غزّة مُجدّداً... لكن بتكتيك جديد

قصف إسرائيلي انتقامي على مدينة غزة اليوم (أ.ف.ب)
قصف إسرائيلي انتقامي على مدينة غزة اليوم (أ.ف.ب)
TT

غزّة مُجدّداً... لكن بتكتيك جديد

قصف إسرائيلي انتقامي على مدينة غزة اليوم (أ.ف.ب)
قصف إسرائيلي انتقامي على مدينة غزة اليوم (أ.ف.ب)

لا يتوافّر بديل، حتى الآن على الأقلّ، للآلة العسكريّة واستعمال القوّة بين «حماس» وإسرائيل. فالفريقان يريدان الحدّ الأقصى من الأرباح السياسيّة (Maximalists). وإذا كانت السياسة هي فن الممكن، وإذا كانت الحرب تُخاض لخدمة الأهداف السياسيّة، فإن الحد الأقصى من المطالب سوف يُلغي حتماً السياسة في جوهرها. فالسياسة هي فن الأخذ والعطاء، كما التقدّم والتراجع، وتقديم التنازلات، وإظهارها على أنها مكاسب. يحدث هذا خلال عمليّة التفاوض، المباشرة منها أو غير المباشرة. لا تدخل هذه المقدّمة في قاموس كل من «حماس» أو الدولة الإسرائيليّة حالياً. والحرب بينهما مُستدامة من ضمن شعار «الضعيف يقاتل بما يملك، والقوي يضرب بكلّ ما يملك».

انقلبت الأدوار اليوم بين «حماس» والدولة الإسرائيليّة. في القديم، كانت غزة مسرح الصراع بين داوود وغوليات (جالوت)، بحسب ما تقول الروايات اليهودية التاريخية. كان داوود الإسرائيليّ هو الضعيف، مقابل غوليات الفلسطينيّ الجبّار. وحسب الرواية، أسقط داوود غوليات بضربة قاضية على جبينه بواسطة مقلاعه. يُصنّف الخبراء العسكريّون هذه الحادثة على أنها الحرب بين القوّي والضعيف. الضعيف دائماً لديه احتمال أن يخرج منتصراً، أو في الحدّ الأدنى منع القوي من الانتصار. إنها الحرب اللاتماثليّة بامتياز (Asymmetric War).

دبابة إسرائيلية أحرقها الفلسطينيون على حدود قطاع غزة اليوم السبت (أ.ب)

انقلبت الآية اليوم. ففي نفس المكان الجغرافيّ، أي غزّة، أصبحت «حماس» هي داوود، وإسرائيل هي غوليات. لكن نهاية الصراع بينهما ليست كما في القصّة الدينية. أي بضربة واحدة.

بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة عام 2005 برعاية آرييل شارون. خاضت إسرائيل نحو 5 عمليات عسكريّة ضد القطاع. أصعبها كان في عام 2014. في هذه العملية المُسماة «الجرف الصامد»، دخلت إسرائيل إلى داخل حدود القطاع الجغرافيّة، لتُدمّر الأنفاق وتُشكّل منطقة عازلة.

في كلّ العمليات الإسرائيليّة على غزّة، والرد الفلسطينيّ عليها، كانت الصواريخ، الطائرات والمُسيّرات، كما الاغتيالات للقيادات الفلسطينيّة، هي النمط السائد. فكلّما كانت مسافة الصاروخ من «حماس» أطول داخل فلسطين المحتلّة، وكلّما عجزت الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة عن إسقاط هذه الصواريخ، عُدّ هذا الأمر على أنه نجاح للمقاومة الفلسطينيّة. هكذا كان مقياس النجاح، أو نظريّة النصر الفلسطينيّة (Theory of Victory).

فلسطينيون يحتفلون على آلية عسكرية إسرائيلية نقلوها إلى غزة بعد السيطرة عليها في الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة «حماس» اليوم (إ.ب.أ)

عملية «طوفان الأقصى» - في التحليل العسكريّ

في التوقيت، تأتي العمليّة متزامنة مع الأعياد الدينيّة اليهوديّة. كما تتزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وإذا كانت حرب أكتوبر قد اعتمدت على الخداع الذي حقّق عامل المفاجأة الاستراتيجيّة، فإن عملية «طوفان الأقصى» تندرج في هذا الإطار، حتى ولو كان الفارق بين الاثنين في الحجم والتأثيرات الجيوسياسيّة كبيراً جدّاً.

أن تُطلق «حماس» ما يُقارب الـ 5000 صاروخ (بحسب بعض المعلومات 7000 صاروخ) من مختلف الأنواع فهذا أمر يدّل على أن لدى هذه الحركة الفلسطينية عمقا لوجستيّا مهمّا. وربما تعمّدت «حماس» إطلاق هذا الكم من الصواريخ لإغراق الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة (Overwhelming) وتحضيراً لعمليّة بريّة لم يتوقّعها الجيش الإسرائيليّ، وضمناً استخباراته.

وإذا كانت «حماس» في العمليات السابقة تردّ بالقصف الصاروخيّ، لكن من داخل القطاع، فإن عمليّة «طوفان الأقصى» قد ارتكزت على أبعاد جديدة أهمّها: إلى جانب القصف الصاروخي، عملية إنزال مظليين على المستوطنات. والأهم السعي للسيطرة على «الأرض» داخل فلسطين المحتلّة.

وإذا كانت هذه العمليّة قد فاجأت أجهزة الأمن الإسرائيليّة فهذا يعدّ إنجازاً مهمّاً في عملية الخداع. ألم يقل صان تسو: «إن الحرب تقوم كلّها على الخداع»؟

حرق برج مراقبة إسرائيلي على حدود قطاع غزة اليوم (أ.ب)

إن تعقيدات وحجم هذه العملية قد يعنيان أن التحضير لها كان قد بدأ منذ وقت طويل. والتحضير والتخطيط لها، بثلاثة أبعاد، البرّ، والجو، والبحر، قد يعني أن «حماس» استطاعت القتال على طريقة القتال المُشترك (Combined). وعليه، فإن قدرة «حماس» على الحفاظ على سريّة التحضيرات لهذه العمليّة كانت مميّزة.

ينطبق على العلاقة بين «حماس» وإسرائيل الشعار التاليّ: «تربح حماس إذا لم تخسر، وتخسر إسرائيل إذا لم تربح». لذلك، يكفي أن تُنفّذ العمليّة لتعد «حماس» على أنها الرابحة، على الأقل بالمنظور القصير وليس على المستوى البعيد المدى الذي سيتضح بعد جلاء صورة الرد الإسرائيلي.

إن قتال «حماس» داخل المستوطنات الإسرائيليّة قد يعني تحييد أهم قوّة عسكريّة لدى إسرائيل عن الاشتراك في المعركة ألا وهو سلاح الجوّ، الذي يعاني أصلاً بسبب الوضع الداخلي الإسرائيليّ.

لقد حدّد مؤسس إسرائيل ديفيد بن غوريون المبادئ الاستراتيجيّة للدولة العبرية وأهمّها: إنهاء الحرب مع العدو بسرعة، لأنه لا يمكن لإسرائيل خوض حروب استنزاف طويلة. كما نصح بن غوريون بخوض الحرب على أرض العدو. تدور عملية «حماس» اليوم داخل أرض إسرائيل.

فلسطينيون ينقلون إسرائيلية احتجزوها في مستوطنة على حدود قطاع غزة اليوم السبت (أ.ب)

الامتداد الأقصى لعملية «طوفان الأقصى»

سوف تصل حتما عملية «طوفان الأقصى» إلى امتدادها الأقصى. وعليه، ستستعد إسرائيل لعملية معاكسة بعدما حدّدت القوات الإسرائيليّة منطقة العمليات المقبلة، والتي تمتد مسافة 80 كلم داخل إسرائيل انطلاقاً من حدود القطاع. ستسعى إسرائيل على الأرجح إلى تحقيق الأمور التالية:

استرداد زمام المبادرة وبسرعة وذلك بعد تقييم الوضع الميداني، جمع الاستعلام التكتيكي، تقدير الوضع لزجّ القوات المناسبة (نوعاً وكمّاً).

استرداد المستوطنات التي توجد فيها عناصر من «حماس» مع السعي الحثيث لعدم السماح للعناصر الفلسطينية بالانسحاب مع أسرى من العسكر، أو مدنيين.

العمل على استرداد صورة الردع وبسرعة، بعد أن تظهّرت هشاشة الأمن القومي الداخليّ.

لكن عملية استرداد صورة الردع، تتطلّب عملية عسكريّة كبيرة جدّاً تفوق بكثير ما أنجزته عملية «طوفان الأقصى». فهل ستذهب إسرائيل إلى اجتياح القطاع؟ الصورة غير واضحة، لكن اجتياح القطاع يتطلّب الأمور التالية:

الوقت الطويل لإنهاء العملية، علماً أن إسرائيل لا تملك عامل الوقت.

الوسائل اللازمة، كما الكلفة المالية والبشريّة.

وفي حال نجاح عملية اجتياح القطاع، هذا إذا نجحت، فمن سيحكم القطاع؟

عندما تفكّر إسرائيل في الرد لاسترجاع صورة الردع، فإنما هي تفكّر في الجبهتين السوريّة واللبنانيّة. فهل سيأتي الرد في الخارج إلى جانب الداخل؟

في الختام، قد يمكن القول إن ما حصل في الساعات الماضية سيغيّر نظرة إسرائيل إلى أمنها القوميّ، وإلى كيفيّة التعامل مع كل ما له علاقة بالقضيّة الفلسطينيّة، وإلى كيفيّة التعامل مع المسائل الإقليميّة. فأي خيار ستعتمده الدولة العبرية الآن بعد انفضاح هشاشتها الأمنيّة؟ الجواب قد لا يتأخر كثيراً.


مقالات ذات صلة

نتنياهو: «حزب الله» سيدفع ثمناً غالياً جراء الهجوم الصاروخي على الجولان

المشرق العربي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (قناته على «تلغرام»)

نتنياهو: «حزب الله» سيدفع ثمناً غالياً جراء الهجوم الصاروخي على الجولان

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، السبت، إن «حزب الله سيدفع ثمناً غالياً مقابل الهجوم الصاروخي الذي قتل أطفالاً». 

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي طائرة مسيرة أطلقها «حزب الله» اللبناني في إحدى عملياته (لقطة من فيديو)

«حزب الله» يستهدف قوة إسرائيلية شمال ثكنة «يفتاح» بالمسيرات

أعلن «حزب الله» اللبناني أن عناصره استهدفوا قوة مدرعات إسرائيلية تمركزت مؤخرا شمال ثكنة «يفتاح» الإسرائيلية بالمسيرات الانقضاضية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة (وكالة الأنباء الفلسطينية- وفا)

الرئاسة الفلسطينية: الإدارة الأميركية تتحمل مسؤولية المجازر اليومية بحق شعبنا

أعلن الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، إن «الضوء الأخضر الذي حصل عليه بنيامين نتنياهو من الإدارة الأميركية جعله يستمر في عدوانه».

«الشرق الأوسط» (الضفة الغربية)
المشرق العربي أطفال فلسطينيون يركبون على ظهر عربة وهم يحملون أمتعتهم في غزة (أ.ف.ب)

غزة: تحذير من انتشار فيروس شلل الأطفال بين النازحين

حذرت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، السبت، من انتشار فيروس شلل الأطفال وغيره من الأمراض بين جموع النازحين في القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي تصاعد الدخان خلال غارة إسرائيلية على دير البلح في وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

غزة: مقتل 30 فلسطينياً بهجوم إسرائيلي على مدرسة تؤوي نازحين

قالت وزارة الصحة في قطاع غزة إن ما لا يقل عن 30 فلسطينياً قُتلوا، السبت، في قصف إسرائيلي استهدف مدرسة تؤوي نازحين غرب مدينة دير البلح.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«تسخين» إيراني - أميركي شرق سوريا وغارات روسية مكثفة على مواقع «داعش»

حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)
حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)
TT

«تسخين» إيراني - أميركي شرق سوريا وغارات روسية مكثفة على مواقع «داعش»

حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)
حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)

بعد أقل من يومين على تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرئيس السوري بشار الأسد من اتجاه الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط نحو التصعيد، شنَّت قوات التحالف الدولي غارات جوية على مواقع ميليشيات رديفة للقوات الحكومية السورية تابعة لإيران في شرق سوريا، ليل الجمعة - السبت، وذلك رداً على استهداف قاعدة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في حقل غاز «كونيكو» بريف دير الزور، فيما أفادت مصادر إعلامية السبت بقيام طائرة استطلاع وتجسس أميركية بمسح جوي في المنطقة الجنوبية والعاصمة دمشق وريفها وحمص حتى الساحل السوري ولبنان، كما شهدت الحدود السورية - العراقية، شمال شرقي محافظة الحسكة، تحليقاً مكثفاً لطائرات التحالف الدولي.

بالتوازي، شنَّت قوات الجو الروسية غارات مكثفة على مواقع لتنظيم «داعش» في بادية تدمر والسخنة في ريف حمص الشرقي، وفق ما ذكره «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، يوم السبت، لافتاً إلى أن هذه الغارات جاءت بعد فترة من تسجيل تراجع ملحوظ في الغارات الروسية على مواقع تنظيم «داعش»، قياساً إلى أكثر من 100 غارة جوية نفذتها على مواقع «داعش»، في بادية حماة وحمص ودير الزور والرقة، خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي.

وترافقت الغارات الجوية الروسية المكثفة السبت مع حملة التمشيط التي تقوم بها القوات الحكومية بدعم من سلاح الجو الروسي من بادية حماة الشرقية، وصولاً إلى بادية الرقة الغربية، وبادية تدمر والسخنة وجبالها في ريف حمص الشرقي وتلال البشري وكباجب والتبني ومعدان، جنوب دير الزور، وفق ما ذكرته مصادر محلية قالت إن غارات السبت تركزت على منطقة السخنة، وصولاً إلى كباجب وجبال البشري الممتدة على طول البادية، وترافقت مع تحليق طائرات استطلاع روسية.

وكان الرئيس الروسي قد حذر من أن «الوضع يزداد توتراً في الشرق الأوسط»، خلال استقباله الرئيس السوري، يوم الأربعاء الماضي، في موسكو، معتبراً «المباحثات مع الأسد فرصة لبحث كل التطورات والسيناريوهات المحتملة»، وفق ما نقلته «وكالة الأنباء السورية (سانا)»، لافتة إلى أن الرئيس الأسد رد بأنّ كلاً من سوريا وروسيا «مرّ بتحديات صعبة واستطاعا تجاوزها دائماً»

وتوقعت المصادر ارتفاع درجة التسخين الإيراني - الأميركي شرق سوريا، حيث مراكز وجودهما الأقوى في سوريا والمنطقة، بهدف تعزيز كل منهما مواقعه، ولفتت إلى وجود مخاوف من استغلال تنظيم «داعش» التوتر الحاصل للعودة إلى نشاطه شرق سوريا، وربما هذا ما دفع الجانب الروسي إلى تكثيف غاراته على مواقع التنظيم بالتعاون مع القوات الحكومية، وفق المصادر التي رأت أن احتمال عودة نشاط «داعش» إلى سوريا والعراق سيخلط الأوراق ويدفع الأوضاع نحو المزيد من التعقيد.

مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، رامي عبد الرحمن، قال إن الميليشيات الرديفة للقوات الحكومية السورية التي تتبع إيران تلقت أوامر بالتصعيد ضد القاعدة الأميركية في حقل كونيكو للغاز «بعينها»، وقد تم استهدافها يوم الجمعة بـعشرة صواريخ، ويوم الخميس بثلاثة.

وردَّت قوات التحالف على تلك الضربات السبت دون إيقاع خسائر بشرية، واعتبر عبد الرحمن تبادل الضربات الإيرانية - الأميركية «رسائل متبادلة بين الطرفين».

من جانبه، أفاد موقع «صوت العاصمة» بقيام طائرة استطلاع وتجسس أميركية من طراز RQ - 4B Global Hawk بمسح جوي استمر لأكثر من 21 ساعة متواصلة. وبحسب الموقع «تركز المسح في المنطقة الجنوبية والعاصمة دمشق وريفها وحمص حتى الساحل السوري ولبنان»، دون ذكر تفاصيل أخرى أو مصدر المعلومة، فيما قال موقع «الخابور» إن تحليقاً مكثفاً لطائرات التحالف الدولي جرى السبت على الحدود السورية - العراقية شمال شرقي الحسكة.