في سوريا... عزاء على أضواء الهواتف الجوالة و«الصالات» للأثرياء

المعدمون مادياً يرون في «تكاليف الموت» مصيبة أقسى من الفراق

زوار مقبرة في دوما قرب العاصمة السورية (أرشيفية - إ.ب.أ)
زوار مقبرة في دوما قرب العاصمة السورية (أرشيفية - إ.ب.أ)
TT

في سوريا... عزاء على أضواء الهواتف الجوالة و«الصالات» للأثرياء

زوار مقبرة في دوما قرب العاصمة السورية (أرشيفية - إ.ب.أ)
زوار مقبرة في دوما قرب العاصمة السورية (أرشيفية - إ.ب.أ)

فيما يتعمق يومياً فقر أغلبية سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، أصبحت «تكاليف الموت» لذوي المتوفى تشكل مصيبة أقسى من الموت، بعد الارتفاع الهيستيري لأسعار القبور وإجراءات الدفن ومراسم العزاء.

وانسحبت موجات الارتفاع المتتالية للأسعار التي أنهكت المواطنين، على أسعار القبور وإجراءات الدفن؛ إذ تتضمن تكاليف دفن متوفى في مقبرة «نجها» بريف دمشق الجنوبي، والتي تدفع سلفاً من قبل ذوي المتوفى لمكتب دفن الموتى التابع لمحافظة دمشق: مليوناً و850 ألف ليرة سورية ثمناً لقبر جديد، أو 850 ألف ليرة سورية أجرة فتح قبر قديم، بحسب ما ذكر لنا رجل توفي ابنه قبل أسبوعين. كما تتضمن التكاليف وفق إيصالات حديثة صادرة عن المكتب واطلعنا عليها، 409 آلاف ليرة أجرة سيارة دفن الموتى وغسل المتوفى وثمن قماش الكفن والحناء.

وفي ظل رزوح أكثر من 90 في المائة من السوريين تحت خط الفقر، بحسب تقارير أممية، بات كثير من الأهالي يقيمون مراسم دفن متواضعة للغاية لموتاهم.

قبل أيام قليلة توفي (م.ز) البالغ من العمر 40 عاماً، ويقطن غربي دمشق، وقد اقتصرت المشاركة في تشييع جنازته على 10 - 12 شخصاً.

يوضح شقيقه (ي.ز) أن التشييع البسيط هو أمر تم الاتفاق عليه مع أفراد العائلة. يضيف: «تكاليف الدفن والعزاء صارت مصيبة أقسى من مصيبة الموت. سرفيس إلى (مقبرة) نجها أجرته 150 ألف ليرة. السيارتان اللتان نقلتا المشاركين، هي للجيران، حتى إننا لم نستطع شراء قبر وقد جرى دفنه في قبر أبيه». وعلى الرغم من أن (ي.ز) دفع كامل أجور مكتب الدفن سلفاً، زاد من همه إلحاح الحفار وسائق سيارة الدفن على إعطائهم «إكرامية» بعد انتهاء عملية الدفن.

مقبرة «نجها» في ريف دمشق الجنوبي ويظهر فيها عدد من الزائرين لقبور ذويهم (الشرق الأوسط)

ووسط مشهد الإحراج الذي تعرض له (ي.ز) وترديده عبارة: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، بادر أحد المشاركين في التشييع إلى إعطاء كل من الحفار وسائق سيارة الدفن مبلغاً من المال.

العزاء همٌّ آخر

ولا تنتهي تكاليف الموت بإتمام عملية الدفن؛ إذ تأتي بعدها مراسم العزاء التي تشكل هاجساً كبيراً للفقراء، بسبب أجور الصالات الخيالية، الأمر الذي دفع كثيرين إلى الاكتفاء بإقامتها في منازلهم أو في خيم صغيرة في الطرقات.

ويصل أجر صالة في المناطق المحيطة بدمشق إلى مليون ليرة في اليوم، من ضمنها أجور ضيافة القهوة المرة، على حين يتراوح ما بين 2 - 3 ملايين في الصالات الفخمة الواقعة وسط دمشق، بحسب ما تحدث لنا عدد من مستثمري الصالات الذين لفتوا إلى أن إيجار الصالة لا يتضمن تكاليف مأدبة غداء اليوم الثالث من العزاء (الختمة)، التي يقيمها ذوو المتوفى، والتي تصل إلى خمسة ملايين ليرة على أقل تقدير، إن كان صنف الطعام متواضعاً (صفيحة) ويكفي لـ60 شخصاً.

ويشير أحد المستثمرين إلى تراجع الإقبال على استئجار الصالات، سواء لمناسبات الأفراح أو الأحزان، ويقول: «الصالات أصبحت للأثرياء. وهناك ميسورون يستأجرون أحياناً بعد جدل طويل على السعر».

وأقام (ي.ز) مراسم العزاء في منزله المؤلّف من غرفتين؛ إذ استأجر 40 كرسياً (ألفي ليرة أجرة الكرسي عن كل يوم)، وعمالاً يصنعون ويضيفون القهوة المرة بأجر يومي بلغ 125 ألف ليرة.

خيمة عزاء في غرب دمشق بعدد قليل من المعزين (الشرق الأوسط)

ولم يمض بشكل طبيعي اليوم الأول الذي شهد قدوم قلة قليلة من الجيران؛ إذ نفد شحن مدخرة الإضاءة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، لتتم إضاءة غرفتي العزاء بأضواء جهازي هاتف خليوي، فيما اقتصرت ضيافة «الختمة» على توزيع قطع من حلوى «الوربات» التي يبلغ سعر القطة منها 3 آلاف ليرة.

وبينما تشكل الحوالات المالية بالنسبة للعائلات ممن يعيش أبناؤها في المهاجر ودول اللجوء، رافداً يعينهم على تدبر أمورهم، ويوصفون بـ«ميسوري الحال»، تتحدث (س.ر) وهي من سكان منطقة القاعة جنوب دمشق، أن جارة لها توفيت قبل أسبوع، وأصر ولداها اللاجئان في ألمانيا على إقامة عزاء مهيب لها، وتقول لنا نقلاً عن زوجها الذي شارك في تقديم الواجب: «أقاموا العزاء في صالة بمنطقة الزاهرة، وكان هناك عجقة. ضيّفوا قهوة وتمر، وصارت للحجة (ختمة مدللة) بمناسف أوزي (خواريف محشية)».

وغالباً ما تقام مراسم تشييع مهيبة للشخصيات البارزة والمعروفة في الوسط الذي تعمل فيه عند وفاتها، كما حصل في تشييع الروائي السوري خالد خليفة الذي توفي في بداية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث شارك في المراسم عدد كبير من نجوم الوسط الفني والأدباء والمثقفين والكتاب، فيما أُقيم العزاء في صالة نقابة المحامين وسط دمشق، وحضره حشد من الفنانين والأدباء والمثقفين والكتاب.

مجلس عزاء أحد شيوخ قبيلة قاطرجي في ديوان قبيلة النعيم وقاطرجي بفندق أرمان بمحافظة حلب (فيسبوك)

في المقابل، تقام للمتوفى من طبقة الأغنياء الذين باتوا قلة قليلة مع انضمام «الطبقة الوسطى» إلى طبقة المعدمين مادياً بسبب الغلاء وتراجع مداخيل العائلات الشهرية، مراسم تشييع ضخمة يشارك فيها مئات الأشخاص، بينهم مسؤولون كبار في الدولة وشخصيات نافذة، فيما توضع أكاليل الورد على سيارة الدفن وسيارات نقل المشيعين، وتعج الصالات الضخمة التي يقيمون العزاء فيها بالوافدين، ويتم خلاله تقديم شتى أنواع الضيافة؛ من قهوة مرة وليمون مغلي وكمون مغلي وزهورات وأنواع فاخرة من التمور، إضافة إلى إقامة مأدبة غداء في اليوم الثالث.

أسعار القبور

ووفق ما كشفت صحيفة «الوطن» المقربة من السلطات، نهاية العام الماضي، فقد «تجاوز سعر القبر في دمشق الـ40 مليون ليرة ضمن إطار البيع (عرض وطلب) واتفاق مباشر بين المواطنين، حسبما تؤكده المعلومات»، فيما يذكر عاملون في المقابر أن هذه الأسعار موجودة ولكن في مقابر قليلة وقديمة داخل العاصمة، منها مقبرة «الباب الصغير» في حي الشاغور، ومقبرة «الدحداح» في شارع بغداد.

صورة جانبية لمقبرة الشهداء في مخيم اليرموك جنوبي دمشق تظهر أن الدمار لا يزال ماثلاً فيها (الشرق الأوسط)

ونقلت الصحيفة عن مدير مكتب دفن الموتى في محافظة دمشق فراس إبراهيم، أن العام الماضي شهد تسجيل أكثر من 7 آلاف حالة وفاة في العاصمة. وأكد أن عدد القبور في دمشق يصل إلى الـ160 ألفاً موزعين ضمن 30 مقبرة.


مقالات ذات صلة

«سامي» شريك «قيصر»: «الائتلاف» أمدَّ في عمر بشار الأسد

المشرق العربي أسامة عثمان خلال المقابلة (الشرق الأوسط)

«سامي» شريك «قيصر»: «الائتلاف» أمدَّ في عمر بشار الأسد

يحكي أسامة عثمان «مهرّب» ملفات التعذيب السورية المعروفة باسم شريكه «قيصر»، في الحلقة الثانية من مقابلته الموسَّعة مع «الشرق الأوسط»، كيف صدمهما رئيس حكومة.

غسان شربل (باريس)
المشرق العربي وزير الخارجية السوري الجديد أسعد حسن الشيباني يلتقي رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا مايكل أونماخت (الخارجية السورية)

رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا يلتقي وزير الخارجية الجديد

التقى رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، مع وزير الخارجية السوري الجديد، الثلاثاء، حيث ناقشا قضايا الأمن ووحدة واستقلال سوريا.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي مقاتلون من «قوات سوريا الديمقراطية» (أرشيفية - رويترز)

مقتل 3 عناصر من القوات الكردية بهجوم في حلب

أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن مقاتلين موالين لتركيا قَتلوا 3 عناصر من قوات الأمن الكردية في شمال سوريا، الثلاثاء، في هجوم بمدينة حلب.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني (رويترز)

وزير الخارجية السوري يبحث مع نظيره المصري «الاستقرار» الإقليمي

كشف وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني اليوم أنه تلقى اتصالاً هاتفياً من نظيره المصري بدر عبد العاطي، ناقشا فيه أهمية دور البلدين في تحقيق الاستقرار.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي جان نويل بارو وزير الخارجية (يمين) وزميله سيباستيان لوكورنو وزير الدفاع الثلاثاء في زيارة لموقع القوة الفرنسية العاملة في إطار «يونيفيل» جنوب لبنان (أ.ف.ب)

فرنسا تنضم لرسم «خريطة طريق» للنظام الجديد في سوريا

فرنسا تنضم إلى الغربيين في رسم «خريطة طريق» للنظام الجديد في سوريا ووزير الخارجية جان نويل بارو يقول: نريد أن تتحول سوريا مقراً للاستقرار في المنطقة

ميشال أبونجم (باريس)

وزير خارجية فرنسا: الفشل في وقف إطلاق النار كان سيغرق لبنان بالفوضى

وزير الخارجية جان نويل بارو (يمين) وزميله وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو الثلاثاء خلال زيارة لمقر القوة الفرنسية العاملة في إطار «اليونيفيل» بجنوب لبنان (أ.ف.ب)
وزير الخارجية جان نويل بارو (يمين) وزميله وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو الثلاثاء خلال زيارة لمقر القوة الفرنسية العاملة في إطار «اليونيفيل» بجنوب لبنان (أ.ف.ب)
TT

وزير خارجية فرنسا: الفشل في وقف إطلاق النار كان سيغرق لبنان بالفوضى

وزير الخارجية جان نويل بارو (يمين) وزميله وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو الثلاثاء خلال زيارة لمقر القوة الفرنسية العاملة في إطار «اليونيفيل» بجنوب لبنان (أ.ف.ب)
وزير الخارجية جان نويل بارو (يمين) وزميله وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو الثلاثاء خلال زيارة لمقر القوة الفرنسية العاملة في إطار «اليونيفيل» بجنوب لبنان (أ.ف.ب)

وصف وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو، الذي يقوم منذ الاثنين بزيارة مشتركة إلى لبنان مع زميله وزير الخارجية جان نويل بارو، الأيام الـ26 المتبقية من فترة الستين يوماً لاتفاق وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل بأنها «لحظة هشاشة، أو بالأحرى لحظة الحقيقة»، التي ستتواصل حتى انتهاء الحقبة المذكورة، وأن ما يقوم به الأميركيون والفرنسيون في إطار آلية مراقبة وقف إطلاق النار هو «تحييد التهديدات المحتملة» لوقف النار، مذكراً بأن بلدة واحدة «الخيام» من مجمل القرى والبلدات التي يتعين على القوات الإسرائيلية الانسحاب منها وحلول الجيش اللبناني محلها، قد أنجزت فيها هذه المهمة. وأضاف لوكورنو: «لقد جئنا هنا لنقول للبنان كن حذراً لأن وقف إطلاق النار هذا هو مفتاح ما نسعى إلى أجله بالطبع، ولكن أيضاً هو منع التصعيد الإقليمي».

ويعكس كلام المسؤول الفرنسي تخوف باريس من تواصل انتهاكات وقف إطلاق النار، وهو ما يؤكد أن باريس ستعمل، بالتوازي، من أجل إيصال رسالة مماثلة إلى إسرائيل. ووفق الوزير بارو، فإن الفشل في التوصل إلى وقف إطلاق النار الذي سعت إليه فرنسا والولايات المتحدة يداً بيد كان «سيغرق لبنان في حالة من الفوضى». ووفق لوكورنو، فإن المحافظة على وقف النار «الهش» تتطلب كثيراً من الجهود. إلا أن اللافت أن الوزير الفرنسي لم يشر بشكل مباشر إلى الانتهاكات الإسرائيلية التي يشكو منها لبنان يومياً، والتي تقدَّم بشأنها بشكاوى إلى الطرفين الفرنسي والأميركي.

وكان لوكورنو وبارو يتحدثان من مقر قيادة القوة الفرنسية العاملة في إطار «اليونيفيل» في جنوب لبنان إلى القناة الإخبارية الفرنسية (بي إف إم). وتناول بارو الوضع السياسي في لبنان محدداً أولويات بلاده الرئيسة: الأولى توفير المساعدات الإنسانية للبنان، والثانية العمل من أجل أن يكون وقف إطلاق النار دائماً، والثالثة التوصل إلى التعافي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبنان. وبخصوص الأولوية الثالثة، عدّ بارو أن الخطوة الأولى على طريق التعافي تكمن في انتخاب رئيس جديد للجمهورية يملأ الفراغ المؤسساتي، بحيث «يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وأن يجسد وحدة لبنان في تنوعه». وحث بارو «القوى السياسية اللبنانية على تحمل مسؤولياتها، واغتنام فرصة جلسة مجلس النواب في التاسع من يناير (كانون الثاني) لانتخاب رئيس يضع لبنان على مسار يمكّنه من استعادة مصيره بيده». ولا تكتفي باريس بذلك بل تدعو، بعد ذلك، إلى قيام حكومة فاعلة ومؤسسات تعمل، ووصف بارو جهود إعادة الإعمار بأنها ستكون «هائلة»؛ لأن الحرب تسببت بأضرار تساوي المليارات. وثمة من يقدر تكلفة إعادة الإعمار بعشرة مليارات دولار، لا تملك الحكومة قرشاً واحداً منها. أما بيت القصيد من زيارة الوزيرين، وفق بارو، فهو الدفع من أجل أن يكون وقف النار دائماً.

من جانب آخر، رد وزير الدفاع على الذين يأخذون على قوات «اليونيفيل» انعدام فاعليتها بقوله إنه، لو لم تكن موجودة، «لكان الوضع (في جنوب لبنان) أسوأ»، وأنها كانت «أفضل الممكن»، مضيفاً أن «اختراع شيء جديد (للحلول مكانها) أمر بالغ الصعوبة»؛ نظراً لما هو قائم في مجلس الأمن الدولي. وذكّر لوكورنو بأن مهمة «اليونيفيل»: «ليست الفصل بين مقاتلين، بل فقط المراقبة وتقديم التقارير؛ لأنها ليست قوة حفظ سلام». ولأن الوضع على ما هو عليه، لذا تم العمل من أجل إنشاء آلية المراقبة التي تم تشكيلها للإشراف على وقف إطلاق النار التي تترأسها الولايات المتحدة الأميركية، وتشاركها فرنسا في المسؤولية. وختم لوكورنو قائلاً: «نحن نبذل جهداً كبيراً لجعل القوات المسلحة اللبنانية تتولى المسؤولية، وفرنسا تلعب دورها هنا، ولو لم نكن موجودين لكانت الأمور أسوأ».