رغم الهدوء العام الذي يخيم على مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في ريف دير الزور، فإنها تشهد هجمات متفرقة يشنها مقاتلون محليون، يقودهم زعيم عشائري، انطلاقاً من الضفة الغربية لنهر الفرات، الواقعة تحت السيطرة الحكومية، ما يدفع المسؤولين في الإدارة الذاتية لمناطق شمال شرقي سوريا إلى اتهام السلطات بالوقوف وراء الهجمات، بينما يرى متابعون للشأن السوري أنه يتم استغلال طموحات وخلافات بعض زعماء العشائر للإبقاء على التوتر في المنطقة الخارجة عن سلطة دمشق المدعومة من التحالف الدولي لمحاربة «داعش» في المنطقة.
اجتماع لشيوخ ووجهاء من دير الزور مع قسد بشأن المجلس العسـ ـكري#نهر_ميدياhttps://t.co/Ck1in9Eah9
— Naher Media - نهر ميديا (@nahermedia) February 19, 2024
آخر هذه العمليات وقع الأحد 18 فبراير (شباط)، عندما شنت مجموعات مسلحة هجمات متزامنة استهدفت نقاطاً وحواجز عسكرية لـ«قسد» في عدة بلدات بريف دير الزور الشرقي، دون ورود معلومات عن خسائر بشرية.
المرصد السوري لحقوق الإنسان أشار، في حينها، إلى أن مسلحين محليين شنوا هجوماً على «نقطة مصفاة مياه البوبدران»، التي تتمركز فيها «قوات سوريا الديمقراطية»، ونقاط في بلدتي «الطيانة والسوسة» حيث دارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين.
وكانت مواجهات عنيفة قد اندلعت، في أغسطس (آب) الماضي، بين مسلحين ينتمون لبعض العشائر العربية في ريف دير الزور الشرقي، وقوات «قسد» التي تتكون عناصرها من أغلبية كردية تتبع «حزب الاتحاد الديمقراطي»، المدعومة من التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة أميركية.
المواجهات لم تتوقف من حينها، ما أسفر عن سقوط عشرات الضحايا، بينهم مدنيون، إلا أن الهدوء عاد نسبياً مع فرار قائد الحركة «الشيخ إبراهيم الهفل» من المنطقة إلى دمشق، في حينها، واتهامه بالارتباط مع السلطات السورية.
و«الهفل» شقيق شيخ قبيلة العكيدات، إحدى أكبر قبائل الجزيرة السورية، وقد انتشرت صور وفيديوهات له مؤخراً، يظهر فيها برفقة مشايخ ووجهاء من عشائر المنطقة في إحدى المضافات بالعاصمة السورية دمشق.
⚡مراسل وكالة ثقة: إصابة ثلاثة عناصر من قوات "قسد" إثر هجوم مسلح لمجهولين يستقلون دراجة نارية في بلدة الهرموشية غربي دير الزور.#وكالة_ثقة pic.twitter.com/EMFrdH4gci
— وكالة ثقة (@thiqanewsagency) February 14, 2024
ومنذ بداية المواجهات، اتهمت قيادة «قسد» السلطات في دمشق بالوقوف خلف هذا التوتر ودعم الهفل، الأمر الذي نفاه الأخير، مؤكداً «أن ما يجري تحرك مشروع من أبناء المنطقة للدفاع عن حقوقهم».
إلا أن الصحافي السوري محمد الحامد، المتخصص في شؤون شرق سوريا، يؤكد أن «الهفل» كان «على تنسيق دائم مع دمشق»، كاشفاً عن افتتاح معسكرات خاصة بمقاتليه في مدينة الميادين الخاضعة لسيطرة النظام بريف دير الزور.
ويشير الحامد إلى أن المواجهات التي تفجرت في المنطقة قبل 6 أشهر «يقف وراءها أشخاص طامحون إلى تصدر المشهد العشائري، بمن فيهم (الهفل) وقريبه (أحمد الخبيل)، القائد السابق لـ(مجلس دير الزور العسكري) المرتبط بـ(قسد)، استغلوا مظلومية أبناء المنطقة لتحقيق طموحات شخصية».
وكان «الخبيل»، وهو من «قبيلة العكيدات» أيضاً، قد طالب بمشيخة القبيلة، مستغلاً نفوذه داخل «قوات سوريا الديمقراطية»، قبل أن تقرر قيادة «قسد» عزله من منصبه في أغسطس، ما أدى إلى مواجهات بين الطرفين اندلعت في مناطق تمركز «العكيدات».
ورغم العلاقات السيئة بين «الخبيل» وبقية وجهاء القبيلة الذين تتوزع ولاءاتهم على مختلف السلطات القائمة في سوريا، فإن إبراهيم الهفل استغل تركز المواجهات بين «قسد» وقوات «أحمد الخبيل» في قرى قبيلة العكيدات من أجل قيادة حركة مسلحة خاضت مواجهة عنيفة استمرت نحو الشهر، قبل أن تستعيد «قسد» السيطرة على كامل المنطقة.
ورغم انتهاء العمليات العسكرية الكبيرة بين الطرفين، فإن المجموعة التابعة لـ«الهفل» استمرت في شنّ هجمات من وقت لآخر، انطلاقاً من قرى تطلّ على نهر الفرات، من الجهة المقابلة للضفة التي تسيطر عليها «قسد». الأمر الذي تضعه الأخيرة في إطار «السعي لزعزعة الاستقرار» في مناطقها، و«إفشال مشروعها الوطني»، كما يقول «سيهانوك ديبو» الرئيس المشترك لمكتب العلاقات العامة في حزب الاتحاد الديمقراطي.
مظلوميات ومطامح
يقول «ديبو» لـ«الشرق الأوسط»، إن هذه العمليات «تقف خلفها جهات تخشى من مشروع الإدارة الذاتية، الذي بات الحل الواقعي للأزمة السورية وفق القرار الدولي 2254، ونعتقد أن النظام السوري هو من يدعم هذه المجموعات، وإلا كيف تتنقل بحرية في مناطق سيطرته، وتنطلق منها لمهاجمة قواتنا».
وبينما ترى «قسد» أن الهدف هو ضرب مشروعها السياسي في سوريا، يرى متابعون أن السلطات السورية تستغل طموحات وجهاء من عشائر المنطقة، وشعور بعض الفئات بالتهميش، من أجل إضعاف «قوات سوريا الديمقراطية».
في هذا الصدد، يقول محمد الحامد إن «إبراهيم الهفل نجح في البداية بتحشيد أعداد لا بأس بها من المقاتلين والداعمين، خاصة مع وجود إهمال لبعض المدن والبلدات العربية في مناطق سيطرة (قسد)، إضافة إلى الصراع المتجذر بين قوى المعارضة والإدارة الذاتية، لكن بعد فرار (الهفل) إلى مناطق سيطرة النظام وتأكد ارتباطه مع أجهزة الأمن السورية، انخفض بشكل كبير هذا الدعم والتأييد الذي حظي به».
يضيف: «حالياً الهفل موجود في دمشق، والتقى بعدد من وجهاء العشائر الموالين لدمشق، من أجل تجنيد مزيد من المقاتلين في حركته التي وفّرت لها جهات سورية ما يشبه معسكرات تدريب في الميادين. كما تقدم لعناصره التسهيلات اللازمة لشنّ هجمات مسلحة انطلاقاً من الضفة الغربية لنهر الفرات، باتجاه نقاط (قسد) على الضفة الشرقية للنهر، من خلال بلدات (ذيبان وأبو حمام والكسرة والحصان) بشكل رئيسي».
ورغم توجيهه الدعوات لبقية عشائر المنطقة من أجل التمرد على «قسد»، لم يستطع «إبراهيم الهفل» الحصول على تأييد كبير لحركته التي انحصرت في قرى «قبيلة العكيدات» بريف دير الزور الشرقي، حيث رفض زعماء القبائل والعشائر الأخرى الانخراط فيها.
خريطة العشائر
تنتشر في شمال شرقي سوريا (منطقة الجزيرة والفرات) قبائل وعشائر عربية، أبرزها «البكارة وطي وشمر وجيس والعكيدات»، وعانت جميعها انقسامات حادة منذ عام 2011، حيث توزع ولاء مشايخها المتنافسين على الزعامة، بين الجهات والقوى التي سيطرت على المنطقة.
ويرى الإعلامي السوري، ياسر علاوي، أن هذا التنافس العشائري تلقفته القوى السياسية الفاعلة أو المتدخلة في الشأن السوري، وعملت على توظيفه لصالحها، الأمر الذي جعل سكان منطقة الجزيرة يدفعون ثمناً مضاعفاً.
حول مآلات هذا الحراك، يقول: «الآن بعد امتصاص (قوات سوريا الديمقراطية)، ومن خلفها (قوات التحالف الدولي)، لتلك الفورة، واحتواء الهجمات العسكرية الكبيرة التي شنها أبناء العشائر على مقرات وحواجز (قسد) في ريف دير الزور، شرق الفرات، واستمالة (الإدارة الذاتية) لمشايخ ووجوه عشائرية مهمة في المنطقة، خفّت حدة التوتر وتقلصت الهجمات، خاصة مع توسع الحديث عن مشاركة النظام في هذه الهجمات».
ورغم استمرار العمليات التي ينفذها مقاتلون يتبعون إبراهيم الهفل، ضد قوات «قسد» في ريف دير الزور الشرقي، فإن الاعتقاد السائد أن الهجمات لا تحظى بحاضنة شعبية، بسبب الدوافع السياسية والشخصية للقائمين عليها، وتحديداً ما يتعلق بارتباطاتهم مع الأجهزة الأمنية، ما يدفع كثيرين للاعتقاد أنها ستبقى محدودة وضعيفة، خاصة أن معظم سكان المنطقة والنازحين إليها هم من المعارضين.