من نقل الأسرى من المركبة التي علقت إلى مركبة أخرى، ثم إلى الطائرات.

أما الضربة الأخيرة، التي نفذتها إسرائيل بعد إخراج الأسرى سالمين، فاستهدفت فيها المركبة المتعطلة، وجميع الشاحنات والمركبات التي استُخدمت في العملية وتركتها خلفها، ثم قصفت المبنيين على كل مَن كان بداخلهما. ومع نجاح إسرائيل في تحرير 4 أسرى تكون هذه العملية هي الثالثة الناجحة، وهي أكبر عملية تحرير لأسرى، منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

وكانت العملية الأولى هي إنقاذ المجنّدة أوري مغيديش، في أواخر أكتوبر، ثم في أوائل ديسمبر الماضي حاول الجيش الإسرائيلي إنقاذ رهينة أخرى، لكنه قُتل. وفي فبراير (شباط) الماضي، جرى تحرير فرناندو مارمان (61 عاماً)، ولويس هار (70 عاماً)، من مدينة رفح في جنوب غزة. ويلاحظ أن جميع المحتجَزين الذين حرَّرهم الجيش الإسرائيلي من غزة، جرى إنقاذهم من مبان، وليس من أنفاق.

ونجح الجيش في ذلك، بعدما بدأ يركز على الشقق وليس الأنفاق، وبدأ يغير أساليب التسلل كذلك.

واحتفت إسرائيل بالعملية، ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية بعض التفاصيل، مؤكدةً أن القوة التي نفَّذت العملية واجهت مقاومة شديدة، ما أدى إلى مقتل ضابط إسرائيلي. وأشارت إذاعة الجيش إلى أن قوات من «الفرقة 98» عملت على إسناد القوات التي نفذت العملية، خصوصاً عندما علقت مركبة كان على متنها الأسرى بعد تحريرهم من المبنيين، في حين شاركت 10 طائرات حربية في العملية؛ لتوفير غطاء جوي كثيف.

دمار واسع في النصيرات جراء مجزرة السبت 8 يونيو 2024 (أ.ف.ب)

روايات إسرائيلية

نقلت الإذاعة عن ضابط إسرائيلي كبير قوله إنه جرى استخدام وسائل تكنولوجية آمنة وفريدة في العملية التي شابها كثير من التوتر، خصوصاً في اللحظة التي تعطلت فيها المركبة التي كان على متنها الأسرى بسبب كثافة النيران. ونشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، تقريراً شمل مقابلة مع ضباط شاركوا في العملية، وأكدوا أنه جرى إخفاء المعلومات عن الجنود حول حقيقة المهمة التي سيشاركون فيها، حتى ساعة الصفر.

وقال ضابط أشرف على عملية الإسناد: «وضعنا قناصة في أماكن كثيرة واقتحمنا عدداً من المباني، وكنا نقوم بتحييد كل مسلَّح وكل خطر يحدق بقواتنا العاملة»، واصفاً تلك اللحظات بأنها كانت معقدة وصعبة، وزادت جنوناً بعد أن علقت مركبة الإنقاذ بالمخيم. ووصف العملية بأنها من «عالم الخيال»، وأنها بدت وكأنها من أفلام هوليود. وقال ضابط آخر شارك في إنقاذ المركبة المتعطلة: «شكلنا حلقة نارية كبيرة ونجحنا في تضليل المسلَّحين، رغم أننا واجهنا قوة نارية كبيرة، وعملنا في أجواء صعبة، لكننا نجحنا في تحييد عدد كبير من المسلّحين كانوا يحاولون استهداف المركبة».

وأكدت عائلة الأسيرة الإسرائيلية، نوعا أرغماني، وفق «قناة 13» العبرية، أنها كانت برفقة أسيرين آخرين قبل أن يُقتلا في غارة إسرائيلية بالقرب من المكان الذي كانوا يوجَدون فيه. وأضافت: «لقد رأيت الصاروخ يدخل المنزل، كنت متأكدة من أنني سأموت، واعتقدت أن هذا كل شيء، لكنني بقيت على قيد الحياة».

وتحدثت الأسيرة كيف كانت طوال فترة أَسرها تتنقل بين عدة شقق، ولم تُحتجز في الأنفاق، وكانت من وقت لآخر تخرج لاستنشاق الهواء وهي متنكرة في زي امرأة عربية. والأسير أندري كوزلوف، كان يكتب مذكرات في دفتر كان بحوزته في مكان أَسْره، بينما أبلغ الأسير ألموغ مئير عائلته بأن «حماس» صوَّرته في يوم عيد ميلاده، وسألهم فيما إذا شاهدوا الفيديو حديثاً، لكن العائلة أبلغته بأن الحركة لم تنشر شيئاً. وفي السياق نفسه، قالت صحيفة «هآرتس» إن نجاح العملية لا يعني أن جميع الأسرى سيحرَّرون بالطريقة نفسها، وأنه يجب أن تكون هناك صفقة سريعة لاستعادة مَن تبقّى منهم.


مقالات ذات صلة

18 قتيلاً على الأقل في قصف إسرائيلي على دير البلح وسط غزة

المشرق العربي فلسطينيون بجوار جثث أقاربهم الذين قتلوا في غارة إسرائيلية في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح (أرشيفية - رويترز)

18 قتيلاً على الأقل في قصف إسرائيلي على دير البلح وسط غزة

قالت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)، إن 18 شخصاً على الأقل لقوا حتفهم وأصيب عشرات آخرون في غارة جوية إسرائيلية على مسجد في غزة صباح اليوم الأحد.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز) play-circle 00:27

نتنياهو: سنرد على إيران وسندمر «حزب الله» بعد أن دمرنا «حماس»

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في رسالة مسجلة بثتها قنوات إعلامية إسرائيلية، مساء (السبت)، إن بلاده ملتزمة بالرد على إيران وإنها ستفعل ذلك.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يسيرون إلى داونينج ستريت (إ.ب.أ)

«أوقفوا القصف»... الآلاف يتظاهرون في العالم دعماً لغزة بعد عام على بدء الحرب (صور)

خرج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع في عدة مدن حول العالم، السبت، للمطالبة بوقف إراقة الدماء بقطاع غزة مع اقتراب حلول الذكرى السنوية الأولى للصراع.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أشخاص في تل أبيب ينظرون إلى صور الرهائن المختطفين بغزة منذ 7 أكتوبر 2023 (رويترز)

إسرائيل تستعد لإحياء الذكرى الأولى لهجوم السابع من أكتوبر

تحيي إسرائيل الذكرى الأولى للهجوم غير المسبوق الذي شنّته حركة «حماس»، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وأشعل فتيل حرب مدمّرة في قطاع غزة.

شؤون إقليمية الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ (رويترز) play-circle 00:35

الرئيس الإسرائيلي: جراح هجوم «حماس» لم تلتئم... وإيران تبقى «تهديداً دائماً»

عدَّ الرئيس الإسرائيلي، السبت، في رسالة بالذكرى الأولى لهجوم «حماس» غير المسبوق في السابع من أكتوبر، أن الجراح التي تسبب بها هذا الهجوم «لم تلتئم تماماً بعدُ».

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

ربط عراقجي غزة بالجنوب يتعارض وموقف الحكومة اللبنانية

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مجتمعاً مع رئيس البرلمان نبيه بري (د.ب.أ)
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مجتمعاً مع رئيس البرلمان نبيه بري (د.ب.أ)
TT

ربط عراقجي غزة بالجنوب يتعارض وموقف الحكومة اللبنانية

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مجتمعاً مع رئيس البرلمان نبيه بري (د.ب.أ)
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مجتمعاً مع رئيس البرلمان نبيه بري (د.ب.أ)

تمسُّك وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، بربط جبهتي جنوب لبنان وغزة قوبل باعتراض ضمني من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي تمايز عنه بتمسكه بحرفية ما ورد في البيان الذي تلاه بعد اجتماعه برئيس المجلس النيابي نبيه بري، والرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وأكد فيه دعوة المجتمع الدولي للتدخل لوقف النار تمهيداً لنشر الجيش اللبناني في الجنوب بمؤازرة القوات الدولية «يونيفيل» لتطبيق القرار 1701 وإلزام إسرائيل بتنفيذه بشكل متوازن على جانبي الحدود.

لكن ميقاتي حرص على عدم إظهار التباين مع عراقجي إلى العلن، وأبقى عليه طي الكتمان، رغبة منه بعدم الدخول في سجال معه ينسحب حكماً على «حزب الله» الذي يتمسك بعدم الفصل لقطع الطريق على ما يمكن أن يترتب على حاضنته الشعبية من تبعات في حال عدم تبنيه موقف حليفه الوزير الإيراني، الذي كان وراء القرار الذي اتخذه أمينه العام حسن نصر الله بمساندته منفرداً حركة «حماس» في غزة، وظل متمسكاً به ولم يبدّل موقفه إلى أن اغتالته إسرائيل، وهذا ما يشكل إحراجاً للحكومة في مطالبتها المجتمع الدولي بدعم موقفها لوقف النار.

بين لقاء عين التينة والربط بين الجبهتين

فالرئيس ميقاتي، باختلافه مع الوزير عراقجي، ينطلق من حرصه الشديد على روحية ما ورد في اللقاء الثلاثي، الذي قوبل بتأييد دولي وإقليمي، لإلزام إسرائيل بوقف النار، كون البيان يشكّل خشبة الخلاص لإعادة الهدوء إلى الجنوب الذي يشهد حالياً أشد المواجهات قساوة بين «حزب الله» وإسرائيل.

في المقابل، يدرك لقاء عين التينة أن عدم الربط بين جبهتي غزة والجنوب يلقى معارضة من «حزب الله»، لأن تخليه عن التلازم بينهما يعني حكماً أن قيادته الانتقالية تفرّط بما أوصى به نصر الله، ما يتسبب لها بأزمة داخل الحزب وحاضنته.

لكن التباين بين لقاء عين التينة وبين الحزب بقي تحت السيطرة؛ لأنه لا مصلحة بالانجرار لاشتباك سياسي، خصوصاً أن الموقّعين على البيان هم موضع ثقة، وأن نصر الله كان فوّض بري بالتفاوض مع الوسيط الأميركي أموس هوكستين لتهدئة الوضع في الجنوب، وبالتالي لا يرى الحزب ضرورة لتقديم نفسه لجمهوره وللبنانيين بأنه يعيق التوصل لوقف النار.

رسالة إيرانية إلى المجتمع الدولي

إلا أن عراقجي، كما تقول مصادر سياسية لـ«الشرق الأوسط»، أراد بتسليط الضوء على ربط الجبهتين تمرير رسالة إلى المجتمع الدولي، ومن خلاله لواشنطن، تقضي بضرورة التشاور مع إيران وعدم استبعادها عن الجهود المؤدية لإنهاء الحرب على جبهتي الجنوب وغزة، بتطبيق ما نص عليه النداء الأميركي - الفرنسي، بدلاً من أن تنصاع الإدارة الأميركية لمخطط رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو باستدراجها للصدام مع طهران.

ومع أن البند الأساسي الذي أدرجه عراقجي على جدول أعمال زيارته الخاطفة لبيروت يكمن في طمأنته، حسب المصادر السياسية، لقيادة «حزب الله» وحاضنته الشعبية، بأن طهران لن تتخلى عن دعمها له، وذلك لاستيعاب ردود الفعل التي أخذت نبرتها تتعالى داخل الشارع الشيعي وتتهمها بالتخلي عنه واستخدام نفوذه في الساحة اللبنانية لتحسين شروطها في مفاوضاتها التي لم تنقطع مع واشنطن، ولا تزال قائمة إبان اشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان.

العلاقة بين طهران و«الثنائي الشيعي»

ومن تولى التدقيق في اللقاء الذي عقده عراقجي مع وفد من النواب ضم ممثلين عن حركة «أمل» و«حزب الله»، إلى جانب رئيس حزب «الطاشناق» النائب هاغوب بقرادونيان والنائب المستقل جهاد الصمد، يلاحظ، كما تقول المصادر نفسها، أن الموفد الإيراني استفاض في حديثه عن العلاقة الاستراتيجية بين طهران والثنائي الشيعي، التي لا يمكن أن تهتز، وستبقى صامدة في وجه من أخذ يشيّع لتدهور العلاقة.

وهنا أثنى عراقجي، بحضور سفير إيران السابق لدى لبنان محمد رضا شيباني، الذي عُيّن سفيراً بالإنابة عن سلفه مجتبى أماني الذي أصيب بتفجير جهاز الـ«بيجر» الذي كان بحوزته، ويخضع حالياً للعلاج في طهران، «على دور المقاومة في تصديها للعدوان الإسرائيلي»، وأكد أن طهران ثابتة على موقفها، وليس كما يروّج له البعض بتخليها عن احتضانها للحزب، خصوصاً بعد استشهاد نصر الله، مستغرباً اتهامها بمقايضة دور الحزب بتفاوضها مع واشنطن.

وبطبيعة الحال، ركّز عراقجي على أهمية عدم الفصل بين الجبهتين. ونقل عنه النواب قوله إن طهران لم تكن مع توسيع الحرب، وكانت تدعو لضبط النفس والتحلي بالصبر وعدم السماح لإسرائيل باستدراج المقاومة على نحو يؤدي إلى خروج مساندتها لـ«حماس» عن السيطرة.

عراقجي: سنرد على إسرائيل

وتطرق عراقجي إلى اغتيال نصر الله. وقال، حسب النواب، إن الحزب سيبقى وفياً للخط الذي رسمه ولن يحيد عنه، «ونحن من جانبنا سنواصل دعمنا للمقاومة ولن نتردد في تأمين إيصال المساعدات للبنانيين، وسنكسر الحصار البري المفروض على لبنان من قبل إسرائيل التي أغارت على نقطة العبور التي تربط سوريا بلبنان».

وفي هذا السياق، أكد عراقجي أن المساعدات ستصل براً وعن طريق سورية إلى لبنان، «وكنتُ وصلتُ إلى بيروت عن طريق المطار بواسطة طائرة صغيرة محملة بمساعدات زنتها 10 أطنان». ودعا الحكومة والبرلمان لتنظيم حملة دولية للضغط على إسرائيل لفك الحصار عن هذا البلد الشقيق، كاشفاً أمام النواب أنه بحث هذا الأمر مع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي؛ لأن هناك ضرورة للسماح للطائرات الإيرانية بإيصال كل ما يتعلق بالإغاثة والمساعدات الغذائية عن طريق المطار، وهذا يدعو المجتمع الدولي للتدخل لفك الحصار الجوي الإسرائيلي على لبنان.

مسؤولية إسرائيل

وحمل على الولايات المتحدة، ونقل عنه النواب قوله: «إننا لا نثق بها وكنا نرغب بأن نوفر الفرص لوقف العدوان على غزة ولبنان، وهذا ما دعانا للتجاوب مع الجهود التي قامت بها فرنسا وعدد من الدول العربية، لكنها أحبطت كل المساعي وفوتت الفرصة لمنع إسرائيل من الاستمرار في عدوانها، وهي لم تقرر عدم الاستجابة لكل الوساطات إلا لأنها واثقة من الضوء الأخضر للرئيس جو بايدن، لعلها تتمكن من تغيير الوضع في الجنوب وإعادة خلط الأوراق في المنطقة، وصولاً لرسم خريطة جديدة لها».

ولم يتطرق عراقجي إلى انتخابات الرئاسة، بخلاف دعوته لتطبيق القرار 1701، محملاً إسرائيل مسؤولية تعطيل تنفيذه بخرقها المتواصل للأجواء اللبنانية، مكرراً قوله إن الثقة معدومة بين طهران وواشنطن، وإنه «لا مكان للرهان على تخلينا عن الحزب، وإن القيادة الإيرانية على التزامها بتوفير كل أشكال الدعم له».

علاقة استراتيجية مع المقاومة

لذلك خص عراقجي لبنان بهذه الزيارة لدحض وتطويق كل ما يتم تناقله مع اشتداد المواجهة في الجنوب، بأن إيران تخلت عن دعمها للحزب، في مقابل تصحيح علاقتها بالولايات المتحدة بما يحفظ مصالحها في المنطقة، مؤكداً أن «الإخوة في المقاومة يعرفون جيداً عمق العلاقة الاستراتيجية بيننا ومتانتها برغم كل ما يشيعه من يريد الاصطياد في الماء العكر»، خصوصاً أن «ما يتناقله البعض عن مخاوف لدى الحزب تدخل في باب التكهن».

وكان الوزير الإيراني مضطراً لاستحضار موقف بلاده القديم - الجديد بربط الجبهتين ليصرف الأنظار، كما تقول المصادر السياسية، عن المهمة الأولى التي أوكلت إليه، والمحصورة باستيعاب المخاوف التي أخذت تُطل برأسها وتطويقها في ضوء ارتفاع منسوب التساؤلات حول عدم انخراطها في المواجهة الدائرة جنوباً، والتي تكاد تبقي إسناد محور الممانعة لغزة محصوراً بالساحة اللبنانية، وهذا ما أدى إلى اتساع رقعة الحذر التي بدأت تخرج منذ أسابيع من الغرف المغلقة إلى العلن، وازدادت مع اغتيال نصر الله، وإن كان عراقجي اختار توقيت مجيئه لبيروت بعد الرد الإيراني على إسرائيل، الذي سيُسهم من وجهة نظر طهران بتطويق المحاولات لزرع الشقاق بين الحليفين.