يثير التأخير في نشر الإفصاحات الدورية لميزانية مصرف لبنان كثيراً من التكهنات في الأوساط المالية والمصرفية، كما لدى الخبراء والمراقبين والباحثين، بالنظر إلى ما تتضمنه من بيانات مرجعية تخص الاحتياطات بالعملات الصعبة وإدارة تدفقات السيولة النقدية بالدولار وبالليرة، وتحديث المبالغ الخاصة بتوظيفات المصارف وإيداعات القطاع العام.
وبالتوازي، تترقب الأسواق المالية والنقدية إشهار تدابير جديدة وواضحة من قبل القيادة الجديدة للبنك المركزي، تتناول خصوصاً إمكانية استئناف نشاط منصة «صيرفة» المتوقفة تماماً منذ مطلع الشهر الحالي، وتحديد سقوف «الضرورات» التي سيتم الالتزام الصارم بها في تغطية عجوزات مصاريف الدولة بالدولار.
واكتسبت النشرة الدورية لقوائم المركز المالي في البنك المركزي، التي لم تظهر، حتى الساعة، كما هي موقوفة منتصف الشهر الحالي، أهمية خاصة، كونها الأولى التي ستصدر في عهدة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، بعد تسلمه المنصب ومسؤولياته أول الشهر، وبعدما استبقها بمبادرته إلى نشر البيانات الرقمية العائدة لحسابات السيولة الخارجية (الاحتياطات) المتوفرة والالتزامات المقابلة، طبقاً لمحضر التسلّم والتسليم مع الحاكم السابق رياض سلامة والتدقيق الداخلي.
وفي بعد أكثر تأثيراً، ووفقاً لمسؤول مصرفي كبير، فإن الأهمية الاستثنائية المضافة للبيانات المحدثة في البنك المركزي، تكمن في استنباط معطيات إحصائية ومؤشرات مرجعية تخص الملاحقات القضائية المستمرة داخلياً وخارجياً بحق الحاكم السابق خصوصاً، وملفات زاخرة بالشواهد والأدلة على هدر المال العام عموماً، التي يفترض أنها استمدت دفعاً قوياً بعد نشر تفاصيل تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته الشركة الدولية المتخصصة «ألفاريز أند مارسال»، وتعزيزه بتعميم المطالعة القانونية الصادرة عن المدعي العام التمييزي غسّان عويدات، متضمنة طلب التحقيق والمتابعة من قبل الجهات القضائية ذات الاختصاص، ولا سيما النيابة العامة المالية وهيئة التحقيق الخاصة.
ولذا، يرجح، بحسب المسؤول المصرفي، أن يوضح منصوري في مؤتمره الصحافي، ظهر اليوم (الجمعة)، معطيات إضافية خاصة ببنود المركز المالي للبنك المركزي، ومدى التقدم المحقّق في عمليات التدقيق الداخلية، توطئة لاستئناف نشر قوائم الميزانية في مواعيدها المحددة في الأول والسادس عشر من كل شهر، وتحديد مسارات العلاقات المالية الملتبسة مع الدولة والقطاع العام. فضلاً عن رفع الصوت مجدداً للحثّ على تسريع إقرار مشروعات القوانين المالية الملحة.
كما تشير المعلومات، وفقاً لمصادر مصرفية متابعة، إلى أن التحديثات المرتقبة ستشمل كثيراً من البنود الرئيسية للمركز المالي، بما يعكس الحرص المعلن على احترام موجبات الإفصاح والشفافية في مجمل بيانات الميزانية العائدة للبنك المركزي، خصوصاً بعد حملات الاتهامات للحاكم السابق بتعمد إخفاء معطيات مؤثرة في بنود رئيسية ومهمة، ولا سيما الإبهام الذي يكتنف بند «الخسائر» المحققة، سواء لجهة حجم الفجوة أو توزيعاتها وقيودها بين المصرف والقطاع العام.
ويحوز بند حجم الكتلة النقدية بالليرة اهتماماً خاصاً في الأوساط المالية والمصرفية، بفعل تأثيره المباشر على سعر الصرف في أسواق القطع. ووفق البيانات المالية، تسلّم منصوري قيوداً محاسبية تظهر تناقص هذه الكتلة إلى نحو 62 تريليون ليرة بنهاية الشهر الماضي، أي ما يوازي سوقياً نحو 690 مليون دولار، مقابل مخزون احتياطات يبلغ 8.57 مليار دولار، والتزامات فورية تقارب 500 مليون دولار، موزعة بين ودائع للقطاع العام وحقوق سحب خاصة، واعتمادات مستندية مفتوحة. فيما تبلغ الالتزامات الآجلة نحو 770 مليون دولار تعود لقروض وودائع لجهات عربية.
وضمن التوجهات للإبقاء على هذا البند تحت السيطرة في إدارة السيولة، نجح الحاكم بالإنابة، وفقاً لمعلومات مصرفية وسوقية، في جمع رصيد يناهز 79 مليون دولار من أسواق القطع غير النظامية، أي عبر قنوات شركات الأموال والصرافين. وهو ما يمثل تعويماً جزئياً لمنصة صيرفة من خلال استئناف المشتريات النقدية من قبل «المركزي». علماً أن المنصة متوقفة عملياً عن النشاط المعتاد، بتعميم من البنك المركزي موجّه إلى المصارف، ويؤشر بتنفيذه بدءاً من أول الشهر الحالي.
وعليه، يرتقب انسياب سداد مخصصات القطاع العام للشهر الحالي عبر أجهزة الصرف الآلي في الفروع المصرفية، تبعاً للآليات التي اعتمدها الحاكم السابق. كما يمكن لـ«المركزي» تغطية الاحتياجات الملحة بالدولار لصالح المؤسسات العسكرية والأمنية، وبالأخص الاستجابة للصرخة المكتومة المنقولة من صالة اجتماعات قائد الجيش. فيما ستبقى «عالقة» مسألة صرف اعتمادات باخرتي الفيول المستوردة لصالح مؤسسة الكهرباء، وبقيمة تقارب 59 مليون دولار.
وفي جانب ذي صلة بالميزانية، قطع منصوري الطريق مجدداً أمام أي محاولات جديدة لثنيه عن قراره المعلن، القاضي بالتقيّد بقرار المجلس المركزي عدم جواز المساس بالتوظيفات الإلزامية المودعة من قبل المصارف في مصرف لبنان. وبالتالي، التزامه مجدداً والتزام المجلس المركزي بعدم الصرف من رصيد الاحتياطات، إلا لتسديد الالتزامات القائمة، التي تشمل اعتمادات مستندية مفتوحة من قبل «المركزي» بقيمة 96 مليون دولار، وتسديد حصته (النصف) من مدفوعات التعميم الأساسي رقم 158، الذي يتيح لنحو 100 ألف مودع سحب 400 أو 300 دولار نقدي شهرياً من حساباتهم لدى المصارف.