معركة «الشفاء» تختبر «نجاحات» تل أبيب و«قدرات حماس»

الجيش الإسرائيلي تمكن من المباغتة والسيطرة لكنه واجه مقاومة شرسة غير متوقعة

دمار واسع في قطاع غزة جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر العام الماضي (أ.ف.ب)
دمار واسع في قطاع غزة جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر العام الماضي (أ.ف.ب)
TT

معركة «الشفاء» تختبر «نجاحات» تل أبيب و«قدرات حماس»

دمار واسع في قطاع غزة جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر العام الماضي (أ.ف.ب)
دمار واسع في قطاع غزة جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر العام الماضي (أ.ف.ب)

تختبر معركة مستشفى «الشفاء» الدائرة في مدينة غزة، منذ فجر الاثنين، إلى أي حد نجح الجيش الإسرائيلي في فرض واقع جديد كثيراً ما أراد الوصول إليه في قطاع غزة، وهو تحويلها إلى الضفة الغربية رقم 2، كما تختبر المعركة في الوقت نفسه إلى أي حد تضررت قدرات «حماس» العسكرية.

وعلى الرغم من أن العملية برمتها تستهدف تقويض محاولات «حماس» إعادة السيطرة المدنية والعسكرية في مدينة غزة، لكنها أظهرت قدرة إسرائيلية على المباغتة من جهة، ما يعزز سيطرة واضحة، وقدرة «حمساوية» على القتال من جهة ثانية، ما يؤكد أن القضاء عليها ما زال هدفاً بعيد المنال.

وقال مصدر ميداني في مدينة غزة لـ«الشرق الأوسط» إن الجيش الإسرائيلي نجح في مباغتة قيادات في الفصائل الفلسطينية كانت في منطقة مستشفى «الشفاء»، لكن فوجئ أيضاً بشراسة المقاومة بعد ذلك.

فلسطينيون ينتقلون إلى مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة يوم الاثنين بعدما نزحوا من شمال القطاع عقب الهجوم الإسرائيلي على مجمع «الشفاء» (أ.ف.ب)

وأكد المصدر أن القوات الإسرائيلية وصلت إلى المستشفى بسرعة، مضيفاً: «كان هذا سريعاً، وغير مسبوق. وصل الجيش بسرعة، وحاصر المستشفى، وقتل واعتقل العشرات، لكنه أيضاً تكبد خسائر».

وقال المصدر إن إسرائيل تريد إثبات أمرين، الأول أنها حوّلت قطاع غزة إلى ضفة غربية ثانية، بحيث تستطيع وقتما تشاء الوصول إلى أي نقطة وقتل واعتقال من تريد، واختارت مستشفى «الشفاء»؛ لأنها حاولت قبل ذلك تحويله إلى معقل لـ«حماس»، وبالتالي كأنه رمز للمعركة. والأمر الثاني، ضرب كل مقومات «حماس» بما فيها أجهزة الحكم المدني.

وكانت القوات الإسرائيلية قد اقتحمت «الشفاء»، وهو أكبر مستشفى في قطاع غزة، فجر الاثنين، في عملية قالت إنها تستهدف مسؤولين في «حماس»، قبل أن تقتل العميد فائق المبحوح، مسؤول العمليات في جهاز الأمن الداخلي التابع لحكومة «حماس»، الذي كان مسؤولاً عن عمليات الشرطة في قطاع غزة، بما في ذلك تأمين وصول شاحنات المساعدات وتوزيعها. وكان على اتصال مع وكالة «الأونروا» ومع عشائر. وبعد ذلك، قتلت إسرائيل المقدم رائد البنا مدير مباحث شمال غزة والمسؤول عن تأمين دخول شاحنات المساعدات، مع زوجته وأولاده في قصف منزله.

فلسطينيون ينزحون من شمال غزة الاثنين بعد اقتحام إسرائيل مجمع مستشفى «الشفاء» في مدينة غزة (رويترز)

واستهداف المسؤولين في الشرطة الفلسطينية التابعة لـ«حماس» يؤكد عزم إسرائيل على القضاء على كل مقدرات الحركة في الحكم، بالإضافة إلى ضرب قدراتها العسكرية.

وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: «المكان الذي اعتقد نشطاء (حماس) أنه مخبؤهم ومكانهم الآمن أصبح على الفور فخاً للموت بعد عملية نفذت بسرعة البرق. في هذه العملية اتخذنا خطوة أخرى تجاه (حماس)، ووجّهنا ضربة أخرى لها، وسيستمر ويتعزز مثل هذا الهجوم حتى نقضي على منظمة (حماس). لن يكون هناك حكم عسكري، ولن تكون هناك قدرة عسكرية لـ(حماس) في قطاع غزة. وسوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً».

وهذا ثاني هجوم واسع تنفذه إسرائيل في مجمع «الشفاء» منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي.

ونفذ الجيش هجوماً على المجمع في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني)، واستغرق وقتاً للوصول إلى داخله حيث خاص معارك قاسية للغاية. وبعد سيطرته على المبنى، عرض الجيش لاحقاً ما قال إنها أدلة تدعم ادعاءاته منذ فترة طويلة بأن «حماس» تستخدم مستشفى «الشفاء» مركز عمليات وقيادة رئيسي، وأن المستشفى يقع فوق أنفاق تضم مقار لمقاتلي «حماس».

دبابة إسرائيلية على الحدود مع قطاع غزة الثلاثاء (أ.ف.ب)

واستكمل الجيش الإسرائيلي تدمير الأنفاق الواقعة تحت منطقة «الشفاء» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

ورأت صحيفة «هآرتس» أن وصول الجيش الإسرائيلي إلى «الشفاء» بهذه السهولة في المرة الحالية، يعكس المدى القليل من المقاومة التي تستطيع «حماس» حشدها شمال قطاع غزة، لكن العودة إلى هناك تظهر أن «حماس» أيضاً بعيدة كل البعد عن الاستسلام حتى في المناطق التي أعلن فيها الجيش الإسرائيلي منذ فترة طويلة أنه انتهى من تفكيك القدرات العسكرية للحركة فيها.

وبينما أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قتل 50 فلسطينياً، واعتقل 180 مشتبهاً بهم في عملية اقتحام المستشفى، قالت «كتائب القسام» إنها دمّرت آليات، وقتلت جنوداً.

وقال ناطق باسم الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء: «نشاط قوات الجيش وجهاز الأمن العام، وقوات وحدة 13 للكوماندوز البحري، ومجموعة القتال التابعة للواء 401 بقيادة الفرقة 162 في منطقة مستشفى (الشفاء)، مستمر». وأقر الناطق العسكري بخوص جنوده معارك وجهاً لوجه مع المقاتلين الفلسطينيين.

ومقابل ذلك، أعلنت «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» أنها تخوض معارك ضارية في محيط مستشفى «الشفاء»، وقالت إنها استهدفت جنوداً وآليات بقذائف «الياسين 105» في محيط المستشفى.

واعترف الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، بوفاة الضابط سيباستيان هيون (51 عاماً)، في معركة «الشفاء»، لترتفع حصيلة قتلى العملية البرية في غزة إلى 251، ومنذ بداية الحرب إلى 594.

نازحون فلسطينيون من شمال غزة عقب الهجوم الإسرائيلي على مجمع «الشفاء» (أ.ف.ب)

والاثنين، سمح الجيش بنشر خبر مفاده أن الرقيب متان فينوغرادوف (20 عاماً) من القدس، وهو مقاتل في الكتيبة 932 التابعة للواء «ناحال» قُتل أيضاً في معركة في مستشفى «الشفاء».

وتحدث الجيش عن إصابات كذلك.

ولا يُعرف على وجه الدقة إذا ما كان الهجوم يستهدف فقط حكم «حماس»، أم أنه طال مسؤولين في الحركة، وآخرين في «الجهاد الإسلامي».

وتحاول إسرائيل دفع عشائر وعائلات ومسلحين من أجل حكم مربعات سكنية في منطقة شمال غزة، عبر تنظيم عملية توزيع المساعدات، لكن معظم هذه العائلات رفضت إلا من خلال التنسيق مع أجهزة الأمن التابعة لـ«حماس».

وفي ردود الفعل على هجوم «الشفاء»، أدانت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم) عمليات الاغتيال الإسرائيلية لمسؤولين في الشرطة الفلسطينية، وقالت إنها تكشف، وتؤكد سياسة إسرائيل الممنهجة في الاستهداف المتعمد للمدنيين وللبنى التحتية المدنية والمؤسسات المدنية بما في ذلك أجهزة الشرطة العامة والأمن الداخلي والدفاع المدني. وأضافت: «من الواضح أن إسرائيل تهدف من عمليات اغتيال المسؤولين في الشرطة الفلسطينية إلى تعميق الأزمة الإنسانية في القطاع، لا سيما في الشمال؛ حيث يتفاقم خطر المجاعة هناك».

لكن «حماس» رأت أن ما قامت به إسرائيل في مجمع «الشفاء» الطبي ومحيطه دليل على حالة التخبط.

وأضافت في بيان: «إن النصر الذي يراود خيال (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو، إنما هو سراب وحلم بعيد المنال».

جيك سولفيان أكد أن إسرائيل قتلت مروان عيسى القيادي في الجناح المسلح لـ«حماس» (إ.ب.أ)

وفي واشنطن، أعلن البيت الأبيض أن إسرائيل قتلت الرجل الثاني في الجناح العسكري لحركة «حماس» خلال الأسبوع الماضي. وقال مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان إن «الرجل الثالث في حماس (الثاني في جناحها العسكري) مروان عيسى قُتل في عملية إسرائيلية، الأسبوع الماضي»، وذلك في معرض تقديمه إحاطة حول فحوى مكالمة هاتفية جرت بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وقال سوليفان إن إسرائيل «قضت على عدد كبير من كتائب (حماس)، وقتلت آلافاً من مقاتلي (حماس) بينهم قادة كبار». وأضاف: «بقية القادة الكبار يختبئون، على الأرجح في عمق شبكة أنفاق (حماس)، والعدالة ستأتيهم أيضاً». وكان الجيش الإسرائيلي قد أعلن في 11 مارس (آذار) أن غارة جوية على مجمّع تحت الأرض في وسط غزة نُفّذت، ليل التاسع - العاشر من مارس، استهدفت عيسى، واصفاً إياه بأنه أحد المخططين للهجوم الذي شنّته «حماس» على إسرائيل في السابع من أكتوبر. وقال حينها المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري إن عيسى هو مساعد محمد الضيف، قائد «كتائب عز الدين القسام» الجناح العسكري لـ«حماس»، لكن هاغاري قال حينها إنه لم يتّضح ما إذا كان عيسى قد قُتل في العملية أم لا، وأضاف: «لا نزال ندرس نتائج الضربة بانتظار التأكيد النهائي»، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.


مقالات ذات صلة

وزارة الصحة: كل مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة

المشرق العربي فلسطيني يحمل طفلة صغيرة مصابة داخل مستشفى كمال عدوان في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وزارة الصحة: كل مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة

حذرت وزارة الصحة في قطاع غزة من توقف جميع مستشفيات القطاع عن العمل أو تقليص خدماتها خلال 48 ساعة بسبب نقص الوقود، إذ ترفض إسرائيل دخوله للقطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي فلسطينيون يتسلمون طعاماً من مطبخ خيري في جنوب غزة (رويترز)

«لصوص المساعدات» يضاعفون جوع سكان غزة

«حماس» تشن حملة للقضاء على ظاهرة سرقة شاحنات المساعدات التي أثرت بشكل كبير على المجتمع وتسببت في بوادر مجاعة جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (إ.ب.أ) play-circle 00:28

نتنياهو: «حماس» لن تحكم غزة بعد الحرب

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الثلاثاء، إن حركة «حماس» لن تحكم قطاع غزة بعد انتهاء الحرب وإن إسرائيل دمرت القوة العسكرية للحركة.

«الشرق الأوسط» (القدس)
المشرق العربي فلسطينيون يجلسون بجوار أنقاض المنازل المدمرة في الهجوم الإسرائيلي على خان يونس بجنوب قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2024 (رويترز)

داعية معروف في غزة يتساءل عن الضرر الذي أحدثه هجوم 7 أكتوبر

أثار هجوم حركة «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 الذي أشعل فتيل الحرب في قطاع غزة، جدلاً بين رجال الدين الفلسطينيين في القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
العالم العربي طائرة مقاتلة من طراز «إف 35» (رويترز)

دعوى فلسطينية تطالب بريطانيا بمنع تصدير قطع غيار طائرات «إف 35» لإسرائيل

قال محامو منظمة حقوقية فلسطينية لمحكمة في لندن، الاثنين، إن بريطانيا تسمح بتصدير قطع غيار طائرات «إف 35» المقاتلة إلى إسرائيل، وتقبل باحتمال استخدامها في غزة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
TT

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)

لم تكن الغارة الإسرائيلية الثالثة التي استهدفت منطقة البسطة، وسط بيروت فجر الجمعة، ذات طابع عسكري فقط، بل كان لها بُعدٌ رمزي يتمثّل في ضرب منطقة أضحت من البيئات الشعبية المؤيدة لـ«حزب الله»، وتماهت معه منذ تأسيسه في عام 1982 يوم انشق عن حركة «أمل» بصفته تنظيماً مسلّحاً حمل اسم «حركة أمل الإسلامية».

يكفي الحديث عن تاريخ هذه المنطقة لإدراك أن استهدافها وتدميرها لا يقفان عند حدود تعقّب قيادات «الحزب» واغتيالهم وترويع بيئته في قلب العاصمة بيروت فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى تدمير أحياء ومبانٍ ما زالت تحفظ على جدرانها وفي ذاكرتها كثيراً من تاريخ بيروت الجميل، رغم تغيّر هويتها، لا سيما شارع المأمون الذي تحمل عقاراته ومبانيه أسماء عائلات بيروتية سنيّة ومسيحية رغم انتقال ملكيتها في السنوات الماضية إلى أسماء أشخاص من الطائفية الشيعية الذين يدورون في فلك «حزب الله»، بعد أن عزز الأخير وجوده ونفوذه في البسطة وامتداداً منها إلى مناطق أخرى، سواء بفعل استملاك العقارات، أو بنقل سجلات قيد عائلات من الجنوب إلى بيروت لغايات سياسية انتخابية وأحياناً أمنية.

لا يختلف اثنان من أبناء بيروت على أن الهوية الطائفية والسياسية لمنطقة البسطة تغيّرت كثيراً، ويشير مختار المصيطبة، صائب كلش، إلى أن «المنطقة التي استهدفتها الغارة الإسرائيلية، وتحديداً شارع المأمون، ذات غالبية سنيّة بامتياز، وأغلب سكانها من عائلات: عيتاني، وشاتيلا، والنويري، وعيدو، والتنير، ومنيمنة، ومغربل، وسوبرة، وكان فيها عدد لا بأس به من العائلات المسيحية مثل: مجدلاني، وجنحو، ومنيّر، والمطران، وعودة... وغيرها».

وأوضح كلش لـ«الشرق الأوسط» أنه «على أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والتهجير من الجنوب إلى بيروت، استوطنت عائلات شيعية في هذه المنطقة، وآثرت البقاء فيها، واستملكت عقارات وشققاً سكنية، ورفضت مغادرتها حتى بعد انسحاب إسرائيل إلى خلف ما كان يعرف بالشريط العازل في الجنوب».

مجزرة «فتح الله»

اللافت أن دور «حزب الله» ووجوده بدأ يتعزز مع اكتشاف ارتباطه بإيران، واتخذ في بداياته من منطقة البسطة مكاناً لقياداته وتقوية نفوذه، وحوّل ثكنة «فتح الله» الواقعة في شارع المأمون مقراً لقيادته. لكن بعد أشهر قليلة من عام 1987، وفي ظلّ تمدده عسكرياً بالمنطقة، اصطدم مع القوات السورية إثر دخول الأخيرة إلى «بيروت الغربية» على أثر إقدام «الحزب» على قتل جندي سوري، عندها عمد الجيش السوري إلى تصفية 27 عنصراً من مقاتلي «الحزب» داخل هذه الثكنة وسيطر عليها، وعرفت العملية يومها بـ«مجزرة فتح الله»، لينقل على أثرها «الحزب» مركز قيادته إلى الضاحية الجنوبية.

اتخذ «حزب الله» من تلك المجزرة عبرة لإعادة صوغ علاقته بالجيش السوري، خصوصاً في ظلّ العلاقات المتنامية بين إيران وسوريا. وأكد المختار كلش أنه «بعد سيطرته عسكرياً على بيروت، سمح الجيش السوري لـ(الحزب) بأن يتمدد في منطقة البسطة شعبياً، وهذا سهّل عليه وعلى مؤيديه استملاك الشقق والمنازل، خصوصاً بين عامي 1988 و1990عندما أطلق العماد ميشال عون ما سماها (حرب التحرير) ضدّ الجيش السوري، وتسبب ذلك في هجرة المئات من أبناء العائلات البيروتية السنيّة والمسيحية من المنطقة، والخشية من استهداف منطقتهم من الجيش اللبناني الذي كان تحت إمرة ميشال عون، كما شمل التهجير النهائي غالبية المسيحيين، وبقي وجود بعضهم رمزياً».

رجال أمن لبنانيون في وسط بيروت... وتبدو خلفهم صورة الأمين العام الراحل لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ب)

صحيح أن شوارع وأحياء المصيطبة، القريبة من البسطة، لا تزال تحمل أسماء شخصيات بيروتية سنيّة، إلّا إن وجهها تبدّل أيضاً، وهذا تظهّر بشكل كبير بعد انخراط «حزب الله» في العمل السياسي؛ بدءاً من الانتخابات النيابية في عام 1992 وحصوله على كتلة وازنة، كما تعزز أكثر بعد تحرير الجنوب في عام 2000، لكنّ التحوّل الأكبر انطلق في عام 2005 على أثر خروج الجيش السوري من لبنان على خلفية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وتصدّر «الحزب» المشهد السياسي ليأخذ الدور الذي كان يمارسه السوريون في لبنان.

نقل نفوس

ويلفت كلش إلى أن «عدد الشيعة المسجلين في دوائر النفوس ببيروت كان ضئيلاً جداً، لكن بعد عام 2005 نُقلت نفوس آلاف العائلات من الجنوب إلى بيروت، وسُجلوا في مناطق مثل المصيطبة، والباشورة، والمرفأ، امتداداً إلى ميناء الحصن وعين المريسة، والسبب في ذلك تعزيز حضور (الحزب) في الانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية، بدليل أن نائب (الحزب) عن بيروت، أمين شرّي، حصد 33 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، بينها 28 ألف صوت شيعي، مقابل 6 آلاف صوت فقط لنائب حركة (أمل) محمد خواجة».

ذاكرة المصيطبة

لم يُكتب الكثير عن منطقة المصيطبة، إلّا إن أبناءها المتجذرين فيها يحملون في ذاكرتهم ووجدانهم تاريخ منطقتهم، ويشير المحامي مروان سلام، رئيس جمعية «بيروت منارتي»، إلى أن البسطة «مصنّفة ضمن قائمة أشهر المناطق التراثية، لكن العوامل التي دخلت عليها غيّرت كثيراً من مزاياها». ويؤكد سلام لـ«الشرق الأوسط» أن المنطقة «تميزت بما تحتوي من مراكز إدارية وتعليمية وطبية، بالإضافة إلى عدد من الحدائق والمتنزهات التي جرى تشويه وجهها؛ إما عمداً، وإما تقصيراً»، لافتاً إلى أنها «غنيّة بالمطاعم والمقاهي الواقعة في مبانٍ تراثية قديمة». ويردّ سلام تسمية المنطقة «البسطة» إلى أنها «اعتُمدت مقراً لسلطة المماليك، وحملت هذا الاسم نسبة إلى الكرسي الخشبي التي كان يجلس عليه السلطان».

أكثر من ذلك، حملت المنطقة اسم «البسطة الشريفة»، كما يقول المحامي مروان سلام؛ «ففيها كانت تقام حلقات تلاوة القرآن الكريم ورواية الأحاديث النبوية الشريفة، وكان لأهل بيروت في ذلك الحين مكانان يتحلقون فيهما للغرض المذكور؛ هما (البسطة الفوقا) و(البسطة التحتا)، ويعنون بهما الحلقات الدينية».

محطة القبضايات

ويتحدث عن مزايا أبناء المنطقة؛ «إذ كانت محطة دائمة للقبضايات الذين يرتادون مقاهيها، وكانت معبراً لـ(ترامواي بيروت) الذي ينطلق من البربير إلى النويري ثم البسطتين الفوقا والتحتا، والباشورة، وصولاً إلى محطته في (ساحة رياض الصلح)». ويضيف سلام أن البسطة «رغم صغر مساحتها، فإنها كات تحوي عدداً من المستشفيات منها: (البربير)، و(الإسلامي)، و(مليح سنو) و(مستشفى الدكتور محمد خالد)، إضافة إلى مدارس: (الشيخ نور)، و(عزيز مومنة)، و(شريف خطاب)، و(العلماوي) و(مكارم الأخلاق). كما خرّجت عدداً كبيراً من الفنانين، منهم: نجاح سلام، ومحمد سلمان، وأنطوان كرباج، وشوشو، ومحمد شامل، ومحيي الدين سلام، والرسام مصطفى فروخ... وغيرهم. وهؤلاء جميعاً من أبنائها وكانت تفخر بهم ويفخرون بها وبتاريخها».