تكشّف كثير من الحقائق حول معركة «الشفاء»، بعد ما انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من المجمع الطبي غرب مدينة غزة، فجر الاثنين، بعد عملية عسكرية استمرت 14 يوماً، كانت مليئة بالفظائع والدمار والدم.
ورصد مراسل «الشرق الأوسط» حجم الدمار الضخم، وجمع كثيراً من شهادات الناجين من قلب المجمع ومحيطه، في زيارة مطولة للمكان الذي تحول إلى ركام ودمار.
وتوافد المئات من سكان مناطق مدينة غزة وشمالها إلى مجمع الشفاء الطبي، في وقت مبكر من فجر الاثنين، لتفقد المستشفى ومحيطه، وبحثاً عن أقاربهم المرضى الذين نقلهم جيش الاحتلال داخل مبنى التنمية البشرية في المجمع الطبي الذي يعد الأكبر على مستوى قطاع غزة.
ورصد مراسل «الشرق الأوسط» تجريف الساحة الرئيسية للمجمع الطبي، وتدمير مركبات كانت تصطف في الساحة، وإغلاق البوابة الرئيسية بهياكل تلك المركبات، قبل إحراق مباني أقسام الطوارئ والجراحات التخصصية والحروق والولادة. كما رصد تجريف بركسات كانت عبارة عن مكاتب إدارية، وإحراق مبنى الإدارة العامة، ودماراً واسعاً غير متوقع في جميع تلك المباني بما فيها مبنى مختبر الدم، إضافة إلى تجريف مقبرتين من أصل 3 مقابر جماعية استحدثت في الحرب داخل المجمع الطبي.
تعمد تدمير وتخريب المستشفى كان هدفاً واضحاً للقوات الإسرائيلية، وقد اتبع في محيط المستشفى، حيث تم تدمير عشرات المباني والمنازل السكنية المحيطة بالمجمع، إضافة إلى تجريف الشوارع والبنية التحتية بأكملها، ما حول المنطقة إلى كومة من الخراب والركام، غيرت معالمها بشكل كامل.
وأعلن الجيش الإسرائيلي، فجر الاثنين، أنه انسحب من المجمع بعد هجوم بدأ في 18 الشهر الماضي، وقال إنه قتل أكثر من 200 مسلح، واعتقل نحو 900، من بينهم أكثر من 500 تأكد أنهم نشطاء مسلحون. وبين القتلى والمعتقلين قادة كبار في «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين.
وخلال هذه الفترة، كان مجمع الشفاء مسرحاً لعملية كبيرة شهدت اشتباكات وانفجارات وقتلاً واعتقالاً وتجريفاً وحرق مبانٍ.
تحقيق مع المرضى وتعريتهم
وقال أحمد أبو عبيد (37 عاماً)، وهو متطوع في فرق الطوارئ الطبية، وكان محتجزاً داخل المبنى رفقة المرضى ومرافقيهم من ذوي القرابة الأولى، إنهم عاشوا 12 يوماً من الرعب.
وتعرض أبو عبيد للتحقيق الميداني، وأجبر مع جميع الرجال على خلع ملابسهم وكانوا شبه عراة، ثم أجبروا على ارتداء ملابس الاعتقال، وطلب منهم لاحقاً التوجه مع المرضى إلى مبنى التنمية البشرية الذي يعد من أقدم المباني في المجمع الطبي.
وشرح أبو عبيد لـ«الشرق الأوسط»، كيف أن قوات الاحتلال طوال فترة اقتحامها للمجمع، حققت مع المرضى والمرافقين من الرجال والنساء مرتين على الأقل، وحققت مع الفريق الطبي الموجود في المكان، و«كانت تركز في أسئلتها حول ما إذا كنا نعرف أماكن وجود نشطاء حركة «حماس»، وما إذا كان لنا أقرباء في الحركة، وفصائل أخرى، أم لا».
وأوضح أبو عبيد أن التحقيقات كانت تجري بحضور أشخاص ملثمين بلباس مدني، وآخرين بوجوههم يرتدون الزي العسكري الإسرائيلي المعتاد، وكان يتخللها ضرب مبرح طال كذلك النساء.
وأكدت سهام ريان (46 عاماً) من سكان حي الدرج والتي كانت برفقة والدها المسن المريض، أن جنود الاحتلال اعتدوا عليها بالضرب وعلى جميع من كانوا بداخل المستشفى، وأنها شاهدت بنفسها تعمد قوات الاحتلال إهانة الرجال وإجبارهم على خلع ملابسهم، والتحقيق معهم بحضور ضباط أمن تحدثوا مع جميع من كان بداخل المستشفى باللغة العربية.
وتكشف ريان في شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، عن رؤيتها لإقدام قوات الاحتلال بإطلاق النار على قدم شاب بعد أن حققت معه ميدانياً، لكنها لم تستطع تحديد مصيره، بسبب طلب الجنود منها مغادرة الساحة الأمامية لقسم الطوارئ، حيث كانت تقف فيها برفقة العشرات من النساء اللاتي انتهى التحقيق معهن ميدانياً.
وأضافت: «جنود الاحتلال كانوا يقدمون في اليوم الواحد وجبة طعام واحدة فقط للمرضى وزجاجة مياه صغيرة، بينما كانوا يحرمون المرافقين لهم من ذلك، ما اضطرهم لتقاسم الوجبة». لكن ليس كل الذين كانوا في «الشفاء» حصلوا على هذه المعاملة.
وعثر مواطنون على عشرات الجثث لفلسطينيين في المجمع، وفي محيطه، بينهم أطفال ونساء. وقال سامة أبو حسنين لـ«الشرق الأوسط»، إنه بقي برفقة والده في مبنى تعرض لأضرار بجوار المجمع الطبي، لمدة 14 يوماً من دون مياه أو طعام.
ووصف أبو حسنين الليالي التي أمضاها برفقة والده بعد أن احتجزا في شقتهما السكنية المتضررة بالأساس من قصف سابق، بأنها كانت صعبة جداً وقاسية، كادا يفقدان فيها حياتهما، بسبب الجوع تارة، وبفعل الغارات التي كانت تطول كل هدف في محيط المجمع تارة أخرى.
وشاهد مراسل «الشرق الأوسط» كثيراً من الجثث ملقاة في شارع أبو حصيرة، المحيط بالمجمع وفي مناطق أخرى، قبل أن تقوم طواقم طبية بنقل عشرات الجثث في محاولة للتعرف عليها.
وقال مصدر طبي لـ«الشرق الأوسط»، إن «بعض العلامات تشير إلى إعدامات ميدانية... لقد وجدنا جثثاً مع علامات طلقات في الرأس».
وبينما لم تحدد أي جهة فلسطينية العدد النهائي لأعداد الضحايا والجرحى والمعتقلين من مجمع الشفاء الطبي، لكن «الشرق الأوسط» حصلت على معلومات أولية.
وقالت مصادر فلسطينية إن أكثر من 300 قتلوا في المعركة، وإن قيادياً واحداً من أصل 3 قيادات على الأقل من كتائب «القسام» الجناح المسلح لحركة «حماس» ممن كانوا داخل المجمع، عرف مصيره، وهو رائد ثابت الذي أعلن الجيش الإسرائيلي تصفيته، وهو أحد قادة المجلس العسكري المصغر، بينما لا يزال مصير اثنين مجهولاً، وتبين أن آخرين تمكنوا من النجاة بعد أن كشف أنهم أحياء ولم يتم اعتقالهم أو تصفيتهم، وظهروا اليوم (الاثنين) بعد تمكنهم من الخروج من مجمع الشفاء بسلام.
وأشارت المصادر إلى أن قائد ركن الاتصالات في كتائب «القسام»، وقائد التدريب العسكري فيها، ما زال مصيرهما مجهولاً حتى الآن.
تصفية أسرى محررين
كما قام الجيش الإسرائيلي بتصفية واعتقال مجموعة من الأسرى المحررين في صفقة الجندي جلعاد شاليط عام 2011، وتتهمهم إسرائيل بقيادة العمليات العسكرية بالضفة الغربية انطلاقاً من قطاع غزة، كما اعتقلت العشرات من نشطاء «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، بينهم قادة ميدانيون من الزيتون والشجاعية والتفاح والدرج، إلى جانب مسؤولين في أركان العمل الحكومي بغزة التابع لـ«حماس».
ويرى مراقبون ميدانيون أن الاحتلال الإسرائيلي فاجأ حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» من خلال هذه العملية التي نفذت في وقت كان الجميع يتحدث فيه عن تهدئة مرتقبة، عادّين العملية ناجحة نسبياً وضربة للحركتين.