سكان غزة... مخاوف من «الموت عطشاً»

انقطاع الكهرباء والوقود عطّل تشغيل محطات المياه وفاقم الأزمة

مركز لتعبئة المياه في قطاع غزة (الشرق الأوسط)
مركز لتعبئة المياه في قطاع غزة (الشرق الأوسط)
TT

سكان غزة... مخاوف من «الموت عطشاً»

مركز لتعبئة المياه في قطاع غزة (الشرق الأوسط)
مركز لتعبئة المياه في قطاع غزة (الشرق الأوسط)

على عربات صغيرة أو على دراجاتهم الهوائية، يحمل فتية صغار غالونات بلاستيكية نحو محطة صغيرة لتحلية المياه وسط مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة علّهم يجدون ما يسد حاجة عائلاتهم من مياه الشرب على وقع الأزمة المتفاقمة التي خلفتها الحرب المتصاعدة في القطاع. وأمام المحطة، يصطف عشرات السكان، بمن في ذلك كبار السن والفتية، للحصول على المياه بعد أن قطعت إسرائيل إمداداتها منذ بداية الحرب، كما قطعت الكهرباء وإمدادات الوقود اللازمة لتشغيل محطات المياه ومضخاتها، ما فاقم أزمة المياه في غزة، وأثار مخاوف من وصول حدة الأزمة إلى درجة موت السكان عطشاً.

يقول أحمد، وهو من سكان خان يونس، لـ«الشرق الأوسط» إن الحرب خلّفت وضعاً كارثياً طال جوانب الحياة الأساسية لا سيما قطاع المياه، ويشرح بينما ينهمك بجر عربة حديدية صغيرة تحمل غالونات صفراء ملأها من المحطة بعد طول انتظار، إنه يضطر للمخاطرة والتحرك من بيته تحت القصف للحصول على المياه التي ينقلها على أشواط عدة كي يملأ الخزان في بيته الذي بات الآن يضم مع عائلته 25 شخصاً من أقاربه الذين نزحوا من مناطق سكنهم الأصلية. ويضيف: «لدينا أزمة مياه غير مسبوقة في غزة، وما فاقمها أيضاً الضغط الذي خلّفه وصول أعداد كبيرة من السكان من المناطق الأخرى. الأزمة الخانقة التي نعاني منها لا تقتصر على المياه فحسب، بل تطول الخبز والكهرباء والغاز وكل شيء».

قطاع غزة يواجه أزمة مياه شديدة (الشرق الأوسط)

تحاول السلطات المحلية في قطاع غزة جاهدة، رغم ظروف الحرب الصعبة، الاستجابة لاحتياجات السكان من المياه. وتمثّل الآبار الجوفية مصدر المياه الرئيسي في قطاع غزة، لكن العمل توقف أو تعطّل بشكل كبير بسبب انقطاع الكهرباء، وعدم توافر الوقود اللازم لتشغيل المولدات.

يقول المهندس منذر شبلاق مدير عام مصلحة مياه الساحل في غزة، ومسؤول لجنة الطوارئ لقطاع المياه لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة تفاقمت حين قررت إسرائيل قطع الكهرباء عن قطاع غزة مع بداية الحرب، «فلجأنا لاستخدام المولدات التي تعمل بالسولار لضخ المياه، الأمر الذي استمر نحو 3 أيام، إلا أنه مع قرار إسرائيل الاستمرار بقطع الكهرباء وإمدادات الوقود بدأت المعاناة تزداد». ويشير المهندس شبلاق إلى أن محطتي تحلية اثنتين تعملان فقط حالياً وبنصف طاقتهما في منطقتي وسط القطاع وجنوب الوسط، بينما المحطة الثالثة تقع في المنطقة الشمالية التي ما عاد ممكناً الوصول إليها؛ إذ باتت في نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية. وكانت هاتان المحطتان توفران المياه لربع مليون شخص في هذه المناطق قبل الحرب، أما الآن فهي تكافح للاستجابة لاحتياجات مئات آلاف السكان الذين نزحوا من مناطقهم نحو الوسط.

فتية عند مركز لتعبئة المياه في قطاع غزة (الشرق الأوسط)

ويوضح المهندس شبلاق أن الأزمة خانقة، محذراً من أنه إذا استمرت الحال كذلك في ضوء نقص إمدادات الوقود فلن تكون السلطات المحلية قادرة على توفير إمدادات المياه للسكان، مشيراً إلى «أننا الآن نعمل بكل الإمكانات المتاحة لتفادي موت الناس من العطش»، مضيفاً أن بعض المناطق لم تصلها المياه منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وأخرى وصلتها المياه مرة واحدة في أحسن الأحوال، وكلها إمدادات إما نُقلت بالشاحنات وإما حُملت من السكان أنفسهم.

وكان وزير الطاقة الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، قد أعلن قبل أيام استئناف إمدادات المياه لقطاع غزة، إلا أن المهندس شبلاق أوضح أن هذه المناطق التي تغطيها الإمدادات الإسرائيلية شرق القطاع أُفرغت من سكانها، وما عاد ممكناً الوصول إليها.

غالونات ماء تُنْقَل على متن عربة خشبية (الشرق الأوسط)

ولجأت سلطات المياه في غزة إلى استخدام صهاريج المياه في محاولة للتعاطي مع الأزمة، وإيصال المياه للمناطق التي تعاني من النقص، لا سيما المدارس التي باتت تضم مئات آلاف النازحين، إلا أن «الصهاريج المتوافرة هي 4 صهاريج فقط، وهي أيضاً يلزمها السولار لتظل قادرة على العمل، وملؤها وإفراغها يستغرقان وقتاً، لكن الأخطر هو أنها تعمل وتتحرك تحت القصف. الأمر غاية في التعقيد»، وفق ما يشير إليه المهندس شبلاق.

وإلى جانب محطات المياه التي تعمل بالكهرباء أو الوقود، يعمل عدد محدود من المحطات في غزة بالطاقة الشمسية لتوفير مياه الشرب. يشرح المهندس جهاد الجبور، مالك إحدى هذه المحطات، لـ«الشرق الأوسط» أن المصدر الوحيد لمياه الشرب هو الخزان الجوفي، لكن في ظل انقطاع التيار الكهربائي والسولار، وعدم القدرة على تشغيل المولدات، يتفاقم العجز القائم أساساً قبل الحرب، والذي كان يصل إلى 95 في المائة في مياه الشرب. ويضيف أن بعض المحطات التي تعمل على الطاقة الشمسية هي الوحيدة حالياً القادرة على العمل، ولكن لمدة محدودة ومرتبطة بالظروف الجوية، موضحاً أنه «في اليوم الماضي مثلاً لم نستفد من الطاقة الشمسية ساعة واحدة، وبالتالي اضطُررنا إلى تشغيل مولد يحتاج إلى السولار غير المتوافر حالياً. هذا الواقع قد يدفعني لإغلاق المحطة في أي لحظة».

غزة تواجه أزمة عطش (الشرق الأوسط)

وتشير السلطات إلى أن آبار المياه والمحطات الأخرى لم يصلها السولار منذ بداية الحرب، وهي تحتاج في الظروف الطبيعية إلى 20 ألف لتر من الوقود يومياً، وفقاً للتقديرات الرسمية. وتقول سلطة المياه إن بعض إمدادات الوقود وصلت من المخزون الاحتياطي للأمم المتحدة و«الصليب الأحمر» إلا أنها لم تتمكن من تغطية سوى جزء يسير من احتياجاتها. ويوضح المدير العام لسلطة المياه أن هناك وعوداً من الجهات الأممية والمنظمات الإنسانية بالعمل على إدخال الوقود، لكن «ما لم يحدث ذلك خلال اليومين المقبلين فسنكون أمام كارثة حقيقية».

وبينما تتركز عمليات إيصال المياه في مناطق وسط القطاع وجنوبه، تعاني المناطق الشمالية من نقص حاد؛ حيث أضحت مهمة إيصال المياه إليها معقدة ومحفوفة بالمخاطر. يقول المهندس شبلاق إن هناك «مخاوف عميقة من استهداف شاحناتنا بالطيران في حال تحركت إلى الشمال، ولدينا خشية حقيقية من أن من لم يمت من السكان بالقصف قد يموت من العطش».


مقالات ذات صلة

صرخة جندي عائد من غزة: متى سيستيقظ الإسرائيليون؟

شؤون إقليمية جنود في مقبرة بالقدس خلال تشييع رقيب قُتل في غزة يوم 20 نوفمبر (أ.ب)

صرخة جندي عائد من غزة: متى سيستيقظ الإسرائيليون؟

نشرت صحيفة «هآرتس» مقالاً بقلم «مقاتل في جيش الاحتياط»، خدم في كل من لبنان وقطاع غزة. جاء المقال بمثابة صرخة مدوية تدعو إلى وقف الحرب.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي فلسطينيون يؤدون صلاة الجمعة على أنقاض مسجد مدمر في خان يونس بجنوب قطاع غزة (إ.ب.أ)

لا أمل لدى سكان غزة في تراجع الهجمات بعد أمري اعتقال نتنياهو وغالانت

لم يشهد سكان غزة، الجمعة، ما يدعوهم للأمل في أن يؤدي أمرا الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت إلى إبطاء الهجوم على القطاع الفلسطيني، مع إعلان مقتل 21 شخصاً على الأقل.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد جنوده في معارك بشمال غزة

أعلن الجيش الإسرائيلي، الخميس، مقتل أحد جنوده في معارك في شمال قطاع غزة. وأضاف أن الجندي القتيل يدعى رون إبشتاين (19 عاماً) وكان ينتمي إلى لواء غيفعاتي.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
العالم العربي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت (أرشيفية - رويترز)

«حماس» تُرحّب بمذكرتي توقيف نتنياهو وغالانت وتصفهما بخطوة «تاريخية»

رحّبت حركة «حماس»، اليوم (الخميس)، بإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية النائب الإسرائيلي غادي آيزنكوت (رويترز)

آيزنكوت يتهم إسرائيل بـ«فشلها في خطة الحرب على غزة بشكل خطير»

قال النائب عن حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، إن خطة إسرائيل لحربها ضد «حماس» في غزة «فشلت بشكل خطير»، واتهم الحكومة الإسرائيلية بالضياع.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)
الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)
TT

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)
الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)

يتعامل الأردن مع تحديات أمنية وسياسية خطِرة على حدوده الشمالية مع سوريا، والشرقية مع العراق، والغربية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. ومع التحدّي الأخير يتعامل الأردن بحذر شديد مع مخطّطات الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب، ودعوات تهجير الفلسطينيين التي عدّتها عمّان «إعلان حرب عليها»، لتتعاظم هواجس داخلية تفرض نفسها على صنّاع القرار بقوة.

ومع بدء الدورة الأولى من عمر مجلس النواب العشرين الذي انتخب في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ الشحن الداخلي في معادلة الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في ظل وجود كتلة معارضة «حرجة» تملك 31 مقعداً قابلة للزيادة تمثلها كتلة «جبهة العمل الإسلامي»، الذراع الحزبية لجماعة الإخوان المسلمين غير المرخّصة في البلاد.

الملك عبد الله الثاني يستعرض حرس الشرف قبل افتتاح أعمال البرلمان الأردني (أ.ف.ب)

قياس شرعية الانتخابات

بدأت القصة الجديدة بين السلطة الأردنية والحركة الإسلامية من قياس «شرعية» الانتخابات الأخيرة، بعد مشاركة نواب الحركة حصولهم على قرابة نصف مليون صوت على مستوى البلاد كافة، من أصل نحو مليون و600 ألف مقترع شاركوا في الانتخابات، إلى جانب حصدهم أيضاً مقاعد مُخصّصة للمرأة والشركس والشيشان في عدد من الدوائر المحلية، على مستوى المحافظات.

وباعتراف الحزب المعارض بنزاهة الانتخابات، تكون المعايير التي سعى الإسلاميون إلى تكريسها مرتبطة فقط بعدد المقاعد التي يحصلون عليها، مستندين إلى سيطرتهم على وعي الرأي العام، من خلال امتلاكهم منابر دينية وإعلامية غير متوافرة لخصومهم.

كانت ثمة تحذيرات جاءت على ألسنة شخصيات سياسية وازنة وخبرات قانونية، من أن قانون الانتخاب الذي توافقت عليه لجنة ملكية، ومنح صوتين للناخب أحدهما لدائرته المحلية والآخر للدائرة العامة المخصصة مقاعدها الـ41 للأحزاب، أبرزها أن الصوت الثاني سيكون «صوتاً مجانياً» مُعطىً لمرشحي الحركة الإسلامية، لكن هذه التحذيرات قوبلت بالسخرية.

كان «عرّابو» القانون يسخرون من التحذيرات، وسط ثقة مُفرطة بأنفسهم، بينما سعى «طباخو» القانون إلى تشكيل أحزاب سياسية قيل إنها ستنافس الحركة الإسلامية، بل ستقلّص عدد مقاعدهم. لكن الحقيقة جاءت بعكس توقعات استطلاعات الرأي السرّية، بل إن تلك التوقعات جاءت بمبالغات لا صلة لها بالواقع.

استناداً إلى ما سبق، ونتيجة لمراجعات مراكز قرار و«جرد الحسابات»، أُقيل ضباط كبار في جهاز الاستخبارات العامة، وسياسياً أعيد تموضُع شخصيات في مواقع متقدمة في الديوان الملكي، وتحييد آخرين، مع إلزام الحكومة الجديدة بتدوير الزوايا الاقتصادية الحادة في موازنة العام المقبل، واختصار تصريحاتها بالشأن السياسي. ومن المتوقع أن تطال التغييرات مواقع متقدِّمة، أمنية وسياسية قبل نهاية العام.

وحسب مخضرمين سياسيين، كان من السهل الطعن بدستورية قانون الانتخاب النافذ، خصوصاً في ظل التعارض الواضح في نصوص احتساب درجة الحسم (العتبة) التي جاءت نتيجتها بمضاعفة عدد مقاعد الحركة الإسلامية على الأقل.

وقد استند هؤلاء إلى نصّين متعارضين في حسابات الفوز والخسارة في الانتخابات، ثم إنه رغم التحذيرات أدّى الإصرار على الخطأ لنتائج غير متوقعة، وسقوط استطلاعات الرأي المسكوت عنها، والتي «أُجريت بطرق غير علمية»، كما وصفها مطّلعون تحدثت معهم «الشرق الأوسط».

العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني خلال افتتاح أعمال دورة جديدة للبرلمان (رويترز)

خطاب العرش... بين السطور

في الثامن عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي انطلقت أعمال الدورة العادية من عُمر مجلس النواب العشرين، بعد إلقاء العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني خطاب العرش. وحمل الخطاب بين سطوره «مفاتيح» لسياسة الأردن، في ظل تحوّلات كبيرة، لعل أهمها إدارة العلاقات الأردنية مع الحليف الأميركي بعد فوز دونالد ترمب بفترة رئاسية جديدة، والمفاجآت التي قد تحملها سياساته، عطفاً على سياساته وقراراته في دورته السابقة، ومدى الحرج الذي قد يتسبّب به الرجل في لقاءاته الرسمية وتصرفاته الشخصية.

لم يأخذ الكلام الملكي المساحة اللازمة من التحليل وقراءة ما بين السطور، واكتفى المحللون بإبراز فقرات من الخطاب تتعلق بالشأن الداخلي، إثر قول الملك إن مستقبل بلاده «لن يكون خاضعاً لسياسات لا تلبّي مصالحه أو تخرج عن مبادئه»، واصفاً الأردن بـ«الدولة الراسخة الهوية، التي لا تغامر في مستقبلها».

ولم يتطرّق المحلّلون إلى سقوط عبارة «حل الدولتين» من الخطاب والاكتفاء بالإشارة إلى «السلام العادل والمشرّف هو السبيل لرفع الظلم التاريخي عن الأشقاء الفلسطينيين»، مع تمسّك الأردن بأولوية إعادة «كامل الحقوق لأصحابها ومنح الأمن للجميع، رغم كل العقبات وتطرّف الذين لا يؤمنون بالسلام».

قراءة في سلوك «الإسلاميين»

بعد الرسائل الملكية تلك، دخل النواب في منافسة محمومة على مقاعد الرئاسة وانتخاب أعضاء المكتب الدائم للمجلس. وجاءت النتيجة حاسمة لصالح الرئيس الأسبق أحمد الصفدي الذي نافسه النائب صالح العرموطي (الإسلامي)، الآتي محمولاً على أكتاف أعلى الأصوات على مستوى الدوائر المحلية.

أراد «الإسلاميون» في المجلس إيصال «مظلوميتهم» إلى الشارع، فبعد إعلان خمس كتل حزبية تحالفها في انتخابات الرئاسة والمكتب الدائم، كانت منافسة كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي» غير مُجدية؛ نظراً لقرارهم بعزل أنفسهم عن أي تحالفات حتى مع المستقلين من أعضاء المجلس، ولم ينجحوا إلا في استقطاب 6 نواب من خارج كتلتهم (الـ31 نائباً)، على الرغم من وجود 23 نائباً مستقلاً، مع توزّع 115 من النواب على 12 حزباً فازوا بمقاعد بعد تجاوز درجة الحسم في الانتخابات النيابية الأخيرة.

هؤلاء، بالإضافة إلى حزب «جبهة العمل الإسلامي»، جاؤوا على التوالي: حزب «الميثاق»، و«إرادة»، و«الوطني الإسلامي»، و«تقدّم»، و«الاتحاد»، و«الأرض المباركة»، وحزب «عزم»، وحزب «العمل»، وحزب «العمال»، و«المدني الديمقراطي»، وحزب «نماء».

ويُدرك الإسلاميون صعوبة التحالف، وكانوا قد ضيّعوا فرصة قدّمها قبل انتخابات الرئاسة وقتها المرشح الصفدي؛ إذ ضمن لهم مقعدين في المكتب الدائم هما مقعد النائب الثاني للرئيس، وأحد مقعدي المساعدين للرئيس، ورئاسة بعض اللجان. غير أنهم آثروا الانعزال ورفض التفاوض، فكانت فكرتهم المركزية - كما وصفها مقربون منهم في حوارات مع «الشرق الأوسط» - أنهم يريدون «إيصال رسائل» تُفيد بتعرّضهم لحصار ومحاربة من قبل الأحزاب الرسمية، وبذلك يحصدون المزيد من الشعبية أمام الشارع الأردني، وهذا ما حصل فعلاً.

وبالفعل، تابع الإسلاميون خطتهم في انتخابات الرئاسة والمكتب الدائم، وسعوا للترشح عن مقعدي النائب الأول والثاني للرئيس. وبعد استعراضات تحت القبة، انسحب مرشحو الحركة في رسالة أرادوا منها التذكير بقدرتهم على المشاغبة في مواجهة توزيع المواقع القيادية في المجلس.

إلا أن ما استقرت عليه خطة المواجهة معهم تحت القبة سيحرمهم أيضاً فرص الفوز برئاسة اللجان النيابية الدائمة، وعلى رأس هذه اللجان: المالية، فلسطين، التوجيه الوطني، الاقتصاد والاستثمار، الشؤون الخارجية، والحريات العامة، وفق مصادر تحدثت إلى «الشرق الأوسط».

إقرار الموازنة المالية أبرز تحدٍّ يواجه الحكومة الأردنية مع بدء مناقشة القانون في البرلمان (بترا)

مواجهة مرتقبة

يُدرك صنّاع القرار في الأردن اليوم مدى خطورة وجود كتلة «حرجة» بحجم كتلة «جبهة العمل الإسلامي» تحت قبة المجلس، لا سيما أنه عُرف عنهم التزامهم في حضور الجلسات التشريعية، وبراعتهم في اختيار مداخلاتهم في الجلسات الرقابية، في ظل احتكارهم لعبة النصاب في التصويت على قرارات المجلس.

ثم إن للإسلاميين صدقيتهم في الإعلام المحلي، وهم الذين استخدموا التواصل الاجتماعي بفاعلية في إيصال صوتهم. ولذا فهم يستخدمون لعبة شحن الشارع بمظلوميتهم وكشفهم عن خفايا التصويت على القرارات في المجلس.

وبرأي متابعين، فإن الحصيلة الشعبية لحزب «جبهة العمل الإسلامي» قابلة للارتفاع في ظل ضعف حجة من يواجههم في العمل العام.

لكن ما غاب عن حسابات المطبخ السياسي لـ«جبهة العمل الإسلامي» (وحاضنته الأم جماعة الإخوان المسلمين غير المرخصة)، أنهم قد يكونون الأداة الأهم في التحذير من مخاطر أمن واستقرار المملكة في ظل استمرار نشاطهم السياسي الذي يعرف استخدام الشارع وعاطفته في الاشتباك مع مؤسسات الدولة؛ إذ بمجرد وجود الإسلاميين في المجالس المنتخبة سيوزّع رسائل إلى عدة جهات، أهمّها تحكم اليمين الإسلامي في دولة عُرفت بالاعتدال... وهذا قد يقلب الطاولة على أحلام الحركة في السيطرة والسلطة.

بداية مُقلقة لعلاقة متوترة

أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية حزمة استحقاقات صعبة. وستكون البداية بـ«حفلة» البيان الوزاري وبدء «ماراثون» مناقشة النواب لمضامينه، وهنا سيستغل نواب الحركة الإسلامية المنبر البرلماني لشن هجمات على الحكومة، وتشويه صورتها، منتصرين بذلك أمام الشارع بعد حجبهم الثقة.

وبعد طيّ صفحة الثقة المضمونة للحكومة، سيدخل استحقاق مشروع قانون الموازنة والوحدات المستقلة لسنة 2025. وتكراراً سيصعد نواب الحركة إلى المنبر ليضاعفوا حصّتهم في الشارع، ولن تنتهي الدورة البرلمانية العادية قبل أن يكون لـ«جبهة العمل الإسلامي» الحصّة الأكبر من معركة الرأي العام.

في المقابل، ما يمكن أن تشهده الدورة الحالية في ملف ساخن قد يعيد المشهد لما قبل عام 2011، هو القرار المُرتقب في حل نقابة المعلمين مطلع ربيع العام المقبل. هذا الملف قد يعيد «تسخين» المشهد المحلي على «صفيح» قضية المعلمين وعودتهم إلى الحراك. وللعلم، كان آخر نقيب للمعلمين قبل قرار قضائي جمّد أعمال النقابة وأغلق أبوابها، نائب جاء عن قائمة الحزب الإخواني التي ترشحت على مقاعد الدائرة الحزبية العامة.

رئيس الوزراء الأردني جعفر حسان (أ.ف.ب)

نقاط ضعف الحكومة وقوتها

مرتكز القوة لحكومة جعفر حسّان التي أقسمت اليمين مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، هو شخصية رئيسها. فحسّان يتمتع بصفات الاستقامة والنزاهة، ورفض الاستجابة للضغوط من مختلف القوى والجهات، وقدرته على العمل تحت الضغط بعيداً عن الأضواء. لكن إذا كانت هذه الصفات تصلح لمهمة من نوع إدارة مكتب الملك الخاص، فإنها قد لا تكون مطلوبة تماماً في شخصية رئيس الحكومة.

وحسّان أدار مكتب الملك في حقبتين مختلفتين، وفي عودته للمرة الثانية خلال السنوات الخمس الماضية استطاع الرجل الانفتاح على الآراء، مستفيداً من تنوع ناصحيه ومحبيه، إلا أن مزايا الرئيس نفسه لا تنسحب بالضرورة على بقية فريقه الحكومي؛ إذ بين اختياراته الوزارية مَن قد يدخل الحكومة كاملة في أزمات متعددة.

وأيضاً، بين وزراء حسّان أشخاص لم يسبق لهم تجربة العمل العام، ناهيك بأن ضمن فريقه طامحين في موقع حسّان نفسه، وبينهم من سبق له العمل البرلماني، بل عُرف عن هؤلاء قدرتهم على استفزاز مجالس النواب ومحاولة التذاكي على التشريعات، قبل كشف الأخطاء التي ارتكبت، ومنها أخطاء قانوني الانتخاب والأحزاب.

في هذا السياق، يحقّ عُرفاً لرئيس الوزراء إجراء أول تعديل وزاري على فريقه الحكومي مباشرةً بعد نيل الحكومة الثقة من مجلس النواب، مع توفير مظلة مشاورات «شكلية» لصالح فرص توزير شخصيات من أحزاب لها أذرع نيابية في المجلس الذي بدأت أعماله رسمياً منذ 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.