المحكمة الاتحادية في العراق... عُقدة الاستقلال والاشتباك مع السياسة

الحكومة تستعد للتداول مع الأحزاب لتشريع قانون جديد لكن «المهمة صعبة جداً»

مقر مجلس القضاء الأعلى وسط العاصمة العراقية بغداد (إعلام حكومي)
مقر مجلس القضاء الأعلى وسط العاصمة العراقية بغداد (إعلام حكومي)
TT

المحكمة الاتحادية في العراق... عُقدة الاستقلال والاشتباك مع السياسة

مقر مجلس القضاء الأعلى وسط العاصمة العراقية بغداد (إعلام حكومي)
مقر مجلس القضاء الأعلى وسط العاصمة العراقية بغداد (إعلام حكومي)

ليس من المرجح أن تنجح مساعي الحكومة العراقية في تشريع قانون خاص بالمحكمة الاتحادية العليا، نظراً لما يقوله خبراء قضائيون بأن المعادلة السياسية «تتعايش وتحقق مكاسب» من مؤسسة تعمل من دون قانون منذ قرابة 18 عاماً، وتصدر أحكاماً تتصل غالباً بجوهر النظام القائم في البلاد.

ويبدو أن خلافاً جوهرياً سيعترض طريق الحكومة والفعاليات السياسية في البلاد، يتعلق بصلاحيات المحكمة ودرجة استقلالها كهيئة دستورية منعزلة، إلى حد ما، عن مجلس القضاء الأعلى.

وكلف رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، الثلاثاء الماضي، لجنة تضم ممثلين عن مؤسسات رئاسية عراقية «لإعادة النظر في مشروع قانون المحكمة الذي سبق وأن أعدته الحكومة عام 2015، وأحالته حينها إلى مجلس النواب ولم ينجح في إقراره حتى اليوم».

وتشريع قانون المحكمة واحد من بنود الاتفاق السياسي الذي أقره تحالف «إدارة الدولة»، والذي يضم قوى شيعية وكردية وسنية، وأفضى إلى تشكيل الحكومة الحالية في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي.

وتحولت غالبية بنود هذا الاتفاق إلى وثيقة «البرنامج الحكومي»، التي قدمها السوداني يوم حصوله على ثقة أعضاء مجلس النواب، ويقول إن تشريع قانون المحكمة الاتحادية جزء من برنامجه لاستكمال المؤسسات الدستورية.

ووفقاً لبيان حكومي، فإن اللجنة العراقية «أكملت عملها ووضعت مسوّدة المشروع وقام رئيسها بإجراء سلسلة من المباحثات والتداول بشأن المبادئ الرئيسة الواردة».

وقال السوداني، إنه «يعتزم التداول مع القوى السياسية الوطنية بشأن المسودة الجديدة لمشروع القانون، بما يضمن استكمال المؤسسات الدستورية».

لكن خبيرين وسياسيا عراقيا تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، هذا الأسبوع، أكدوا أن «الحوارات التي يريد السوداني خوضها مع الأحزاب المتنفذة ستذهب على الأرجح في اتجاهين؛ أحدهما ربط المحكمة الاتحادية بمجلس القضاء، والآخر تقويتها بتعزيز استقلاليتها».

وبحسب هؤلاء، فإن لكلا الاتجاهين «غايات ومصالح سياسية بالدرجة الأساس»، لكن القانونيين مندفعون كثيراً نحو تشريع القانون لإنهاء «الفراغ القانوني» الذي تعمل في ظله أهم سلطة دستورية في البلاد، رغم المخاوف السياسية.

رئيس الحكومة يأمل في تشريع القانون بعد مراجعة النقاط الخلافية (إعلام رئاسة الوزراء)

تاريخ تشكيل المحكمة

وأنشأت «السلطة المدنية» للقوات الأميركية بعد عام 2003 «المحكمة الاتحادية» للحصول على غطاء قانوني يملأ فراغ السلطات بعد إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين.

وقبل تصويت العراقيين على الدستور الدائم عام 2005 بأشهر معدودة، أُقر قانون يحمل رقم 30 واسم «المحكمة الاتحادية العليا»، وبموجبه مُنحت صلاحيات واسعة بشأن شرعية اللوائح الدستورية والقوانين والأنظمة، وتطورت إلى أن تكون «الحكم الفيصل» بين الحكومة المركزية والمحافظات وإقليم كردستان، إلى جانب المصادقة على نتائج الانتخابات، وكانت بيدها وما تزال ولاية المؤسسات الحكومية العليا.

ومنذ ذلك الوقت، أثارت هذه الصيغة غير الحاسمة جدلاً واسعاً، وطُرحت أسئلة حول الأرضية القانونية للمحكمة، أجبرت في النهاية القوى السياسية على استخدام المادة 92 من الدستور الدائم، لتشريع قانون يحدد وضعها وصلاحياتها.

لم يحدث هذا أبداً، ولأن القوى السياسية لم تتوصل إلى صيغة مشتركة حول صياغة القانون، فشلت محاولات تشريع القانون، وظلت المحكمة تعمل بموجب القانون القديم رقم 30 لعام 2005.

وطرحت أول مسودة للقانون عام 2008، لكن البرلمان لم ينجح في تمريرها، وتكررت المحاولة نفسها مرتين في عامي 2011 و2015، وفشل النواب في تمريره.

ويعد قانون المحكمة الاتحادية من القوانين الرئيسية في البلاد، لذلك فإن تمريره يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب.

وتقول حكومة السوداني إنها «راجعت المسائل والنصوص التي كانت محلّ اعتراض على مشروع القانون في الدورات البرلمانية السابقة، وتم تحسينه من الناحيتين الشكلية والموضوعية؛ وصولاً لإزالة أسباب الخلاف السابقة».

 

عُقدة التشريع والسياسة

ما كان يواجه تشريع القانون قبل سنوات يتركز كثيراً في حجم التمثيل السياسي للمكونات الأساسية في البلاد داخل المحكمة الاتحادية، وغالباً ما تأثر هذا النزاع بالمناخ السياسي والاجتماعي المشحون طوال سنوات.

يقول الخبير القانوني، حسام الحاج، لـ«الشرق الأوسط»، إن «قوى سياسية حاولت خلال السنوات الماضية إخضاع المحكمة لنظام المحاصصة بقياس عدد القضاة وفقاً لأوزان المكونات الرئيسة في البلاد، إلى جانب إضافة فقهاء الشريعة إلى فقهاء القانون».

ويعتقد الحاج، أن أزمة فقهاء الشريعة ستطرح هذه المرة خلال الحوارات المرتقبة حول تشريع القانون.

«في السابق، طرحت صيغة تدفع باتجاه أن يكون نصف الفقهاء من الشيعة والنصف الثاني من السنة، لكن اعتراضات قوية كانت تصد هذا المشروع، وتدافع عن دور استشاري محدود لهؤلاء، ولا يمكنهم التصويت والمشاركة في إصدار الأحكام القضائية»، يقول الحاج.

وغالباً ما تتعارض النصوص الدستورية في العراق مع أحكام الشريعة، بحسب الخبير الدستوري أمير الدعمي، الذي تحدث مع «الشرق الأوسط» عن مخاوفه من «أن تؤدي هذه الصيغة إلى ضرب مصداقية القضاء».

وقال الدعمي: «قد تتعارض الرؤية الشرعية لفقهاء مع النص الدستوري المصمم لبلد يقطنه سكان من ديانات وطوائف متعددة».

والحال، أن مشروع «فقهاء الشريعة» لم يعد مؤثراً في ميزان الخلافات التي تعيق تشريع قانون المحكمة الاتحادية، كما يقول سياسي عراقي بارز كان على صلة وثيقة بالحوارات السياسية حول المسودة.

ويقول السياسي، لـ«الشرق الأوسط»، «إن محاولات فرض فقهاء الشريعة على تركيبة المحكمة الاتحادية فشلت، والقوى التي كانت تدفع بهذا الاتجاه تخلت عن الأمر، بعدما أخفقت في نيل تأييد كاف حتى من القوى الشيعية».

وبحسب السياسي، الذي طلب إخفاء اسمه، فإن «اتفاقاً أولياً بين القوى السياسية أفضى إلى اعتماد فقهاء بصفة استشاريين من دون عضوية في الهيئة القضائية، ولا يملكون حق التصويت وآراؤهم غير ملزمة».

أعضاء المحكمة الاتحادية في ضيافة رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد (أرشيف - إعلام الرئاسة العراقية)

محكمة مستقلة؟

يبدو أن الخلاف قبل تشريع قانون المحكمة الاتحادية يتعلق الآن بصلاحياتها واستقلالها عن مجلس القضاء الأعلى، وعلى الأكثر فإن الرغبة السياسية في إثارة هذه العقدة تصاعدت منذ أن قررت هذه المحكمة إنهاء عضوية رئيس البرلمان محمد الحلبوسي الشهر الماضي.

وبحسب الصيغة الحالية، فإن المحكمة الاتحادية مستقلة إدارياً ومالياً عن مجلس القضاء، كما أن الدستور ينص على أن تتكون السلطة القضائية من مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية والادعاء العام والإشراف القضائي.

لكن القرارات الحاسمة التي أسفرت عن نقاط تحول في العملية السياسية تجعل الفصل بين مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية، أو سلطة أحدهما على الأخر، مثار قلق للفاعلين السياسيين.

واتخذت المحكمة الاتحادية خلال السنوات الماضية قرارات كانت تفضي في النهاية إلى خلق مسارات سياسية محددة، وتغير من أوزان القوى، بما يصعب الفصل بين تأثيرها السياسي وتخصصها القانوني.

وآخر تلك القرارات، هو الاعتراف بالثلث المعطل الذي منع التيار الصدري وحلفاءه من عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية عام 2022، وقبل ذلك كان للمحكمة الاتحادية دور في ترجيح كفة قوى سياسية بتحديد «الكتلة الأكبر»، التي لم تكن تعني الفائز الأول في نتائج الانتخابات.

ومع ذلك، يميل الخبير أمير الدعمي إلى فصل المحكمة الاتحادية تماماً عن مجلس القضاء، وان تتحول إلى «محكمة تختص بالنظر في تفسير القوانين والنصوص الدستورية».

ويقول الدعمي، إن «وجودها تحت عنوان السلطة القضائية يفقدها الكثير من قوتها الدستورية، ما يعني أن فصلها هو الأمثل».

«من الطبيعي أن تتهم المحكمة الاتحادية بالانخراط في الحياة السياسية والتأثير فيها لأنها معنية بتفسير الدستور، لكن منعها من التماهي مع هوى السلطات يتطلب معالجة الخلل في الدستور العراقي عب تعديله».

والحال، أن الدعمي يعتقد أن «غلبة التيارات الإسلامية داخل البرلمان العراقي تحاول أن تحول المحكمة الاتحادية إلى ما يشبه مصلحة تشخيص النظام في إيران، وهو ما يعارض القانون في العراق».

ويعتقد سياسيون من أحزاب مختلفة، أنهم بحاجة إلى «فهم قواعد الاشتباك» مع المحكمة الاتحادية من خلال رسم واضح لصلاحيتها، والمساهمة في النقاشات التي تقرر ذلك.

ويقول السياسي العراقي، إن «تحويل المحكمة إلى أداة يمكن استخدامها من قبل طرف خارجي أو داخلي مؤشر على طبيعة النظام، بينما يجب أن يكون القضاء عصياً على الاستخدام السياسي».

وثمة نزعة سياسية جارفة تريد أن تكون المحكمة الاتحادية العليا جزءاً من مجلس القضاء، وألا يتم التعامل معها كمحكمة غير خاضعة لأي من السلطات العراقية، وفقاً لما يقوله الخبير حسام الحاج، ويرى أن «هذه الصيغة سابقة لم تحدث في الأنظمة القانونية المعمول بها في العالم».

وفي العراق، كما يتحدث السياسي العراقي، فإن الحديث عن استقلال المحكمة الاتحادية لا يمنح الضمانات الكافية والمؤكدة من عدم استخدام هذا «الكيان المستقل» لصالح جهات متنفذة ضد أخرى منافسة.

 


مقالات ذات صلة

«الاتحاد الوطني» يتحدث عن «توقعات متشائمة» بشأن حكومة كردستان

المشرق العربي أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني خلال احتفال بعد إعلان نتائج الانتخابات (رويترز)

«الاتحاد الوطني» يتحدث عن «توقعات متشائمة» بشأن حكومة كردستان

من المتوقع أن يدعو رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني، خلال الأيام القليلة المقبلة، الكتل السياسية الفائزة، إلى عقد أول جلسة للبرلمان.

فاضل النشمي (بغداد)
المشرق العربي عناصر من الأمن العراقي في شوارع بغداد (د.ب.أ)

رؤساء وزراء سابقون يدخلون على خط التصعيد الإسرائيلي ضد العراق

بينما أعلن البرلمان العراقي عقد جلسة مغلقة لمناقشة التهديدات الإسرائيلية، استأنفت بعض الفصائل الموالية لإيران تهديداتها ضد إسرائيل.

حمزة مصطفى (بغداد)
العالم العربي عراقيات في معرض الكتاب ببغداد (أ.ب)

سكان العراق أكثر من 45 مليون نسمة... نصفهم من النساء وثلثهم تحت 15 عاماً

يزيد عدد سكان العراق على 45 مليون نسمة، نحو نصفهم من النساء، وثلثهم تقل أعمارهم عن 15 عاماً.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
خاص شغل الدكتور جمال مصطفى السلطان منصب السكرتير الثاني للرئيس صدام حسين وهو متزوج من ابنته حلا play-circle 02:19

خاص جمال مصطفى: الرئيس قال «عبد الكريم قاسم نزيه لكن الحزب كلفنا باغتياله»

يؤكد جمال مصطفى السلطان أن الرئيس صدام رفض اغتيال ضيفه الخميني، ويعتبر تسمية «الكيماوي» ظلماً لعلي حسن المجيد.

غسان شربل
المشرق العربي السوداني مع الرئيس الإيراني خلال زيارة في سبتمبر الماضي (رئاسة الوزراء العراقية)

العراق... فقدان 5500 ميغاواط من إمدادات الكهرباء

أعلنت وزارة الكهرباء العراقية الأحد عن فقدان منظومة الكهرباء لـ5500 ميغاواط بسبب توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل.

فاضل النشمي (بغداد)

قيادي في «حماس»: الحديث عن هدنة 5 أيام في غزة مرفوض

«حماس» تقول إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض (أ.ف.ب)
«حماس» تقول إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض (أ.ف.ب)
TT

قيادي في «حماس»: الحديث عن هدنة 5 أيام في غزة مرفوض

«حماس» تقول إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض (أ.ف.ب)
«حماس» تقول إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض (أ.ف.ب)

قال القيادي في حركة «حماس» أسامة حمدان اليوم الاثنين إن عرض هدنة في قطاع غزة لمدة 5 أيام هو أمر مرفوض، مؤكدا أن الحركة معنية في الوقت نفسه بوقف الحرب.

وأضاف حمدان لتلفزيون «الميادين» اللبناني: «نحن معنيون بوقف العدوان على شعبنا، والحديث عن هدنة لـ5 أيام ثم العودة إلى القتال لا يحقق مطلبه»، مشيرا إلى أن آخر عرض أميركي كمقترح لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة تم تقديمه قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية الماضية.

وتابع قائلا: «الإسرائيلي يريد أن يسترجع الأسرى لدى المقاومة وأن ترفع الأخيرة راية الاستسلام ثم يقرر إذا ما أراد وقف الحرب أم لا».

وحول وضع الأسرى في ظل المعارك الدائرة في القطاع، قال حمدان: «لا أحد يستطيع أن يجزم بأي أمر بشأن وضعية الأسرى وحالتهم».

وأضاف: «في غزة معركة تدور، إذا انقطعت أخبار الآسرين من المقاومة تنقطع أخبار الأسرى الإسرائيليين. إذا استشهد المقاوم الذي يهتم بأسرى إسرائيليين فإن حياتهم تصبح في خطر عندما يخسرون من يهتم بهم».

وانهارت العديد من جولات المفاوضات للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» برعاية مصرية وقطرية وأميركية، باستثناء هدنة واحدة جرى التوصل إليها لمدة أسبوع في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وفي وقت سابق من الشهر الحالي، أبلغت قطر «حماس» وإسرائيل بأنها ستوقف جهودها في الوساطة حتى يظهرا «الاستعداد والجدية» لاستئناف المحادثات.

وقال خليل الحية القائم بأعمال رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة في وقت سابق هذا الشهر إن المقترح الأميركي الأخير لوقف إطلاق النار «لم يتحدث عن وقف الحرب ولا عودة النازحين، بل عن إعادة بعض الأسرى الإسرائيليين فقط»، وأضاف: «نريد أن يتوقف هذا العدوان، ويجب أن يتوقف أولاً لكي يتم أي تبادل للأسرى».