حرب غزة تخلق جيلاً مصدوماً مبتور الأطراف... ورُضَّعاً «لم ولن يتعلموا المشي»

صبي يدفع فتاة صغيرة على كرسي متحرك أمام مبنى مدمر في مدينة غزة (أ.ف.ب)
صبي يدفع فتاة صغيرة على كرسي متحرك أمام مبنى مدمر في مدينة غزة (أ.ف.ب)
TT

حرب غزة تخلق جيلاً مصدوماً مبتور الأطراف... ورُضَّعاً «لم ولن يتعلموا المشي»

صبي يدفع فتاة صغيرة على كرسي متحرك أمام مبنى مدمر في مدينة غزة (أ.ف.ب)
صبي يدفع فتاة صغيرة على كرسي متحرك أمام مبنى مدمر في مدينة غزة (أ.ف.ب)

أعربت جمعيات خيرية طبية عن اعتقادها أن القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، أدى إلى جرح عدد أكبر من المدنيين الذين خضعوا لعمليات بتر الأطراف، أكثر من أي صراع آخر في الآونة الأخيرة، وذلك بحسب تقرير لصحيفة «التلغراف» البريطانية.

وأشار التقرير إلى أنه مع استمرار القتال داخل القطاع المحاصر، على الرغم من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، يخشى كثير من أن كثافة القصف غير المسبوقة على مدى 6 أشهر، تعني أنه سيكون هناك عدد أكبر من الأشخاص مبتوري الأطراف مقارنة بما كانت عليه الحال في سوريا أو العراق أو أفغانستان.

ولفت إلى أنه رغم عدم توفر بيانات دقيقة، فإن نسبة كبيرة من 75000 شخص أُصيبوا منذ أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، يحتاجون إلى أطراف اصطناعية، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

مسعف يحمل صبياً فلسطينياً جريحاً إلى «مستشفى شهداء الأقصى» بعد القصف الإسرائيلي لمخيم النصيرات للاجئين (أ.ف.ب)

10 آلاف شخص يحتاجون عمليات بتر

وأفادت منظمة «الإنسانية والشمول (HI)»، المعروفة أيضاً باسم «منظمة الإعاقة الدولية»، بأن ما بين 70 و80 في المائة من الأشخاص الذين تم إدخالهم المستشفيات الـ12 التي لا تزال تعمل جزئياً داخل غزة، قد فقدوا أطرافهم أو عانوا من إصابات في النخاع الشوكي.

وقد اضطر عديد من الأشخاص البالغ عددهم 10 آلاف شخص والذين قامت اللجنة بتقييمهم، إلى الخضوع لعمليات بتر، بما في ذلك مئات الأطفال.

وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، قدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف»، أن نحو ألف طفل في غزة فقدوا إحدى ساقيهم أو كلتيهما، أي ما يعادل نحو 10 أطفال كل يوم.

رُضَّع «لم ولن يتعلموا المشي أبداً»

ومما لا شك فيه، أن هذا العدد قد ارتفع بشكل كبير مع استمرار الهجوم الإسرائيلي بلا هوادة في المناطق المكتظة بالسكان، مخلفاً وراءه عديداً من الكوارث الفردية، بحسب التقرير.

وشهدت منسقة منظمة «أطباء بلا حدود»، ماري أوري بيريو ريفيال، مشهداً مؤسفاً لعشرات الأطفال الذين بُترت أطرافهم في «مستشفى الأقصى» في الأسبوع الماضي فقط.

يصل الجرحى إلى ملاجئ أو مستشفيات مكتظة مصابين بجروح لم يتم علاجها لأيام عدة (أ.ف.ب)

وعبّرت بالقول: «إنه لأمر مدمر تماماً أن نرى رُضّعاً لم يتجاوز عمر الواحد منهم سنة واحدة يتم بتر أطرافهم. هؤلاء هم الأطفال الذين لم يتعلموا المشي أبداً، والآن لن يتمكّنوا أبداً من المشي».

وأضافت: «رأيت عديداً من المرضى الذين وصلوا إلى المستشفى وقد فقدوا أرجلهم وأذرعهم بالفعل. ثم كان هناك آخرون أُصيبوا بجروح خطرة في الانفجار، وكان لا بد من بتر أطرافهم لأن عدم الحصول على الرعاية الصحية والرعاية اللاحقة للعمليات الجراحية، يعني أن جروحهم ستلتهب لولا ذلك».

إصابات الأطراف يجب أن تنتظر

وأشار التقرير إلى أنه في ظل عدم وجود مؤشرات تذكر على أن إسرائيل ستخفف سيطرتها المشددة على نقاط العبور الحدودية لإجراء مزيد من عمليات الإجلاء الطبي، تخشى الوكالات من أن الآلاف من المصابين الذين لم يخضعوا لعمليات جراحية بعد، معرضون لخطر الإصابة بالعدوى.

وفي غزة، حيث تقل أعمار ما يقل قليلاً عن نصف السكان عن 18 عاماً، فإنّ نسبة كبيرة من الشباب سوف يكبرون وهم يعانون من إعاقة ناجمة عن الحرب؛ لأن مكان البتر لا يمكن إعداده جراحياً لتركيب الأطراف الاصطناعية.

ونقل التقرير عن أسيل بيضون مديرة المناصرة والحملات لجمعية العون الطبي للفلسطينيين (MAP)، قولها إن «جيلاً من الأطفال مبتوري الأطراف آخذ في الظهور. نحن نعلم أن النظام الطبي المنهار في غزة مرهق للغاية، بحيث لا يتمكّن من منح الأطفال الذين يعانون من إصابات طويلة الأمد رعاية المتابعة المعقدة، التي يحتاجون إليها لإنقاذ عظامهم المقطوعة التي لا تزال في طور النمو».

فلسطينيان يحملان رجلاً مصاباً خارج المستشفى الأهلي العربي في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وأضافت: «لقد سمعت من الجراحين العاملين في فرق الطوارئ الطبية التابعة لجمعية العون الطبي للفلسطينيين في غزة، أن المستشفيات مكتظة بالفعل بحيث لا يمكنها علاج سوى المرضى الذين يحتاجون إلى إجراءات منقذة للحياة، مثل إصابات الأعصاب أو إصابات الأوعية الدموية، في حين يتعين على إصابات الأطراف الانتظار».

حروب أوكرانيا وفيتنام وألمانيا... وغزة

وتقدر الأرقام الرسمية عدد الأوكرانيين الذين خضعوا لعمليات بتر أطراف منذ الغزو الروسي قبل عامين بنحو 20 ألف شخص. ويعتقد البعض بأن العدد الحقيقي قد يكون أعلى من ذلك بكثير، وقد يصل إلى 50 ألفاً.

على مدار الحرب العالمية الأولى، يقدر المؤرخون أن عدد حالات البتر في ألمانيا بلغ 67 ألفاً، بينما بلغ في بريطانيا 41 ألفاً.

وقد ساهم استخدام الأسلحة الجديدة على نطاق لم يكن من الممكن تصوره من قبل، إلى جانب مشكلات مثل عضة الصقيع والعدوى في الخنادق، في فقدان عديد من الجنود أطرافهم.

تم تنفيذ نحو 60 ألف عملية بتر في الحرب الأهلية الأميركية، وهو عدد أكبر من أي صراع آخر شاركت فيه القوات الأميركية.

على مدار عقدين من الحرب في فيتنام، أصبح نحو 100 ألف شخص مبتوري الأطراف. ولا يزال كثيرون آخرون يفقدون أطرافهم حتى اليوم؛ بسبب الألغام غير المنفجرة العالقة في الأرض.

فلسطينيون يتفقدون الأضرار التي لحقت بمبنى سكني بعد القصف الإسرائيلي في غزة (أ.ب)

حربا سوريا وغزة... وميزة إمكانية الهروب

وفي عام 2017، ذكرت «اليونيسيف» أن 86 ألف شخص فقدوا أطرافهم بعد 7 سنوات من الحرب في سوريا، على الرغم من عدم جمع أي بيانات رسمية على الإطلاق.

وشدد التقرير على أن ما يميز غزة عن غارات النظام السوري على المناطق السكنية في جارة إسرائيل في الشرق الأوسط، هو استحالة الهروب.

وأضاف أنه على الرغم من أن الرئيس السوري بشار الأسد، بمساعدة الطائرات المقاتلة والمسيّرات الروسية، قام بقصف مدن مثل حمص وحلب بشكل عشوائي، فإنه كانت هناك على الأقل إمكانية الفرار إلى مكان أكثر أماناً. وفي غزة، هذا ليس خياراً.

ونقل التقرير عن غسان أبو ستة، جراح التجميل والترميم المقيم في لندن، الذي عمل في غزة خلال الأشهر الأولى من حرب غزة، قوله إن «هذه هي أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ».

وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، أخبر غسان أبو ستة صحيفة «التلغراف» كيف أُجبر على إجراء عمليات بتر لستة أطفال في ليلة واحدة. ووصف كيف كان البتر في كثير من الأحيان هو الخيار الوحيد المتاح، عندما حاصرت القوات الإسرائيلية بنك الدم، ومنعت عمليات نقل الدم.

تؤكد المنظمات الطبية في غزة، بما في ذلك منظمة «الإنسانية والشمول» و«أطباء بلا حدود»، أن هناك حاجة ماسة إلى الآلاف من الأطراف الاصطناعية والأجهزة المساعدة مثل العكازات والكراسي المتحركة.

وقالت خبيرة إعادة التأهيل في منظمة الإنسانية والشمول ريهام شاهين، إن «الأعداد ضخمة، ويرجع ذلك إلى نوع الأسلحة المستخدمة».

وأوضحت أنه «في سياق إصابات الحرب الناجمة عن الأسلحة المتفجرة، غالبا ما تكون هناك حاجة إلى عمليات متعددة، بما في ذلك إعادة بناء الأطراف والجراحة التجميلية. هذه الإجراءات غير متوفرة حاليا في غزة، وسيتعين على الناس الانتظار لفترة طويلة للحصول على الطرف الاصطناعي».

وأضافت: «كل شيء نفد من المخزون. إن الإمدادات هي التحدي الرئيسي الذي يواجهنا، إلى جانب المخاوف الأمنية بشأن كيفية التنقل بين المستشفيات والملاجئ من دون التعرض للقتل أو الإصابة».

وأشارت أسيل بيضون، إلى أن محنة مبتوري الأطراف تتفاقم أكثر؛ بسبب عدم قدرتهم على الفرار عندما تأتي الموجة التالية من الهجمات، وفقا لصحيفة «التلغراف».

تحديات قاسية

ووفق التقرير، فإن أحد التحديات الأكثر قسوة داخل غزة، هو توفير الرعاية الأساسية لإعادة التأهيل قبل الأطراف الاصطناعية لمبتوري الأطراف، في ظروف مكتظة وغير صحية بشكل مروع، حيث تتراوح فترة الانتظار بعد جراحة البتر للسماح بإعداد مكان البتر للطرف الاصطناعي عادة، من ثلاثة إلى أربعة أشهر.

ومع ذلك، كل ما يمكن فعله في الوقت الحالي، هو الحفاظ على شكل مكان البتر بحيث يمكن تركيب الطرف الاصطناعي في وقت لاحق.

وبحسب منظمة الصحة العالمية، لا يزال 30 في المائة فقط من الأطباء الذين كانوا يعملون قبل النزاع الحالي قادرين على العمل، بسبب عمليات القتل والاحتجاز والنزوح.

ومنذ أكتوبر (تشرين الأول)، قامت ممرضات منظمة «الإنسانية والشمول» بتضميد أكثر من 2200 جرح. وأصبحن خبيرات في استخدام أساليب مختلفة لإلهاء المرضى، حيث لا تتوفر أدوية التخدير لتخفيف الألم في أثناء الإجراءات المؤلمة.

ولأن الأطفال أضعف من أن يتمكّنوا من انتشال أنفسهم من تحت أنقاض المباني السكنية التي دمرتها القنابل الإسرائيلية، فإن أطرافهم المصابة لا يمكن في كثير من الأحيان إنقاذها، حتى لو وصلوا إلى المستشفى. والأصغر سناً معرضون بشكل خاص لإصابات قد تغير حياتهم نتيجة للانفجارات، بحسب التقرير.

وذكر التقرير أنه جرى إجلاء نسبة صغيرة في وقت سابق من هذا العام، جزءاً من صفقة أبرمتها قطر مع إسرائيل و«حماس» ومصر من أجل الجرحى الفلسطينيين الذين يحتاجون إلى رعاية طبية عاجلة.

ومن بينهم طفلة تبلغ من العمر4 سنوات بترت ساقها اليسرى بعد إصابتها بشظية وتحولت إلى غرغرينا. ولم يكن لدى الطبيب الذي عالجها في البداية أي مُطهِّر، لذلك قام بكي النزيف بشفرة سكين المطبخ الساخنة.

إسرائيل أسقطت أكثر من 25 ألف طن متفجرات على غزة

وقالت بعثة المراقبة الدائمة لدولة فلسطين لدى مكتب الأمم المتحدة، إن إسرائيل أسقطت بالفعل أكثر من 25 ألف طن من المتفجرات على غزة على شكل أكثر من 12 ألف قنبلة.

ونقل التقرير عن ماريا ماريلي، متخصصة العلاج الطبيعي في منظمة «الإنسانية والشمول»، والتي عادت للتو من مهمة إلى رفح، قولها: «إن عدم القدرة على الحصول على المعدات والإمدادات يحد بشدة مما يمكن تحقيقه».

وأضافت: «إذا لم نتمكّن من إدخال الأجهزة المساعدة مثل الأطراف الاصطناعية إلى غزة، فلن نتمكن من توفير ما هو مطلوب. إنه أمر مزعج للغاية».

في رفح المكتظة الجميع ينتظر

ومن بين الذين عالجتهم المنظمة في رفح في الأسابيع الأخيرة، علي (14 عاماً)، من شمال غزة، الذي كان مسافراً جنوباً في قافلة مع عائلته عندما تعرّضوا للقصف بصاروخ إسرائيلي أُطلق من الجو.

قُتلت والدة علي وأبوه وشقيقه. وعلى الرغم من نجاته، فإن إصابات ساقه اليسرى كانت شديدة، لدرجة أن الأطباء قاموا ببترها من فوق الركبة، وهو يحتاج إلى مزيد من الجراحة وكرسي متحرك، ولكن لا يتوفر أي منهما في الوقت الحالي.

وفي وصفها للظروف الفوضوية في رفح، التي فرّ إليها نصف سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، تابعت ماريا: «في الوقت الحالي، المدينة مكتظة للغاية، لدرجة أن كل رصيف فيها مغطى بالخيام. هناك أناس في كل مكان، كلهم ينتظرون».

وأضافت: «تم تصميم المأوى الذي زرناه، وهو مدرسة سابقة، لاستيعاب 2000 شخص، ولكنه يؤوي الآن 28000 شخص، حيث تتكدس العائلات في الفصول الدراسية والممرات والخيام في ساحة المدرسة. وتتسرب مياه الصرف الصحي على الممرات والأماكن المشتركة، وتنتشر الخيام في كل مكان».

وأشارت إلى أنه «يصل إلى ملاجئ أو مستشفيات مكتظة، مصابون بجروح لم يتم علاجها لأيام عدة؛ مما يتسبب في مضاعفات والتهابات تهدد حياتهم».

وختمت بالقول: «يعاني الناس من أنواع مختلفة من الإصابات الناجمة عن الضربات المباشرة أو انهيار المباني... رأيت كثيراً من الأطفال المصابين بجروح بالغة، يعانون من كسور وحروق. في كثير من الأحيان، هناك عائلات بأكملها أُصيبت بأذى حقيقي... إنها قنبلة موقوتة مع سوء ظروف النظافة، ونقص الرعاية الصحية».


مقالات ذات صلة

إطلاق عشرات الصواريخ من لبنان على شمال إسرائيل

شؤون إقليمية تصاعد الدخان نتيجة غارة جوية إسرائيلية على بلدة الخيام في جنوب لبنان كما شوهد من سنير شمال إسرائيل في 25 يونيو 2024 (إ.ب.أ)

إطلاق عشرات الصواريخ من لبنان على شمال إسرائيل

ذكرت القناة 12 الإسرائيلية أن عشرات الصواريخ أُطلقت على شمال إسرائيل من لبنان، اليوم (الأربعاء).

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي دبابة إسرائيلية متمركزة عند الحدود مع قطاع غزة (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يواصل قصف غزة... والآلاف يفرّون في الجنوب

واصل الجيش الإسرائيلي قصف مناطق عدة في قطاع غزة، الأربعاء، مع استمرار القتال في الشمال خصوصاً، فيما فرّ آلاف الفلسطينيين من جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة )
شؤون إقليمية الرهينة الإسرائيلية المحرّرة نوا أرغاماني (في الوسط) تقف مع والدها ياكوف (في الوسط) بينما يتم دفن والدتها ليؤورا أرغاماني في بئر السبع بإسرائيل (الثلاثاء 2 يوليو/تموز 2024).

«سرايا القدس»: «بعض الأسرى الإسرائيليين حاولوا الانتحار»

قالت «سرايا القدس»، الجناح المسلح لحركة «الجهاد الإسلامي»، الأربعاء، إن بعض «الأسرى» الإسرائيليين حاولوا الانتحار.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي الطفل الفلسطيني محمد قمر (رويترز)

طفل في غزة يصرخ من ألم الروح والجسد بعد مقتل أمه وإصابته في غارة إسرائيلية

يرقد الطفل الفلسطيني محمد قمر مصاباً في مستشفى بقطاع غزة بعد أن أسفرت غارة جوية إسرائيلية عن مقتل أمه واثنين من أقاربه وإصابة أشقائه أيضاً.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي نازحون من خان يونس بجنوب قطاع غزة يوم الثلاثاء (د.ب.أ)

عشائر غزة لا تريد المشاركة في خطة اليوم التالي الإسرائيلية

تنص خطة إسرائيل لليوم التالي في غزة بعد الحرب على إدارة القطاع بالتعاون مع عشائر محلية ذات نفوذ. لكن مشكلتها أن لا أحد يرغب في أن يُرى وهو يتحدث إلى «العدو».

«الشرق الأوسط» (القدس)

تراجع التهديدات الإسرائيلية للبنان: العودة إلى الواقعية وتعويل على الدبلوماسية

سيدات يشاركن في تشييع عناصر في «حزب الله» (أ.ف.ب)
سيدات يشاركن في تشييع عناصر في «حزب الله» (أ.ف.ب)
TT

تراجع التهديدات الإسرائيلية للبنان: العودة إلى الواقعية وتعويل على الدبلوماسية

سيدات يشاركن في تشييع عناصر في «حزب الله» (أ.ف.ب)
سيدات يشاركن في تشييع عناصر في «حزب الله» (أ.ف.ب)

بعد أكثر من أسبوع على رفع سقف تهديدات المسؤولين الإسرائيليين، يسجّل في الأيام الأخيرة تراجع لافت في مستوى المواقف الإسرائيلية مترافقة مع تبدّل في دينامية المعركة التي باتت تتركّز بشكل أساسي على قصف متقطع وعمليات اغتيال تستهدف عناصر وقياديين لـ«حزب الله» بين يوم وآخر، ما يستدعي رداً من «حزب الله»، وكان آخر هذه العمليات اغتيال، الأربعاء، القيادي محمد نعمة ناصر.

ويأتي ذلك في موازاة حماوة الانتخابات الرئاسية في إيران وأميركا، والتحرك الدبلوماسي الدولي الذي كان آخره اجتماع الموفد الأميركي آموس هوكستين مع مسؤولين فرنسيين بينهم الموفد الفرنسي الخاص جان - إيف لودريان لبحث نزع فتيل التصعيد على الحدود اللبنانية، وذلك بعد ساعات على اتصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، شدّد خلاله على «الضرورة المطلقة لمنع اشتعال» الوضع بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان.

وكانت قد وصلت التهديدات الإسرائيلية إلى درجة التهديد بتدمير لبنان وإعادته إلى العصر الحجري، وقد أحصت «الدولية للمعلومات» 178 تهديداً، بدءاً من 7 أكتوبر (تشرين الأول) إلى منتصف يونيو (حزيران)، أطلقها 6 من كبار المسؤولين الإسرائيليين (نتنياهو، وبني غانتز، وغالانت، وهاليفي، وبن غفير، وسموتريش)، وتراوحت عبارات التهديد من: «سنعيد لبنان إلى العصر الحجري»، و«سنقضي على (حزب الله)» إلى «سنجعل بيروت كغزة».

لكن يسجل في الأيام الأخيرة تراجع كبير في سقف التهديدات، وهي إن صدرت تصدر دائماً مرفقة بالتعويل على الحل السياسي وتأكيد المسؤولين الإسرائيليين بأنهم يفضلون المفاوضات، وهو ما أشار إليه الأربعاء بشكل واضح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بالقول: «نفضل التوصل لاتفاق عبر التفاوض، لكن إذا تطلب الأمر فنحن نعرف كيف نقاتل»، مؤكداً: «سنبلغ حالة الجاهزية التامة لأي تحرك مطلوب في لبنان».

ورأى عضو المجلس المركزي في «حزب الله» الشيخ نبيل قاووق أن «العدو دخل مرحلة التراجع في التصريحات وفي الميدان، وبدأ يتحدث عن عجزه عن إعادة المستوطنين إلى مستوطناتهم إلا بحل سياسي، ولا حل سياسياً إلا بإيقاف الحرب على غزة».

ويربط العميد المتقاعد الخبير العسكري خليل الحلو، بين هذا التراجع والوقائع الميدانية والعسكرية، إضافة إلى السياسية المرتبطة برفض الولايات المتحدة للتصعيد، وما يعرف بـ«تعب الحرب» الذي ينسحب على كل الأطراف المشاركة بها.

ويقول الحلو لـ«الشرق الأوسط»: «الموانع لتوسيع الحرب هي أولاً أميركية، حيث تمارس إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ضغوطاً كبيرة لعدم القيام بعمل في لبنان، لا سيما في مرحلة التفاوض مع إيران، ولا تريد الدخول في مواجهة معها». أما المانع الثاني للحرب، فهو، وفق الحلو، التعب الناتج عن الحرب في صفوف القيادات والعسكريين واللوجيستيين في إسرائيل، حيث استهلكت طاقات كل الأطراف، من أميركا إلى إسرائيل وحركة «حماس» و«حزب الله»، وهو ما يجعل الاختلاف بين العسكريين الذين يحتاجون إلى فترة استراحة وبين السياسيين في إسرائيل الذين يرفعون سقف التهديدات.

ويلفت الحلو إلى الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الكونغرس الأميركي في 24 الشهر الحالي، «بحيث لا يمكن أن يقوم بهذه الزيارة، ويكون قد اتخذ قرار توسع الحرب، في حين أن نصف الكونغرس ضدّ هذا القرار». أما السبب الرابع، بحسب الحلو، فهو أن الوقت لم يعد ضاغطاً بالنسبة إلى إسرائيل مع بوادر احتمال فوز دونالد الذي يفضّل نتنياهو خوض الحرب في مرحلة رئاسته، وهو ما من شأنه أن يشكّل فرصة للاستراحة والهدنة بالنسبة إلى جميع الأطراف، وقد يتّخذ بعد فترة قرار العودة إلى الحرب.

بدوره، يعزو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، عماد سلامة، تراجع التصعيد وارتفاع وتيرة الوساطة للتهدئة على الحدود إلى عوامل أساسية عدة.

ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «أصبح واضحاً أن جميع الأطراف في مأزق، حيث أدرك الجميع أن الحسم العسكري وتحقيق انتصار كاسح غير ممكن لدى أي من الأطراف، وبالتالي هذا الوضع يحتم على طرفي النزاع، وخاصة الإيراني والإسرائيلي، البحث عن ترتيبات أمنية وضمانات سياسية لمنع الانزلاق إلى حرب واسعة غير مضمونة النتائج، كما أن الفهم المشترك بأن أي تصعيد كبير قد يؤدي إلى عواقب وخيمة وغير محسوبة يشجع الأطراف على البحث عن سبل للتخفيف من حدة الصراع».

أما السبب الثاني، بحسب سلامة، فهو أن «هناك حالة من الترقب بين الطرفين بسبب الانتخابات المبكرة في إيران، مما يجعل الحكومة الإيرانية في موقف حذر تسعى من خلاله إلى تجنب التصعيد الذي قد يؤثر سلباً على نتائج الانتخابات. وبالمثل، الولايات المتحدة، الداعم الأساسي لإسرائيل، تستعد لدخول انتخابات مصيرية، مما يدفع الأطراف إلى تهدئة الوضع ريثما تتضح الخريطة السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي»، مضيفاً: «الأطراف تفضل عدم المخاطرة في هذه المرحلة الحساسة، انتظاراً لمعرفة التوجهات السياسية القادمة وتأثيراتها المحتملة على النزاع».

من هنا يرى سلامة أن «تلك العوامل مجتمعة تدفع الأطراف المعنية إلى زيادة وتيرة الوساطة والبحث عن حلول دبلوماسية للتهدئة على الحدود اللبنانية، حفاظاً على الاستقرار النسبي، وتجنباً للتصعيد غير المحسوب في ظل ظروف سياسية مضطربة».