شكوك اليوم الأول في «انتخابات العراق» ترفع منسوب القلق السياسي

TT

شكوك اليوم الأول في «انتخابات العراق» ترفع منسوب القلق السياسي

عناصر أمن يصطفون في طابور داخل مركز انتخابي أمس السبت (أ.ف.ب)
عناصر أمن يصطفون في طابور داخل مركز انتخابي أمس السبت (أ.ف.ب)

على الرغم مما بدا أنه نسبة مرتفعة على صعيد الإقبال في اليوم الأول في انتخابات مجالس المحافظات العراقية، الخاص بالقوات الأمنية والنازحين، فإن القوى السياسية الباحثة عن تعديل أوزانها الانتخابية بدأت تحثّ ناخبيها على التوجه صباح الاثنين إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم.

ومع أن إقبال منتسبي الأجهزة الأمنية ليس معياراً للإقبال الجماهيري كون هؤلاء موظفي دولة ويأتمرون بأوامر قادتهم وآمريهم، فإن ما زاد من قلق بعض القوى السياسية أن عدة حالات تم رصدها تعكس محاولات إجبار أو إملاء من قبل بعض الآمرين لمنتسبيهم للإدلاء بالتصويت لجهة معينة دون غيرها.

يضاف إلى ذلك أن الخلل الذي شهده اليوم الأول، الذي تمثل في تعطيل أجهزة العد والفرز الإلكتروني في كثير من المحطات، ضاعف من مساحة الشكوك لدى القوى السياسية، سواء تلك التي تريد المحافظة على وزنها السياسي عبر تعزيزه برصيد انتخابي أو تلك التي تريد رفع رصيدها الانتخابي لتعديل ميزانها في المعادلة السياسية المقبلة.

وبشأن التفاعلات الممكنة والمحتملة على صعيد ما يمكن أن تفرزه هذه الانتخابات من معادلات، وفي هذا السياق، يقول الدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «من الواضح أن عملية التصويت الخاص كانت قد جرت بانسيابية عالية وانضباط عالٍ من قبل أبناء المؤسسة الأمنية في قضية الإدلاء بأصواتهم، وهو ما يؤشر إلى عملية التزام ببناء الدولة ومؤسساتها، لكن في مقابل ذلك يبدو أن هناك خللاً لدى مفوضية الانتخابات، خصوصاً ما يتصل بعمليات العدّ والفرز الإلكتروني». مبيناً أن «هذه تمثل عدم قدرة على التعاطي مع مستوى التحدي للانتخابات بشكل عام، من منطلق أن هذه العملية هي أهم مفصل في الانتخابات، مثل تحديد النتائج والإرسال عبر الوسط الناقل وغيرهما، ما يدخل في صلب عمل المفوضية».

عناصر أمن يصطفون في طابور داخل مركز انتخابي أمس السبت (أ.ف.ب)

وأضاف الشمري أن «الإقرار من قبل المفوضية بوجود توقف في أجهزة العد والفرز وتحديد النتائج يمثل فشلاً جزئياً في العملية الانتخابية وعدم قدرة على تحمل المسؤولية من قبلها، وهذا الخطأ سوف يضعف عملية الإقبال في الاقتراع العام يوم الاثنين». وأكد الشمري أن «القانون عالج ذلك من خلال العد والفرز اليدوي طبقاً للقانون الانتخابي وقرار المحكمة الاتحادية، لكن هذا العدد الكبير من عطل الأجهزة غير مبرر، خصوصاً أن عملية العد والفرز يجب أن تتطابق مع نسبة الـ5 في المائة التي تعد مقبولة من حيث الخطأ لا أكثر من ذلك حيث هناك محطات كاملة تم توقف الأجهزة بها في عدد من المحافظات العراقية».

وأوضح الشمري أن «وجود مثل هذه الأخطاء، وبرغم الإقبال الكبير من قبل منتسبي الأجهزة الأمنية، لا يقلل من عمل المفوضية».

ورداً على سؤال بشأن كيفية انعكاس تركيبة المجلس على الصراع السياسي في المرحلة المقبلة، يقول الشمري إن «نتائج الانتخابات برغم أنها انتخابات دستورية في النهاية، فإن فلسفة إجراء الانتخابات كانت بالدرجة الأساس هي رغبة الأحزاب السياسية التقليدية منها بالتحديد لمعرفة أوزانها ومن ثم صياغة أوزانها القادمة على مستوى المجالس المحلية، حتى على مستوى البرلمان، خصوصاً أن مرور أكثر من عام على تحالف إدارة الدولة والتقاطعات التي حصلت وعدم تنفيذ الاتفاقات السياسية أثرت بشكل كبير على معادلة التحالفات، وكذلك على طبيعة التوجهات العامة. لذلك فإنه في حال فقدان الأحزاب كثيراً من رصيدها يمكن أن يولد صراعاً كبيراً، ليس على مستوى مجالس المحافظات، بل على المشهد الاتحادي، وهو ما يجعلنا أمام مشهد جديد له تداعياته المقبلة».

من جهته، يقول الدكتور ياسين البكري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النهرين، لـ«الشرق الأوسط»، إن «مقولة (إنها انتخابات مهمة وخطرة ولها تداعياتها) تبدو مقولة ملازمة لكل انتخابات حصلت في العراق، فلكل منها مخاوفها الواقعية وهواجس تداعياتها»، مشيراً إلى أن «هذه الانتخابات تفوقها جميعاً من حيث المخاوف وتداعيات النتائج بسبب متغيرين مهمين؛ الأول مقاطعة الصدر، والثاني الإطاحة بالحلبوسي».

جنود عراقيون يدلون بأصواتهم في مركز انتخابي في بغداد أمس السبت (أ.ف.ب)

وأضاف البكري أن «المقاطعة ستنتج مجالس محافظات خالية من الصدريين، وهو خطأ سياسي واستراتيجي، كما خطأ الانسحاب من البرلمان، سيتيح للإطار السيطرة الكاملة على مفاصل النظام السياسي، وقد ينتج بلحظة ما تصادم وتطور قواعد اللعبة نحو العنف، كون الإصرار على إمرار الانتخابات بلا صدريين يوضح حالة انتشاء بنصر قد لا يدوم».

وبشأن المتغير الثاني، يقول البكري: «قد تفرز الانتخابات مقاعد أكثر لتقدم كردّ فعل جماهيري، ما يعقد حالة التنافس في بغداد بين (الإطار) و(تقدم)، وكذلك في المناطق السنية، فضلاً عن مباراة انتخاب رئيس برلمان جديد، وهو ما يعني كخلاصة نهائية أن إمرار الانتخابات بتجاهل المتغيرين السابقين هو وصفة عدم استقرار سياسي، وربما عنفي مقبل».


مقالات ذات صلة

جمال مصطفى: مشوا تباعاً إلى حبل المشنقة ولم يرف لهم جفن

خاص صدام مع ابنته حلا في صورة غير مؤرخة (غيتي) play-circle 01:12

جمال مصطفى: مشوا تباعاً إلى حبل المشنقة ولم يرف لهم جفن

يروي جمال مصطفى السلطان، في الحلقة الثانية من المقابلة الخاصة معه، كيف تلقت أسرة صدام حسين نبأ إعدامه، وقصة زواجه من حلا، كريمة صدام الصغرى، وأكلاته المفضلة.

غسان شربل
شؤون إقليمية إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)

ما المتوقع عراقياً في استراتيجية إيران؟

ثمة من يعتقد أن إيران ستركز اهتمامها في مناطق نفوذها في العراق بالتزامن مع تهديدات إسرائيلية بشن هجمات على فصائل عراقية

المحلل العسكري
خاص عائلة صدام وتبدو حلا إلى يساره (أ.ف.ب) play-circle 03:44

خاص جمال مصطفى: عرفنا في المعتقل بإعدام الرئيس ونقل جثته للتشفي

ليس بسيطاً أن تكون صهر صدام حسين، وسكرتيره الثاني، وابن عشيرته، وليس بسيطاً أن تُسجن من عام 2003 وحتى 2021... فماذا لدى جمال مصطفى السلطان ليقوله؟

غسان شربل
المشرق العربي جانب من الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت (رويترز)

العراق لمجلس الأمن: إسرائيل تخلق مزاعم وذرائع لتوسيع رقعة الصراع

قالت وزارة الخارجية العراقية إن بغداد وجهت رسائل لمجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة والجامعة العربية و«التعاون الإسلامي» بشأن «التهديدات» الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي الضابط الأميركي كيفين بيرغنير يعلن للصحافيين في بغداد اعتقال علي موسى دقدوق 2 يوليو (تموز) 2007 (أ.ف.ب - غيتي)

تقرير: مقتل القيادي بـ«حزب الله» علي موسى دقدوق بغارة إسرائيلية في سوريا

قال مسؤول دفاعي أميركي إن قائداً كبيراً بـ«حزب الله» اللبناني كان قد ساعد في التخطيط لإحدى أجرأ وأعقد الهجمات ضد القوات الأميركية خلال حرب العراق، قُتل بسوريا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

جمال مصطفى: مشوا تباعاً إلى حبل المشنقة ولم يرف لهم جفن

TT

جمال مصطفى: مشوا تباعاً إلى حبل المشنقة ولم يرف لهم جفن

صدام مع ابنته حلا في صورة غير مؤرخة (غيتي)
صدام مع ابنته حلا في صورة غير مؤرخة (غيتي)

لم يتوقع المحيطون بصدام حسين أياماً قاسيةً من قماشة التي عاشوها معه في المعتقل. لم يخطر ببالهم أن تلقي الآلة العسكرية الأميركية بكامل ثقلها فيتداعى النظام ويسقط مع الحزب والجيش، وأن تتقدم قوى حليفة لإيران إلى مواقع القرار في النظام الجديد.

دار الزمان دورة صاعقة وكاملة. الرجل القوي الذي كان ممسكاً بالمصائر تحوّل سجيناً مع شعوره أن موعد إعدامه آتٍ وإن تأخر قليلاً. كان الرجل عنيداً حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تنكسر إرادته ولم يطلب لشخصه شيئاً من سجّانيه. ساهم في رسم صورة ما بعد إعدامه. وأعطاه الحكام الجدد فرصة تثبيت هذه الصورة باختيارهم توقيت الإعدام والتعرض بعده لجثته.

أركان القيادة الذين كانوا يتحلقون حول رئيسهم على طاولة مجلس قيادة الثورة أو مجلس الوزراء توزعوا هذه المرة في زنزانات المعتقل. استجوبهم أميركيون واستجوبهم عراقيون وكان الإعدام مدرجاً منذ البداية على جدول الأعمال.

صدام مع ابنته حلا في صورة غير مؤرخة (غيتي)

في هذه الحلقة يتحدث الدكتور جمال مصطفى السلطان عن رحيل رفاقه وأقاربه إلى حبل الإعدام. سيروي أيضاً كيف تزوج حلا أصغر بنات الرئيس صدام حسين، ويتحدث عن السلوك العائلي لصدام وهواياته، وهنا الحلقة الثانية:

سألت جمال مصطفى السلطان عن أبرز الذين أُعدموا خلال وجوده في المعتقل والظروف التي رافقت إعدامهم والملابسات فأجاب:

«السيد الرئيس والأستاذ طه ياسين رمضان، نائب رئيس الجمهورية، وخالي علي حسن المجيد، عضو مجلس قيادة الثورة، وخالي الآخر عبد حسن المجيد، وعواد البندر، وكيل رئيس الديوان، وبرزان إبراهيم الحسن، الأخ غير الشقيق للرئيس، والفريق عبد حمود، سكرتير السيد الرئيس، وفاروق حجازي، وهو كان معاوناً لمدير المخابرات في مرحلة ما ثم سفيراً للعراق في تركيا.

لفهم ما رافق الإعدامات أحيلك إلى فيديو وزّع حديثاً لخضير الخزاعي النائب السابق لرئيس الجمهورية بعد الاحتلال. يعترف الخزاعي بالصوت والصورة أنه لم يجد ما يبرر حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة بحق الفريق عبد حمود. أخطر ما في الأمر اعترافه بأنه ذهب إلى إيران وتشاور مع مرجع قضائي هناك أورد اسمه، وأن الأخير شجعه على التوقيع ففعل. والحقيقة أننا شعرنا منذ البداية أن المحكمة أداة انتقام تعمل بأوامر إيرانية. أبلغوا عبد حمود بنقله إلى المستشفى، وفي المساء قال لنا الحراس إنهم نفذوا بحقه حكم الإعدام.

السيد الرئيس كان يتوقع أن يُعدم. والحقيقة هي أن مجرد وجوده حياً ولو في السجن كان يثير قلقهم. ويمكنني الجزم أن أعضاء القيادة واجهوا بشجاعة قرار إعدامهم ولم يبدر منهم أي ضعف أو يرف لهم جفن. ذات يوم أبلغوا برزان وعواد البندر بقرار الإعدام. كنت أمارس الرياضة مع عواد ولا أبالغ إن قلت إنه كان محتفظاً بتفاؤله. أخذوا برزان وبندر لتنفيذ الحكم ثم أعادوهما وأرجأوا التنفيذ إلى موعد لاحق ثم أعدموهما في اليوم نفسه. وفي موعد آخر عرفنا من الحراس أنهم أعدموا عبد حسن المجيد وفاروق حجازي وهادي حسن (ضابط في المخابرات).

سأعطيك فكرة عما كان يجري. ذات يوم لفقوا لي تهمة مفادها أنني أعطيت قبل الاحتلال السيد خميس الخنجر (سياسي سُنّي) مبلغ مائتين وخمسين مليون دولار. طبعاً لا أساس لهذا الكلام. قالوا لي: إذا لم تعترف بذلك ستبقى في السجن طيلة عمرك.

رفضت أن أخضع وقلت لهم إن علاقتي به عادية كوني كنت مهتماً بملف العشائر. عادوا إليّ لاحقاً بسيناريو مختلف. قالوا ننقلك إلى السفارة العراقية في الأردن وتعترف هناك بأنك سلّمته المبلغ، وبعد الاعتراف يطلق سراحك في عمّان مع مبلغ مالي ضخم. أجبت أنني لن أفعل مهما كان العرض ولن أتخلى عن قيمي للإيقاع بخميس الخنجر الذي كان صديقي. لفقوا لي لاحقاً تهمة المشاركة في عملية تجفيف الأهوار ولم تكن لي أي علاقة بهذا النوع من الملفات».

الاتصال الأول بعد الإعدام

سألته متى اتصل بزوجته حلا لتعزيتها بعد إعدام والدها الرئيس، وكيف كانت أوضاع والدتها السيدة ساجدة خير الله طلفاح التي تعيش معها فأوضح: «بعد خمسة أيام من استشهاد السيد الرئيس، اتصلت بعائلتي فتحدثت مع زوجتي ووجدتها تتمتع بمعنويات عالية جداً وكان إيمانها وصبرها عاليين جداً وفي الوقت نفسه سألتها عن عمتي السيدة أم عدي فطمأنتني وقالت لي إن معنوياتها عالية على رغم الألم. حقيقة المصاب كبير وجلل والتضحيات عظيمة ولكن الله سبحانه وتعالى حباها بالإيمان والصبر والعزيمة والهمة، وكانت الحقيقة قوية جداً، الله يعطيها الصحة والعافية ويطول بعمرها لأننا دائماً نستمد القوة منها والإصرار على المضي في هذا الاتجاه. خسرت عمتي نجليها عدي وقصي ثم خسرت زوجها. وهي في الحقيقة لعبت منذ البداية دوراً كبيراً في دعم زوجها السيد الرئيس منذ بدأ نضاله. كانت تسانده وتدعمه في عمله إلى أن وصل إلى القيادة واستمرت تسانده وتقف إلى جانبه وكان لها دور كبير».

بداية الرحلة مع الرئيس

يسترجع جمال مصطفى بداية رحلته مع صدام حسين على الشكل الآتي: «كان ذلك عندما باشرت عملي بالحماية الخاصة المرافقة للسيد الرئيس. أول لقاء حصل معه ورأيته. ربما كان لدي تصوّر مثل بعض العراقيين والعرب والإخوان أنه شخص صعب، لكن حقيقة رأيته إنساناً أبوياً. عندما تتعامل معه وتقترب منه تتكون لديك رؤية مختلفة عما كنت تعتقده، لأن تعامله أبوي جداً. هذا أول لقاء معه.

سألني عن اسمي ومن أكون. نحن أبناء العشيرة نفسها ونلتقي معه في الجد الرابع أي أننا (أبناء) أعمام. والدتي أيضاً ابنة عمه. في كل الاتجاهات نحن (أبناء) أعمام.

رافقت السيد الرئيس الله يرحمه قرابة 20 سنة، بدءاً من الحماية ثم كلفني بعمل شؤون المواطنين، أي الاهتمام باحتياجاتهم ومشاكلهم ومقابلاتهم معه. كان يهتم جداً بشأن المواطنين ولا يسمح بأن يظلم واحد منهم ويهتم بمعالجة المسائل لأي مواطن إذا كانت لديه مشكلة في الجانب المادي أو علاج أو أي جانب من الجوانب التي يحتاجها المواطن. وحقيقة، كان كثير من القوانين يتغير آنذاك بناء لشكوى قدمها مواطن. تُغيّر أو تُعدّل من خلال شكاوى المواطنين.

كان هناك هاتفان في مكتب السيد الرئيس ولهما اتصال بمكتبي. من لديه مشكلة يستطيع أن يتصل بالسيد الرئيس من خلال تليفونات المواطنين وأنا كنت أجاوب على اتصالاتهم وأسمع مشاكلهم وبعدما أسمع مشاكلهم أحدد لهم مقابلة السيد الرئيس وأحياناً أطلب من المتصل أن يحضر الطلب لنعالج له مشكلته. فكان أحياناً يدخل على التليفون ويتحدث معي ويقول لي: ما هو موضوع المواطن؟ فأخبره، فيقول لي: أعطني المواطن لأتحدث معه. وفعلاً يستمع له ويقول له تعال غداً إلى استعلامات المجلس الوطني لمواجهتي وفعلاً يأتي. وفي القصر الجمهوري والمجلس الوطني كانوا يتلقون طلبات المواطنين ويجلبونها إلى الاستعلامات فتصلنا ونوصلها إلى السيد الرئيس. وهكذا يلتقي خلال الأسبوع مئات المواطنين ويحل مشاكلهم وكان يهتم جداً بهذا الجانب.

أحكي كشخص تعامل معه عن قرب. إنسان حقيقة لا تستطيع أن تصفه ولم أر إنساناً بمثل هذه الطباع. يصغي ويهتم ثم يوجه بالحل. عندما كنت أعرض عليه أمراً أقول له: الموضوع الفلاني كذا كذا. يصغي إلى أن أكمل، ثم يطرح علي ويقول لي: باعتبار هذا العمل عملك واختصاصك، ما هو رأيك؟ فأعطيه رأيي ويأخذ به.

من خلال عملي أسوق لك بعض الأمثلة حصلت معي. كان هناك مؤتمر للشعراء في عمّان، وذهب إليه الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، وهناك حصلت لقاءات مع عراقيين وغير عراقيين، وهناك من قال له: لماذا لا تبقى أو حاول أن يبقيه في عمّان. كان ذلك قبل الحرب بفترة قصيرة. الرجل ربما تأثر بالكلام الذي قالوه له وكتب رسالة إلى عائلته يحثها على الالتحاق به في عمان. رسالته وقعت في يد جهاز المخابرات. طبعاً أجهزتنا كانت، رغم ظروف الحصار، قوية. جاءتنا الرسالة. بعثتها المخابرات في كتاب وقالوا إن هذا ما حصل مع عبد الرزاق عبد الواحد وهو يحث عائلته على الالتحاق به في عمّان.

عائلة صدام وتبدو حلا إلى يساره (أ.ف.ب)

عادة عندما تأتيني أمور كهذه، كمكتب سكرتير، نقوم بالفعل التالي: نبحث، أو نطلب آراء مسؤولين وقياديين، مثل الأستاذ طارق عزيز والأستاذ طه ياسين رمضان أو الأستاذ عزت إبراهيم. كل المسؤولين الكبار نطلب رأيهم، وبعد أن يكتمل الرأي نعرض المسألة على السيد الرئيس. اكتمل الرأي ولكن كانت الآراء متشددة أن هذا كيف يروح وهذا كذا... كلام فيه قسوة نوعاً ما. نحن كنا ذاهبين إلى اجتماع مجلس الوزراء وكان الفريق عبد حمود، الله يرحمه، السكرتير وأنا وأحمد حسين، الله يفرج عنه، الآن هو في السجن، رئيس الديوان. قلت لهم أنا رأيي الشخصي إننا بدلاً من أن ندخل في هذه التفاصيل والمتاهات أفضل أن نكلف ضابطاً من المخابرات يحمل الرسالة ويذهب إلى عائلة الشاعر الكبير وينقل تحيات السيد الرئيس إلى العائلة ويقول لهم هذه الرسالة موجودة عندكم، إن كنتم تريدون مغادرة البلد نحن مستعدون لمساعدتكم، وأي مساعدة تريدونها لذلك فنحن حاضرون. أما إذا كنتم تحبون البقاء في بلدكم فهذا أمر يخصكم. اختاروا ما يريحكم.

وفعلاً وصلنا إلى السيد الرئيس قبل أن ندخل إلى اجتماع مجلس الوزراء وعرض هذا الرأي وقال السيد الرئيس نعم، ونعم الرأي. قال هذا هو الصحيح، لأن عبد الرزاق عبد الواحد رجل محسوب علينا وهو من الشعراء الكبار في العراق فلا يمكن أن نتصرف تصرفاً غير هذا التصرف الحكيم. وفعلاً أرسلنا شخصاً إلى عائلة عبد الرزاق عبد الواحد، والعائلة امتنعت عن الالتحاق به في الأردن ثم دعوه للعودة إلى العراق ورجع إلى العراق وفعلاً كتب قصيدة جميلة جداً قبل الاحتلال، للسيد الرئيس وكرمه عليها وأهداه سيارة.

وعندي مثلاً مرة أخرى أتذكر أنا كنت مناوباً في يوم عيد وجاءني أحد مرافقي السيد الرئيس وقال لي: السيد الرئيس يسأل كيف دخلت طيارات المفتشين (الدوليين على أسلحة الدمار الشامل في العراق) ومن أعطاهم موافقة بالدخول؟ قلت له: أنا أيضاً ليس لدي علم من أعطاهم موافقة وليس لدي شيء بهذا الاتجاه بل سمعت بالأخبار مثلما أنتم سمعتم، وكان الأستاذ طه ياسين رمضان هو المشرف في تلك المرحلة على موضوع التفتيش، فاتصلت به وسألته عن الموضوع فقال لي: تفضل إلى بيتي لنتحدث في الأمر. ذهبت إليه وكتب لي مطالعة وقال لي: أنا أعطيت الموافقة بحكم صلاحيتي الممنوحة لي كعضو مجلس قيادة الثورة، وأنا تصرفت وفق صلاحيتي، وفعلاً رفعناها إلى السيد الرئيس، فقال: فعلاً مارس الرجل صلاحيته.

رئيس التحرير غسان شربل خلال المقابلة مع جمال مصطفى السلطان (الشرق الأوسط)

لم يكن يعترض عندما يكون هناك شيء صحيح. وأتذكر عندما كلفني العمل في شؤون المواطنين قال لي إنك ستكون مسؤولاً عن هذا العمل وهذه مسؤولية أمام الله وأمامي، وإذا جاء أي مشتكٍ عراقي عليك أو بالأحرى على عدي وقصي تأتي بها إليّ مباشرة، فقلت له: تأمر سيدي. هذه أمانة وإن شاء الله لا أقصر فيها. وفعلاً بعد فترة من الزمن، سنتين أو ثلاثاً، جاء مواطن و(اشتكى عليّ)، قدّم طلب (شكوى عليّ) فحملت شكوى المواطن وذهبت إلى السيد الرئيس الله يرحمه وقلت له سيدي هذا الموطن اشتكى عليّ، فقرأ الشكوى وهمش عليها: تُشكّل لجنة للتحقيق والتأكد من هذا الكلام. وفعلاً تشكلت لجنة وحققت معه ومعي وتبيّن أن هذا الكلام كان مغلوطاً وغير دقيق وانتهى الأمر.

أذكر مرة جاءتني شكوى من مواطن من الناصرية (يشتكي على) المحافظ، وفعلاً قدّم الطلب وقرأت طلبه ورفعته إلى السيد الرئيس وكتب: تشكّل لجنة للتحقق من الموضوع، وفعلاً تبينت مصداقية المواطن والمحافظ كان قائماً بعمل غير صحيح تجاه المواطن ونُقل على أثرها».

صهر الرئيس

متى ذهبت إلى الرئيس صدام حسين لتطلب يد ابنته حلا؟ أجاب: «في عام 1994 ذهبنا أنا وأعمامي وأخوالي كالعادة. نحن في عُرفنا وعُرف العراقيين عامة عندما تتقدم لطلب امرأة تأخذ أسرتك. أعمامك وأخوالك، أي الناس القريبين منك، لأجل طلب التي تسعى للزواج منها. وفعلاً ذلك حصل كما يحصل مع العوائل العراقية الأخرى، ومثلما يحصل مع عشيرتنا بالذات.

نحن من قبيلة البوناصر، وهي من القبائل الكبيرة في العراق، ويقطن أفرادها في مناطق عدة منها صلاح الدين والفلوجة والبصرة وكركوك. أخذت عدداً من أسرتي وأعمامي وأخوالي. تحدث أحد أعمامي إلى السيد الرئيس وطلب الزواج من كريمته حلا للمعني وهو جمال مصطفى. وافق السيد الرئيس وكان مرحباً. وعلى الفور كان القاضي قريباً. أتينا به في ذات اللحظة التي وافق فيها السيد الرئيس. عقد القران وتغدينا عند السيد الرئيس - الله يرحمه - مع أعمامي وأخوالي والجميع ثم غادرنا. أتذكر أول لقاء حصل مع حلا في 12-9، ثم تم الزواج في 26-9. فترة قصيرة، ونحن عادة عندما تحصل الخطبة لا تطول الفترة للزواج، فتم الزواج ومشينا في هذا الطريق.

كان السيد الرئيس يفصل بين العمل الرسمي وعلاقاته العائلية. عمله كان مختلفاً عن العائلة نهائياً. والعائلة لا علاقة لها بالعمل السياسي والدولة. لا تتدخل في هذا الجانب. فالسيد الرئيس في العمل رجل دولة، وعندما يأتي إلى البيت يأتي كأب، أي يتعامل مع أسرته كأب وأب مثالي. وكل أسرة تتمنى أن يكون عندها أب بمستواه لأنه يعتني بأولاده من الصغير إلى الكبير، يهتم بكل عائلته. عندما يجلس إلى الغداء مثلاً هو بنفسه يصب الطعام ويسأل أولاده ماذا يريدون؟ يصب لكل واحد منهم ويهتم جداً بالعائلة وأسرته. الدولة شيء والأسرة شيء آخر. وهو في الوقت ذاته يتعامل مع العراقيين كأب للعراقيين كلهم ولا يميز بين عدي وفلان من العراقيين. يتعامل معهم بنفس الصيغة وذات الأسلوب وبذات العدالة. هذا هو صدام حسين.

كما ذكرت لك، أي شكوى يتعامل معها بحدية وعدالة عالية مع أبنائه أو غير أبنائه. يتعامل بعدالة متناهية، لأنه يسعى دوماً إلى أن يحقق العدل للعراقيين بصورة عامة ولا يسمح بأن يظلم عراقي أبداً. لم يسمح بأن يظلم عراقي مهما كان وفي أي نقطة من العراق. فهو رجل، الله يرحمه ويغفر له، كان يتعامل مع أولاده بشدة إذا قصّروا في أي اتجاه من الاتجاهات».

هوايات صدام حسين

أي نوع من الطعام كان صدام حسين، وماذا كانت هواياته؟ يقول: «هو رجل عربي أصيل كان يحب الأكلات العربية العراقية الأصيلة. كان دائماً يطبخ بيده أكلة الهبيط. كان يطبخها بطريقته. نحن تعلمنا منه هذه الطريقة التي تجعل طعمها مختلفاً عن الهبيط الذي يطبخ في العراق. أي يكون لها طعم خاص مميز. وهي لحم ومرقة وثريد الخبز. هذا هو الهبيط. وفي الوقت نفسه الأسماك، المسكوف الذي يحبه العراقيون. كان هو يعدّه.

كانت لديه هوايات مختلفة، مثلاً ركوب الخيل، الفروسية، ثم الصيد والسباحة والرماية. كان يحب الصيد بشكل متواصل وكان أحياناً قبل أن يذهب إلى جبهات القتال مع إيران، يحاول في منطقة العمارة التي فيها كثير من أنواع الصيد كصيد الغزال والوزّ، وكان أحياناً يصطاد وهو في الطائرة. من المروحية. أحياناً يكون في الطائرة ومثلاً يمر رف أوز على ذات المستوى، فيطلق النار على الأوز ثم تنزل طائرة أخرى تحمل ما تم اصطياده. كان يمارس هذه الهواية لفترة من الفترات. ولكن لاحقاً صار المكان بعيداً والظروف صعبة فراح يمارس هواية صيد السمك بشكل متواصل.

كان بارعاً في الرماية منذ صغره. نحن بحكم تكويننا العشائري، بصورة عامة، كل واحد من الأولاد عندما يكبر قليلاً يبدأون في تعليمه الرماية ويكون رامياً جيداً. هذا هو تكويننا. في الوقت نفسه كان قارئاً كبيراً. يقرأ بشكل متواصل، دائماً يقرأ ويكتب أيضاً».

سألته عن الشاعر الذي أحبه صدام، فأجاب: «بصورة عامة كان يحب الاستماع إلى الشعراء. كان شعراء عراقيون كثيرون يسمعهم، مثلاً عبد الرزاق عبد الواحد كان من فحول الشعراء العراقيين، وكثيرون مماثلون كان يسمعهم، وبعضهم كانت له علاقة معهم.

لا أعتقد أن علاقة قوية ربطته بمحمد مهدي الجواهري. الجواهري أصوله فارسية، والرجل على مر العصور يختلف مع كل حكومة تأتي لأجل الاختلاف لا لأجل مصلحة عامة، بل لأجل مصالح شخصية، فيختلف مع كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم في العراق. لا يختلف لأجل الوطن إنما اختلاف شخصي ولأجل مآرب شخصية».