عدم التماثل في الحروب... غزّة نموذجاً جديداً

حرب المدن تخدم اللاعب من خارج إطار الدولة... لكن الجميع في مأزق

آلية إسرائيلية في شمال قطاع غزة المدمر (أ.ف.ب)
آلية إسرائيلية في شمال قطاع غزة المدمر (أ.ف.ب)
TT

عدم التماثل في الحروب... غزّة نموذجاً جديداً

آلية إسرائيلية في شمال قطاع غزة المدمر (أ.ف.ب)
آلية إسرائيلية في شمال قطاع غزة المدمر (أ.ف.ب)

عدم التماثل (Asymmetry) واقع مرافق لحياة الإنسان منذ البدء. هو موجود وفاعل في كلّ علاقات البشر بين بعضهم بعضاً. يصف بعضهم عدم التماثل بأنه يعكس العلاقة بين القويّ والضعيف. هو علاقة نشأت بين داود من جهّة، وجوليات العملاق من جهّة أخرى، فقط لتبيّن أن للضعيف في بعض الأحيان فرصة الانتصار على القويّ. وفي الحدّ الأدنى منعه من حسم المعركة لصالحه. وعليه؛ لزم على الضعيف أن يؤمّن الإرادة السياسيّة، والاستراتيجيّة الصحيحة، وأيضاً وسائل التنفيذ الضروريّة.

يوجد عدم التماثل حتى بين القوى العظمى. ففي كلّ الجيوش التقليديّة، يتواجد عدم التماثل. بكلام آخر، كلّ الجيوش التقليديّة تقاتل تقليدياً، كما تقاتل بطريقة «عدم التماثل». وإلا فما معنى تواجد القوات الخاصة التي تقاتل خلف خطوط العدو في أيّ جيش عصريّ؟

التنظيمات من خارج إطار الدولة

الغارات الإسرائيلية حوّلت أجزاء من بيت لاهيا بشمال قطاع غزة إلى أنقاض (د.ب.أ)

يقول المفكّر الأميركيّ، ستيفن بيدل إن الجدل يدور الآن حول طريقتيّ قتال مختلفتين بين اللاعب من خارج إطار الدولة (NSA) من جهّة، وبين جيوش الدول من جهّة أخرى. فهناك طريقة القتال حسب أسلوب فابيان (Fabian)، وهو الإمبراطور الرومانيّ الذي قاتل هانيبعل في الحرب البونيّة الثانية. ترتكز هذه الطريقة على القتال الذي يهدف إلى استنزاف قدرات العدو على فترات طويلة، لكن دون التورّط بمعركة فاصلة وحاسمة.

كما أن هناك طريقة القتال حسب أسلوب نابليون بونابرت (أيضاً حسب المفكر ستيفن بيدل) الذي اقترح مهاجمة العدو عبر ضربات متتالية ومتسارعة، وبعدها الانتقال إلى مرحلة الحسم النهائيّة، وذلك عبر استعمال قوى الاحتياط. نجحت استراتيجيّة نابليون فقط لأنها اعتمدت على العدد، أي الجيش الكبير (La Levee en Masse).

في القرن الـ21 تظهّر لاعب جديد - قديم على الساحة العسكريّة والسياسيّة، ألا وهو اللاعب من خارج إطار الدولة (Non State Actor).

يقول المفكّرون الاستراتيجيّون إن من بين أسباب عودة اللاعب من خارج إطار الدولة إلى المسرح الحربيّ في القرن الـ21: انتشار وسهولة الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، والتي كانت حكراً على الدول فيما مضى. التحضّر السريع (Urbanization) للانتشار السكّاني والانتقال من الريف إلى المدن. وأخيراً وليس آخرا، خفض الدول لعدد جيوشها بشكل كبير؛ الأمر الذي دعا مَن هم خارج إطار الدولة إلى التحصّن داخل المُدن وخلقَ بالتالي وضع عدم تماثليّ أو أنشأ ما يُعرف بـ«دولة داخل الدولة».

جنود إسرائيليون خلال المعارك ضد "حماس" شمال غزة (أ.ف.ب)

الدولة واللاعب من خارج إطار الدولة

وهنا، يُطرح موضوع النمط الجديد للدولة في تعاملها مع اللاعب من خارج إطار الدولة.

في النمط المتكرّر يمكن رصد الآتي:

نجحت المُنظّمات من خارج إطار الدولة في خلق كيانات سياسيّة لها، وأهمها السيطرة على الأرض، وكذلك البنى التحتيّة لإدارة هذه الكيانات، سواء سُمّيت التنظيمات الإرهابيّة أو غير ذلك من التسميات. لكن عندما قرّرت الدولة استعادة الأرض والقضاء على هذه التنظيمات، فإنها كانت مُرغمة على القتال داخل المُدن. ولذلك؛ سعت الدولة وبالقوّة العسكريّة إلى حصر هذه التنظيمات في الأماكن السكنيّة، وبالتالي التعامل معها عسكريّاً.

وبذلك، تتظهّر نقاط القوة لدى الطرفين. في حصار المدن، تملك الدولة القدرات الناريّة، اللوجيستيّة، كما التفوّق العددي، والشرعيّة اللازمة للتعامل مع مشاكلها الداخليّة. في المقابل، يُعدّ القتال داخل المدن مُكلفاً للدولة، لكنه عامل قوّة للتنظيمات. إذ تعدّ التنظيمات أن الدروع البشريّة، كما الهندسة المُدنيّة، هما عامل قوّة لها. فهي تُضحّي بكلّ شيء من أجل الاستمرار. فهي تربح إذا لم تخسر. وبسبب هذه الأمور، يدفع البشر ثمن الاقتتال من مالهم وأرواحهم.

 

دمار جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس بجنوب قطاع غزة (رويترز)

إذاً يكون نمط التعامل بين الدولة والتنظيمات على الشكل التالي: إخراج التنظيمات من خارج المدينة، ودفعها إلى الداخل. الحصار الكلّي للمدينة. محاولة تدمير مراكز ثقل هذه التنظيمات، من بنى تحتيّة بشريّة وماديّة. ولأن هذه التنظيمات تقاتل بطريقة حرب العصابات، يكون التدمير كبيراً للمدينة. وفي حال انتصار الدولة، يدفع الكلّ الأثمان الباهظة، خاصة في صفوف المدنيّين. تكرّر هذا النمط في معركة نهر البارد في لبنان بين الجيش والتنظيمات الإرهابيّة التي تحصنت في هذا المخيم الفلسطيني شمال لبنان. كما تكرّر في كلّ مدينة حُرّرت من سيطرة تنظيم «داعش»، من الموصل في العراق إلى الرقة في سوريا، مروراً بالكثير من المدن الصغيرة التي كانت تحت حكم هذا التنظيم في أوجه نفوذه.

حرب غزّة اليوم

تتماثل حرب غزّة مع الحروب المُدنيّة الأخرى بالكثير من الأمور. فهي تحصل في أماكن سكنيّة. وبين لاعب من خارج إطار الدولة، وضد دولة تطوّق هذا اللاعب أو التنظيم. تملك الدولة أحدث جيوش العالم، وتستعمل أكبر قدر ممكن من القوة الناريّة؛ الأمر الذي يؤديّ إلى قتل المدنيين، وإلحاق تدمير شامل بالمدينة. هدف المتقاتلين هو التدمير الكامل والشامل للآخر. لا تستطيع «حماس» تدمير دولة إسرائيل. في المقابل، تدمير التنظيم لا يلغي القضيّة.

حالياً، الكلّ في مأزق، فماذا بعد الوقفة الإنسانيّة؟ هل ستعود الحرب؟ وإذا توقّفت، فماذا عن الأهداف الإسرائيليّة، وماذا عن الأهداف الأميركيّة أيضاً؟ وكيف تصف «حماس» نصرها؟ فهل هو فقط بالصمود والاستمرار؟ وكيف تترجم «حماس» ما فعلته إلى البُعد السياسيّ؟

في الختام، يقول علماء الاجتماع: إن المماطلة (Procrastination) صفة بشريّة، وهي تؤدّي إلى تعقيد تنفيذ الأمور الحياتيّة للفرد. فإذا كان عمل ما يتطلّب وقتاً وجهداً محدّدين، فمن المفروض عدم المماطلة؛ لأن الأمر قد يُدخل إلى معادلة الحلّ والتنفيذ تعقيدات لم تكن محسوبة أصلاً ليخرج الأمر عن السيطرة. ماطلت إسرائيل بعد المبادرة العربية في بيروت عام 2002 لحل القضيّة الفلسطينيّة. وها هي تدفع الأثمان الكبيرة بعد دخول عوامل كثيرة إقليميّة إلى معادلة الحلّ لتتعقّد أكثر. ولعل أهم هذه العوامل هو عامل اللاعبين من خارج إطار الدولة.


مقالات ذات صلة

الحوثيون يعلنون استهداف 193 سفينة على مدى عام من الحرب في غزة

العالم العربي صورة نشرتها جماعة الحوثي تُظهر اشتعال النيران في ناقلة نفط بعد إصابتها بصاروخ في البحر الأحمر (رويترز)

الحوثيون يعلنون استهداف 193 سفينة على مدى عام من الحرب في غزة

أعلن زعيم المتمردين الحوثيين في اليمن عبد الملك الحوثي، اليوم (الأحد)، استهداف 193 سفينة مرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا «إسناداً لغزة» منذ عام.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في غزة خليل الحية (أرشيفية - رويترز)

«حماس»: إسرائيل تعرقل مساعي التوصل لوقف إطلاق النار

قال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في غزة، خليل الحية، اليوم (الأحد)، إن إسرائيل لا تزال تعرقل مساعي التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية عائلات المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة يتظاهرون ضد حكومة نتنياهو (أرشيفية - رويترز)

بعد عام من 7 أكتوبر... تضارب روايتي أسر القتلى الإسرائيليين والحكومة «حول ما حدث»

تقيم عائلات إسرائيلية، الاثنين، مراسم تأبين مباشرة لذويها الذين سقطوا في هجوم «حماس» على إسرائيل في أكتوبر الماضي، بينما ستبث الحكومة مراسم مسجلة إحياء للذكرى.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس (أ.ب)

شولتس يدعو لوقف إطلاق النار في الشرق الأوسط

دعا المستشار الألماني أولاف شولتس، مجدّداً، الأحد، إلى وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط، عشية الذكرى الأولى لهجوم حركة «حماس» على إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (برلين)
تحليل إخباري نتنياهو يصافح ماكرون في القدس أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

تحليل إخباري ماذا وراء الخلاف الحاد بين نتنياهو وماكرون؟

أزمة حادة بين ماكرون ونتنياهو، والإليزيه يسعى لتطويقها... ورسالة فرنسية ضمنية إلى بايدن تدعوه «للانسجام» في المواقف.

ميشال أبونجم (باريس)

سوريا: غارات إسرائيلية تصيب مواقع للجيش في وسط البلاد

قصف إسرائيلي سابق لضواحي دمشق (رويترز)
قصف إسرائيلي سابق لضواحي دمشق (رويترز)
TT

سوريا: غارات إسرائيلية تصيب مواقع للجيش في وسط البلاد

قصف إسرائيلي سابق لضواحي دمشق (رويترز)
قصف إسرائيلي سابق لضواحي دمشق (رويترز)

أعلنت وزارة الدفاع السورية أن ضربات جوية إسرائيلية أصابت مواقع عسكرية في وسط البلاد، اليوم (الأحد)، مؤكدة أن الخسائر اقتصرت على الماديات.

ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، نفّذت إسرائيل مئات الضربات في البلاد، استهدفت بشكل رئيسي مواقع للجيش وفصائل مدعومة من إيران، من بينها «حزب الله» اللبناني.

ووفق ما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية، تزايدت الضربات في الأيام الأخيرة، وشملت مناطق قريبة من الحدود مع لبنان.

وقالت وزارة الدفاع السورية في بيان إنه «حوالي الساعة 20:05 (17:05 بتوقيت غرينتش) مساء اليوم شن العدو الإسرائيلي عدواناً جوياً من اتجاه شمال لبنان مستهدفاً عدداً من المواقع العسكرية في المنطقة الوسطى ما أدى إلى وقوع خسائر مادية».

كانت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) قد أفادت في وقت سابق عن التصدي «لأهداف معادية في أجواء المنطقة الوسطى».

من جهته، تحدث مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن عن «غارات إسرائيلية» على «مستودع أسلحة جنوب حمص ومخزن صواريخ في ريف حماة الشرقي»، مضيفاً أن المواقع كلها تابعة للجيش السوري.

وفي وقت سابق (الأحد)، استهدفت غارة إسرائيلية في سوريا شاحنات تنقل مساعدات للشعب اللبناني، ما أدى إلى إصابة ثلاثة من عمال الإغاثة، بحسب المرصد.

وقالت السلطات اللبنانية (الجمعة) إن غارة جوية إسرائيلية أدت إلى قطع الطريق الدولي الرئيسي الذي يربط البلدين، وتحديداً عند نقطة المصنع الحدودية (شرق).

ونادراً ما تعلق السلطات الإسرائيلية على ضربات بعينها في سوريا، لكنها قالت مراراً إنها لن تسمح لعدوتها اللدود إيران بترسيخ وجودها في البلد المجاور.

ودخل عشرات الآلاف من الأشخاص إلى سوريا خلال الأسبوع الماضي، هرباً من الغارات الجوية الإسرائيلية العنيفة على لبنان.