ربح لبنان تشريع الموازنة العامة في موعدها الدستوري، ومن دون أي عجز في حسابات المداخيل والإنفاق التي تساوت عند مستوى 3.3 مليار دولار، وفق سعر الصرف السائد، بعد تعديلات نيابية غير مسبوقة طالت مجمل البنود الواردة من الحكومة، وأفضت خصوصاً إلى إعادة هيكلة الأرقام و«تصفير» العجز، وكبح الجموح إلى استحداث ضرائب ورسوم تتعدى قدرات المكلفين، من مواطنين وقطاعات اقتصادية.
وبمعزل عن غياب الرؤية الاقتصادية، وتغييب البيانات المرجعية التي تتيح المقارنة السنوية، فقد برزت الأهمية الاستثنائية لإنجاز الموازنة ضمن المهل الدستورية في إعادة الاعتبار للبعد القانوني الناظم لإدارة المالية العامة للدولة، بعد نحو عقدين من التخبط في التشريع واعتماد القاعدة الاثني عشرية التي تتيح الصرف والجباية وفق موازنة سابقة، وبعدما ظلّ استحقاق تأخير قطع الحسابات المالية لسنوات طويلة سابقة، ثغرة عميقة في الانتظام المالي المنشود والتحقق من سلامة القوائم المالية وعمليات الخزينة.
فجوات وحواجز
وبرز، بالتوازي مع هذا الإنجاز، الحجب التام لموجبات الدين العام، ما أتاح بلوغ التساوي بين الإنفاق والواردات، وهذا يمثل بدوره، حسب مصادر مالية معنية وخبراء، فجوة محورية في حجب شفافية بيانات المالية العامة، وحاجزاً منيعاً أمام عودة القطاع المالي العام والخاص إلى أسواق المال الدولية التي خرج منها قسراً في ربيع عام 2020، عقب إعلان حكومة الرئيس حسان دياب تعليق دفع كامل مستحقات سندات الدين الدولية في عام 2019، لتصل تراكماتها من أصول وفوائد إلى نحو 40 مليار دولار حالياً.
وبالفعل، أكد رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، أن الاعتمادات لا تلحظ خدمة الدين المترتبّة فعلياً والمتأخرات في هذا المجال، كما لا تلحظ اعتمادات وفيرة للصيانة والإنفاق الاستثماري، وبعض المصاريف الملحّة التي أتت من خارج الموازنة، لكن، كما كان الحال في 2023، حرصت السلطات المالية على عدم استحداث عجز في التمويل يهدد الاستقرار.
وريثما تنجز وزارة المال تحديث البيانات النهائية بموجب التعديلات التي أقرتها الهيئة العامة للمجلس النيابي في وقت متأخر ليل الجمعة، تسود مخاوف جدية في صفوف المواطنين عموماً، وذوي المداخيل المتوسطة والمتدنية خصوصاً، من تبعات الأعباء المستجدة التي ستنتج عن الارتفاعات الكبيرة التي أصابت معظم تعديلات الضرائب والرسوم لصالح الخزينة.
ورغم شطب المجلس النيابي جميع المواد التي تقضي باستحداث ضرائب أو رسوم أو غرامات جديدة، والإصرار على توحيد المعايير في تعديل الضرائب والرسوم وبدلات الخدمات والغرامات، بعد أن كان الاقتراح بتعديلها بصورة عشوائية لا يراعي الأوضاع الاقتصادية السائدة، فقد جرى احتساب معظم واردات الخزينة بالسعر الواقعي للدولار، البالغ 89.5 ألف ليرة، حتى قبل تشريع البعض منها عبر مواد الموازنة، بما يشمل ضرائب الاستهلاك والرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة وبدلات الخدمات العامة من ماء وكهرباء واتصالات وسواها، علماً بأن مؤشر التضخم التراكمي قارب 6 آلاف نقطة مئوية.
الموازنة لا تستجيب لتطلعات صندوق النقد الدولي
استطراداً، لم يكن الرد الحكومي مقنعاً كفاية، حسب المصادر المعنيّة، بأن السلطات المالية لا تسعى إلى فرض عبء ضريبي إضافي على كاهل المواطن، كما حاول البعض تصويره وتضخيمه عبر الإيحاء بأن الحكومة تريد السطو على مداخيل المواطنين والشركات، وطمس واقعة أن السياسات الضريبية المقترحة التي يصب معظمها في سياق تصحيح القيم، لا تدخل السلة الاستهلاكية لذوي الدخل المحدود، فيبقى وقعها محدوداً على هذه الشرائح.
أيضاً، تجنبت الحكومة ومن بعدها سلطة التشريع، أي نص قانوني واضح يستجيب للتطلعات الداخلية ولمطالب المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، ويوجب أن تأتي الموازنة متسقة مع عملية توحيد سعر الصرف، لتؤكد لاحقاً، وبشكل ملتبس، أن الاتجاه هو لتجنب التقلبات الكبيرة التي برزت خلال الفترات السابقة، ولكن ليس هناك نية لتثبيت سعر الصرف الذي كلّف أثماناً باهظة نتيجة ربطه بشكل جامد بالدولار الأميركي.
وفي الواقع، يعاني نحو 320 ألف موظف من المدنيين والعسكريين في القطاع العام، من خلل حاد في مداخيلهم التي يتم صرفها وفق مستوياتها ما قبل الانهيار النقدي، بحيث أصبح متوسط الرواتب البالغ نحو مليوني ليرة يقل عن 300 دولار شهرياً، بعد رفده بمساعدة لا تدخل في صلب الراتب بمعدل 7 رواتب، مقابل نحو 1330 دولار عشية انفجار الأزمات قبل 4 سنوات ونيف، مع ضرورة التنويه بأن المداخيل فقدت الجزء الأكبر من قيم تقديمات كانت تشمل تغطية صحية عادلة ومساعدات مدرسية واجتماعية تساند قدرات العاملين في القطاع العام على مجابهة المتطلبات المعيشية.
وبالمثل، يعاني أغلب العاملين في القطاع الخاص من الخلل عينه، ولو أقل حدة، جراء التصحيح المتواصل للمداخيل، والمشروط حكماً بتحسن النشاط وإنتاجية القطاعات، حيث عاد منسوب القلق للارتفاع في صفوفهم، ربطاً بتجدد الركود في قطاعات حيوية وفي مقدمها القطاع السياحي من فنادق ومطاعم وخدمات مرتبطة، بسبب المخاوف من توسع العمليات العسكرية في الجنوب، فضلاً عن تواصل تقليص حجم مؤسسات القطاع المصرفي، الذي صرف حتى الساعة نحو 10 آلاف من موظفيه، أي ما يمثل نحو 40 في المائة من إجمالي العمالة.