طبيبان نفسيان لثلاثة ملايين شخص في إدلب

تعتمد المراكز الطبية على تقديم الدعم من خلال العاملين المدربين

TT

طبيبان نفسيان لثلاثة ملايين شخص في إدلب

الطفل عبد السلام قرب نافذة تطل على مخيم يقيم فيه بعد نزوحه من قريته التي عاش فيها صدمة مقتل أقاربه بغارات (الشرق الأوسط)
الطفل عبد السلام قرب نافذة تطل على مخيم يقيم فيه بعد نزوحه من قريته التي عاش فيها صدمة مقتل أقاربه بغارات (الشرق الأوسط)

يعاني عبد السلام من نوبات الهلع منذ أن شهد وفاة عمه وابنة عمه وإصابة زوجة عمه بالقصف الذي أصاب قريته قبرفضة في ريف حماة منذ تسع سنوات، وردد الطفل البالغ من العمر 13 عاماً خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» بعضاً من تفاصيل المشهد الدموي الذي لم يفارق مخيلته، حين أصيب أيضاً باحتشاء لعضلة القلب نتيجة وقوع حجر كبير على ظهره.

بدأ عبد السلام قبل عدة أشهر، زيارة معالجة نفسية في المركز الطبي التابع للمخيم الذي يقيم فيه في بلدة كيللي بريف إدلب الشمالي. وكان الهدف هو علاج الآثار الجسدية التابعة لمخاوفه المستمرة، مثل التبول اللاإرادي وضعف الرؤية. «تتحدث المعالجة عما يجري معي وتقول إن عليّ ألا أتخيل شيئاً ولا أشاهد أفلام الرعب»، يقول عبد السلام مشيراً إلى تحسنه التدريجي.

أطفال في مخيم يؤوي نازحين بريف محافظة إدلب بشمال غربي سوريا (الشرق الأوسط)

خلال سنوات الحرب الـ12 التي مرت على سوريا بداية مارس (آذار) 2011، والتي شهدت دمار 50 بالمائة من المنشآت الصحية وهجرة أكثر من 70 في المائة من الكوادر الطبية، لم يكن العلاج النفسي يحظى بالاهتمام والأولوية مقارنة بخدمات العلاج الجسدية الطارئة.

في إدلب والمناطق التي حولها، حيث يحتاج 46 بالمائة لخدمات الرعاية النفسية، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، تعتمد المراكز الطبية على تقديم الدعم النفسي من خلال عاملي الرعاية الصحية الحاصلين على تدريبات للتعامل مع بعض الاضطرابات، في حين لا يوجد في المنطقة التي تضم أكثر من ثلاثة ملايين شخص سوى طبيبين نفسيين متخصصين فقط.

حالة عبد السلام ليست فريدة في المنطقة، «فقد لا يخلو طفل بشمال غربي سوريا من اضطرابات نفسية»، بحسب الطبيب النفسي الدكتور موفق عموي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن هنالك انتشاراً لحالات الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، وصولاً إلى الاضطرابات الذهنية كحالات الفصام.

د. موفق عموري من الأطباء النفسيين القلائل في شمال غربي سوريا في عيادته الخاصة بمدينة إدلب (الشرق الأوسط)

صدمات متتالية

وبرأي الطبيب موفق، فإن السنوات الطويلة للحرب «غير المتكافئة» والتي شهدت استخداماً مفرطاً للقوة، كانت سبباً لانتشار الخوف ومعاناة الناس، إضافة إلى الحزن والكرب الذي رافق سقوط الضحايا والنزوح وفقد الممتلكات والاضطرار للعيش بالمخيمات، وسط ضغوط الفقر والبطالة والتشتت الأسري، و«غياب أفق الحل»... كلها عوامل زادت من نسبة الاضطرابات النفسية عند البالغين والأطفال معاً.

إصابة رجل وطفله في القصف على جسر الشغور أكتوبر الماضي (د.ب.أ)

اليوم يوجد في إدلب 3.2 مليون شخص، بينهم أكثر من مليوني نازح ومهجر، يعيش منهم نحو مليون ونصف المليون في المخيمات، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، كما أن استمرار حالات التصعيد يقود لمزيد من النزوح والصدمات المتكررة لدى السكان؛ إذ كان أثر حملة القصف التي طالت عشرات المراكز السكنية في إدلب بداية أكتوبر (تشرين الأول)، وتسببت بمقتل العشرات وإصابة المئات، إضافة إلى نزوح أكثر من 68 ألف شخص، أن تعرض 19 بالمائة من سكان تلك المناطق لصدمة نفسية، وقد اختاروا الدعم النفسي كثاني أهم احتياجاتهم بعد توقف القصف.

مخيم للناجين من الزلزال في جنديرس بشمال سوريا (رويترز)

مدير مديرية الصحة، الدكتور زهير قراط، أشار أيضاً إلى دور الزلزال، الذي حصل في فبراير (شباط) الماضي وأدى لمقتل أكثر من 4.5 ألف شخص، وإصابة نحو 10.5 ألف آخرين، ودمار أكثر من 10.6 ألف مبنى في شمال غربي سوريا، بازدياد الأمراض النفسية.

وقال الدكتور قراط لـ«الشرق الأوسط»: «هنالك عدد كبير من المدمنين على الأدوية سواء في القطاع الطبي أو المدنيين، كانوا من مصابي الزلزال بجروح كبيرة أو تعرضوا لبتر الأطراف، ما ولّد لديهم إدماناً على الأدوية وعلى المسكنات».

وحدة الدعم النفسي في منظمة «بنفسج» الخيرية نظمت فعاليات للأطفال النازحين في مخيم بقرية كيلي في إدلب مايو 2022 (أ.ف.ب)

الفجوة بين الحاجة والخدمة

لا إحصاءات دقيقة لدى مديرية الصحة في إدلب حول أعداد المرضى النفسيين؛ لأن العديد من الحالات يتجه إلى العيادات الخاصة أو يعتمد على «الرقى الشرعية». والبعض يعمد لإخفاء إصاباتهم أو من حولهم بمتاعب نفسية خشية الآراء المجتمعية، بحسب الدكتور زهير قراط.

دواء لمريض مصاب بنوبات الهلع لعلاج الآثار الجسدية نتيجة الصدمة النفسية (الشرق الأوسط)

يوافق الدكتور موفق عموري على ذلك، بالقول إن العادات والثقافة المجتمعية تجعل من مراجعة الطبيب النفسي «وصمة» اجتماعية للمرضى، ما يحرم أعداداً كبيرة من العلاج، إلا أن ذلك لا يغير من واقع أن أعداد المراجعين الكثيرة تتطلب جهوداً أكبر للتلبية.

إحباط العاملين

وكانت منظمة «MedGlobal» العالمية، قد أجرت تقييماً لاحتياجات الرعاية النفسية في شمال غربي سوريا، ما بعد الزلزال، وذكرت في تقريرها أن هنالك حاجة لتدريب الكوادر العاملة على الأرض، لزيادة نسبة المتخصصين وتلبية احتياجات المرضى وتخفيف العبء عن العاملين في مجال الصحة النفسية؛ إذ إن أكثر من 42 بالمائة منهم يعانون من «الإحباط» في عموم سوريا.

أرشيفية لتشييع أطفال في ريف إدلب قُتلوا بقصف طيران سوري (أ.ف.ب)

مدير برنامج «MedGlobal» في سوريا، مصطفى العيدو، قال لـ«الشرق الأوسط» إن المنظمات غالباً ما تتجه لتمويل القطاعات المرتكزة على الاستجابة الطارئة، بسبب اضطراب الأوضاع الأمنية المستمر في شمال غربي سوريا، إضافة إلى صعوبة الوصول الآمن لبعض المناطق الخطرة، ما حال دون تقديم خدمات الصحة النفسية لها.

ووفقاً لتقييمات المنظمة، فإن قطاع الصحة النفسية بحاجة لمزيد من التمويل ولإطلاق حملات توعية فعالة للمجتمع حول أهمية الصحة النفسية والتخفيف من الوصمة، إضافة إلى تدريب المهنيين الصحيين مع الإشراف والمتابعة، وتطوير استراتيجيات للوصول إلى المناطق النائية والمجتمعات المتضررة.

وحذر العيدو من أن إهمال الرعاية الصحية، سيقود إلى زيادة حالات الاكتئاب والقلق والضغوط النفسية بين السكان، وهو ما يؤثر بدوره على الصحة الجسدية، ويجعل المرضى أكثر عرضة للمشكلات الصحية، ويزيد التأخير بالعلاج من تعقيد الحالات وتكلفة الاستجابة لعلاجها.


مقالات ذات صلة

بعد هجوم تدمر... قيادات إيرانية تتحرك من سوريا نحو العراق

المشرق العربي تشييع اثنين من ضحايا هجوم تدمر في الحطابية بمحافظة حمص الجمعة (متداولة)

بعد هجوم تدمر... قيادات إيرانية تتحرك من سوريا نحو العراق

أنباء عن مغادرة قياديين في «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيات تابعة لإيران، الأراضي السورية متجهة إلى العراق؛ خشية تعرضهم للاستهداف.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي رجال أمن وإنقاذ في موقع استهدفته غارة إسرائيلية في دمشق (أرشيفية - أ.ب)

تحذير أممي من انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي واسع»

رأت نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، نجاة رشدي، أن منطقة الشرق الأوسط تشهد «خطراً عميقاً»، ودعت إلى «عمل حاسم» لمنع انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي».

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان متحدثاً في البرلمان التركي (الخارجية التركية)

أنقرة: الأسد لا يريد عودة السلام في سوريا

أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن الرئيس السوري لا يريد السلام في سوريا، وحذر من أن محاولات إسرائيل لنشر الحرب بدأت تهدد البيئة التي خلقتها «عملية أستانة».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي هاربون من الحرب بلبنان يعبرون منطقة المصنع التي استهدفتها إسرائيل (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة: الغارات على تدمر هي «على الأرجح» الأسوأ في سوريا

قالت نجاة رشدي، نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، أمام مجلس الأمن: «ازدادت الغارات الإسرائيلية في سوريا بشكل كبير، سواء من حيث الوتيرة أو النطاق».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
خاص عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

خاص كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

تسبب الوجود السوري المتنامي بمصر في إطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد مشروعاتهم الاستثمارية.

فتحية الدخاخني (القاهرة )

إسرائيل تملأ غياب هوكستين بالغارات والتوغلات

دبابة إسرائيلية على مثلث مرجعيون - ديرميماس - القليعة قرب نهر الليطاني بجنوب لبنان (متداول)
دبابة إسرائيلية على مثلث مرجعيون - ديرميماس - القليعة قرب نهر الليطاني بجنوب لبنان (متداول)
TT

إسرائيل تملأ غياب هوكستين بالغارات والتوغلات

دبابة إسرائيلية على مثلث مرجعيون - ديرميماس - القليعة قرب نهر الليطاني بجنوب لبنان (متداول)
دبابة إسرائيلية على مثلث مرجعيون - ديرميماس - القليعة قرب نهر الليطاني بجنوب لبنان (متداول)

تملأ إسرائيل غياب الموفد الرئاسي الاميركي آموس هوكستين الذي يحمل مبادرة أميركية لوقف إطلاق النار، بالغارات العنيفة، وتوسعة رقعة التوغل البري الذي وصل إلى مشارف مجرى نهر الليطاني، في محاولة لفصل النبطية عن قضاء مرجعيون.

وفيما انتقل هوكستين إلى واشنطن من دون الإدلاء بتصريحات حول زيارته إسرائيل، أكدت مصادر لبنانية لـ«الشرق الأوسط» أنَّ الموفد الأميركي «بقيَ على تواصل مع المفاوضين اللبنانيين»، مشيرة إلى أنَّ المحادثات لوقف النار «تتقدم ببطء، لكن بثبات في اتجاه إيجابي».

ميدانياً، وصلت القوات الإسرائيلية إلى بلدة ديرميماس، انطلاقاً من بلدة كفركلا، ما يعني أنَّها سارت على طريق لنحو 5 كيلومترات في العمق اللبناني، لتصل إلى مشارف الليطاني، بعد تمهيد ناري بالمدفعية وغارات جوية نفذتها طائرات حربية ومسيّرات. وقال «حزب الله»، في المقابل، إنَّه استهدف تلك القوات في النقاط التي وصلت إليها.

بالموازاة، كثفت إسرائيل غاراتها الجوية على ضاحية بيروت الجنوبية، واستهدفت الأحياء المسيحية المقابلة للضاحية في عين الرمانة والحدت، وهي خطوط التماس السابقة في الحرب اللبنانية، وذلك عقب إنذارات وجهها الجيش للسكان بإخلاء الأبنية.