إجراءات مكافحة الفساد في العراق تصطدم بعقبة استهداف المكونات

صراعات على مختلف المستويات بين الأحزاب في المحافظات المختلفة

النواب العراقيون يصوّتون على ميزانية 2023 (البرلمان العراقي - رويترز)
النواب العراقيون يصوّتون على ميزانية 2023 (البرلمان العراقي - رويترز)
TT

إجراءات مكافحة الفساد في العراق تصطدم بعقبة استهداف المكونات

النواب العراقيون يصوّتون على ميزانية 2023 (البرلمان العراقي - رويترز)
النواب العراقيون يصوّتون على ميزانية 2023 (البرلمان العراقي - رويترز)

بالتزامن مع ما أعلنه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مؤخراً، بأن هناك «شلة من الفاسدين» تنتظر للانقضاض على المال العام بعد إقرار الموازنة، كثفت هيئة النزاهة من إجراءاتها بهدف مكافحة الفساد. وشملت إجراءات الهيئة كثيراً من المحافظات والمواقع الإدارية في أجهزة الدولة، لكنها اصطدمت بعقبة استهداف المكونات العرقية والمذهبية من منطلق الصراعات بين الأحزاب والقوى السياسية داخل تلك المكونات.

وفيما أعلنت هيئة النزاهة مؤخراً عن إلقاء القبض على مدير تقاعد محافظة الأنبار ومدير فرع هيئة النزاهة فيها، فإن القوى السياسية المناهضة لحزب «تقدم» الذي يتزعمه رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، عدت أن الذين تم اعتقالهم مع العثور على عشرات ملايين الدولارات والسيارات الفارهة، كانوا محميين من الحلبوسي الذي احتكر حزبه أغلبية أصوات أبناء محافظة الأنبار في الانتخابات البرلمانية التي جرت أواخر عام 2021.

صراعات وصدامات

ومع الإعلان عن إجراء انتخابات مجالس المحافظات خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بالتزامن مع التصويت على الموازنة المالية للعراق للسنوات الثلاث المقبلة، وهي الميزانية الأكبر في تاريخ البلاد، فقد بدأت الصراعات والصدامات على مختلف المستويات بين القوى والأحزاب في المحافظات المختلفة. وتعد الأنبار من بين أكثر المحافظات العراقية الحافلة بالصراعات السياسية، مع أنها من لون مذهبي واحد (عرب سنة).

السوداني يترأس اجتماعاً للحكومة العراقية (رئاسة الوزراء العراقية)

فبالإضافة إلى حزب «تقدم» بزعامة الحلبوسي، هناك ما بات يسمى «تحالف الأنبار الموحد» الذي لم يتفق حتى الآن، على قائد واحد، رغم أن مختلف أطرافه بدأت تلتف حول السياسي المعروف نائب رئيس الوزراء ووزير المالية الأسبق، رافع العيساوي.

وعدت القوى التي تنتمي إلى هذا التحالف أن الإجراءات التي اتخذتها هيئة النزاهة تهدف إلى تصفية الفساد في المحافظة، الذي هو من وجهة نظرها محمي من الحلبوسي، إلا أن الأوساط المؤيدة للحلبوسي فرقت بين إجراءات مكافحة الفساد، حيث تؤيد ما تقوم به الحكومة من إجراءات، فإنها ترى أن دخول ما سمّتهم غرباء إلى داخل المحافظة بمثابة محاولات لزعزعة استقرار المحافظة.

وكان المئات من أبناء الطريقة الكسنزانية، وهي طريقة صوفية كردية، قدموا من محافظة السليمانية إلى الأنبار متظاهرين ضد «الفساد»، وهو ما عده المدافعون عن الحلبوسي بمثابة تدخل غير مبرر وغير مقبول من جهة من خارج المحافظة ولا تجيد التحدّث باللغة العربية.

«النزاهة» تدافع

من جانبها، دافعت هيئة النزاهة عن إجراءاتها بشأن محاربة الفساد المستشري في البلاد طبقاً لتوجيهات رئيس الوزراء. وقالت أوساط مقربة من النزاهة لـ«الشرق الأوسط»، إن «الادعاء بأن محافظة الأنبار مستهدفة لوحدها بإجراءات هيئة النزاهة ادعاء غير صحيح بالمرة». وبينت هذه الأوساط أن «ما قامت به الهيئة من إجراءات في الآونة الأخيرة ضد الفاسدين في كل المحافظات تفند هذا الادعاء وتؤكد أن تحركات مكافحة الفساد التي انطلقت بشكل جدي منذ تسلم الحكومة الجديدة مهامها لا تستهدف محافظة دون أخرى».

وأضافت أنه «جرى طبقاً لتلك الإجراءات تفكيك شبكة تهريب النفط في البصرة وميسان والإطاحة بكبار المسؤولين عليها، والقبض على رئيس هيئة استثمار ذي قار السابق لإضراره بالمال العام بأكثر من مليار دينار». كما بينت أنه «صدر الحكم على وزير النقل الأسبق بالحبس الشديد، وكذلك لمديري بلديات وصحة بابل الأسبقين». ومن بين ما تم تحقيقه في محافظات ومناطق خارج الأنبار «ضبط اختلاسات 26 صكاً بقيمة 292 مليون دينار بالمنح العقارية لشهداء واسط، وإيقاف صرف 60 مليار دينار لأحد المشروعات المنفذة بكربلاء، والقبض على مدير المصرف العقاري بالديوانية لاختلاسه ملياري دينار، واستقدام مدير عام تربية ميسان وموظفين آخرين لاستيلائهم على أكثر من 17 مليار دينار، فضلاً عن إجراءات أخرى في محافظات السماوة والديوانية وبغداد».

قوى «الإطار التنسيقي» خلال أحد اجتماعاتها بحضور السوداني في فبراير الماضي (واع)

علاوي يستعد

في غضون ذلك، أعلن رئيس الوزراء الأسبق وزعيم ائتلاف الوطنية إياد علاوي مشاركته في الانتخابات المحلية والسعي للتصدي لكثير من القضايا. وقال علاوي في مؤتمر صحافي يوم الجمعة: «إننا نسعى إلى عقد تحالفات مع أطراف أخرى بهدف المشاركة بقوة ومنع أي محاولات لسرقة مال المواطنين».

وأشار إلى أن «العملية الانتخابية لن تكون نزيهة بشكل كامل، لكن ستكون هناك محاولات لضمان عدم التلاعب بالنتائج لكونها غير سياسية إنما انتخابات خدمية». وبشأن نسبة المشاركة، أوضح رئيس ائتلاف الوطنية أن «المشاركة قد لا تصل إلى 70 أو 80 في المائة، ومن الممكن أن يكون هناك عزوف عن المشاركة في الانتخابات». وبيّن علاوي أن «المجالس المحلية حلقة زائدة في حقيقتها، لكن التعامل معها سيكون بمثابة الأمر الواقع، خصوصاً أنها واردة في الدستور الذي يحتاج إلى بعض التعديلات». وبالنسبة للقوى المدنية الأخرى، ومنها قوى «انتفاضة تشرين»، «فسنعمل على إقناع الشارع العراقي، خصوصاً فئات تشرين بالمشاركة في الانتخابات، لأنها ليست سياسية بقدر ما هي لتقديم الخدمات».


مقالات ذات صلة

السوداني: 63 مليار دولار حجم الاستثمارات العربية والأجنبية بالعراق خلال عامين

الاقتصاد السوداني ملتقياً ممثلي 24 شركة بريطانية كبرى خلال زيارته المملكة المتحدة (وكالة الأنباء العراقية)

السوداني: 63 مليار دولار حجم الاستثمارات العربية والأجنبية بالعراق خلال عامين

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الأربعاء، أن العلاقة بين العراق وبريطانيا شهدت مشاريع حقيقية بقيمة 1.5 مليار دولار خلال عام 2024.

«الشرق الأوسط» (لندن - بغداد)
الاقتصاد أثناء توقيع مذكرة التفاهم بين الجانب العراقي و«بي بي» بحضور وزير النفط حيان عبد الغني (وكالة الأنباء العراقية)

العراق يوقِّع مذكرة تفاهم مع «بي بي» لتقييم إمكانية إعادة تطوير حقل كركوك والحقول المجاورة

وقَّع العراق مذكرة تفاهم مع شركة «بريتيش بتروليوم» (بي بي) البريطانية، لتقييم إمكانية إعادة التطوير المتكامل لحقل كركوك والحقول المجاورة.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر خلال استقباله السوداني في لندن يوم 14 يناير 2025 (أ.ب)

اتفاق بريطاني ــ عراقي على مكافحة تهريب البشر

اتفق العراق والمملكة المتحدة على معالجة الهجرة غير الشرعية، وإعادة الذين لا يملكون حق الوجود في الأراضي البريطانية ضمن اتفاقية شراكة وصفتها بغداد بـ«التاريخية».

«الشرق الأوسط» (لندن) حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي مجلس محافظة ذي قار جنوب العراق (إكس)

صراع داخل «الإطار التنسيقي» يفضي إلى إقالة محافظ عراقي

صوّت مجلس محافظة ذي قار الجنوبية، الثلاثاء، بالأغلبية على إقالة المحافظ مرتضى الإبراهيمي، في تطور عدّه مراقبون مؤشراً على الانقسام داخل «الإطار التنسيقي».

فاضل النشمي (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال جلسة لمجلس الوزراء (رويترز) play-circle 01:44

رئيس وزراء العراق: سأوقِّع شراكة استراتيجية واتفاقاً أمنياً مع بريطانيا

قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إنه سيوقِّع اتفاق شراكة استراتيجية واتفاقاً أمنياً مع بريطانيا بعد توجُّهه إلى هناك في زيارة رسمية، الاثنين.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

المقابر الجماعية «ملاذ» لسوريين أضناهم البحث عن مفقوديهم

أشخاص يبحثون عن جثث في خندق يُعتقد أنه يُستخدم مقبرةً جماعية على مشارف دمشق في ديسمبر الماضي (أ.ف.ب)
أشخاص يبحثون عن جثث في خندق يُعتقد أنه يُستخدم مقبرةً جماعية على مشارف دمشق في ديسمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

المقابر الجماعية «ملاذ» لسوريين أضناهم البحث عن مفقوديهم

أشخاص يبحثون عن جثث في خندق يُعتقد أنه يُستخدم مقبرةً جماعية على مشارف دمشق في ديسمبر الماضي (أ.ف.ب)
أشخاص يبحثون عن جثث في خندق يُعتقد أنه يُستخدم مقبرةً جماعية على مشارف دمشق في ديسمبر الماضي (أ.ف.ب)

لم يفقد الثمانيني السوري عبد الرحمن عذب، الأمل بالعثور على دليل يحدد مصير ابنه المفقود منذ إحدى عشرة سنة؛ فحص وجوه من يغادرون السجون حتى فرغت، وبحث بلا كلل في المشافي. أخيراً لم يجد الرجل ملاذاً سوى تتبع المواقع التي يُعتقد أنها تضم مقابر جماعية، على ما في ذلك من ألم لأب مكلوم دفن ثلاثة من أبنائه، ويعيش راهناً على أمل العثور على رابعهم أو حتى مواراته الثرى.

وتُقدر أعداد «المفقودين والمعتقلين تعسفياً» منذ عام 2011 وحتى نهاية العام الماضي، بنحو 136614 شخصاً وفق ما توثق «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»، التي تقول إن هناك 113 ألف مفقود مصيرهم لا يزال مجهولاً بعد إفراغ السجون.

ومأساة عائلة عذب عمرها من عمر الحراك الثوري في سوريا، إذ يقول الأب إنه كان لديه «6 أبناء من الذكور، وبنتان»، ويضيف بأسى: «كانوا 4 مهندسين ومعلمتين، وفي بداية الثورة خرجوا في المظاهرات ضد النظام وأنا خرجت معهم، لكن النظام قتل ثلاثة من أبنائي وأعادهم إلى جثامين ممزقة في أكياس سوداء، آخر عام 2011، دفنتهم وأقمت العزاء، ورضيت بقضاء الله، واعتبرتهم فداء لسوريا: كنت مطمئناً إلى أنهم في مكان آمن».

لكن بعد وفاة أولاده الثلاثة بعامين، اختفى ابنه الرابع في دمشق، وغادر المتبقون البلاد.

ملاحقة المقابر

يقول عذب لـ«الشرق الأوسط» إنه في رحلة للبحث عن ابنه يلاحق وأفراد عائلته مواقع المقابر الجماعية التي يُكشف عنها في سوريا خلال الشهر الأخير.

وفي الرابع من الشهر الحالي، أفادت مواقع محلية سورية، أن الأهالي عثروا على مقبرة جماعية بمحيط الفرقة التاسعة في مدينة الصنمين في الريف الشمالي من محافظة درعا في جنوب سوريا، وسبق ذلك الاكتشاف بأسبوعين، تقريباً، الإعلان عن اكتشاف مقبرة جماعية في «مزرعة الكويتي» على أطراف ريف درعا الأوسط، «وكانت المنطقة تحت سيطرة ميليشيا تابعة لفرع الأمن العسكري، وتم استخراج 31 جثة، بينها نساء وطفل».

وكان فريق من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، أعلن أنه زار موقعاً في حي التضامن جنوب دمشق يومي 11 و12 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ووجد «أعداداً كبيرة من الرفات البشرية في موقع مجزرة وقعت في أبريل (نيسان) 2013 وأخرى مبعثرة في أنحاء الحي المحيط».

لا خبرات أو معلومات

وتمثل مشكلة العبث وغياب الخبرات الاحترافية في التعامل مع المقابر، أزمة رئيسية في مسار البحث عن المفقودين، فمن بين المقابر التي تم العثور عليها في درعا، تعرضت مقبرة «الصنمين» للعبث برفات الجثث والملابس رغم توصيات الدفاع المدني بضرورة الحفاظ على الموقع. ونجت 31 جثة مجهولة الهوية عُثر عليها في «مزرعة الكويتي» من العبث، ونُقلت إلى مقبرة الشهداء الواقعة على طريق الشيخ مسكين – إزرع.

قبل وصول عذب وعائلته إلى مأساة تتبع المقابر، بحثوا في سجني صيدنايا، وعدرا، وغيرهما من المعتقلات، يروي الرجل: «نبشنا الأوراق والوثائق وقوائم الأسماء والمشافي في دمشق، وسألنا الناشطين في مجال المعتقلين... كنا كمن يبحث عن إبرة في كوم». ويشكو من الفوضى و«تضارب المعلومات، وضياع الأوراق».

أبواب سجن صيدنايا الحديدية فُتحت لإطلاق سراح جميع المساجين (إ.ب.أ)

وفي ظل غياب المعلومات، راجت على نحو واسع على منصات مواقع التواصل، خاصة بعد الإعلان عن إفراغ السجون، أنباء عن رصد مقابر جماعية في مناطق متفرقة من البلاد بلغ عددها تقريباً 15 مقبرة تركزت في درعا، وريف دمشق، وحلب.

ولا تحيط الفوضى فقط بعملية البحث عن المفقودين، إذ تطول كذلك الأرقام المتداولة عمن تضمهم المقابر، فبينما قدر حقوقيون وجود مئات الآلاف من الجثث، تذهب إفادات إلى عشرات الآلاف.

ولعل الأرقام الوحيدة الموثقة راهناً بملف المقابر الجماعية تلك التي عثر عليها في حلب وبلغ عددها خمس مقابر، وكان يتم الدفن فيها عبر «مكتب دفن الموتى» التابع لحكومة النظام المخلوع، الذي بدأ منذ عام 2012 بإرسال جثث القتلى في المعتقلات والسجون بحلب مرّمزة بالأرقام إلى المشفى العسكري ليتسلمها مكتب دفن الموتى، بحسب تصريحات لمدير المكتب، الذي كشف عن دفن ثمانية آلاف جثة في مقبرة خان العسل غرب حلب، ونحو ألف وخمسمائة جثة في مقبرة حلب الجديدة، وألف ومائتي جثة في مقبرة نقارين بمدينة حلب.

مقبرة القطيفة

وتبرز مقبرة القطيفة (40 كيلو متراً شمال دمشق) بوصفها واحداً من الأمثلة على تضارب المعلومات، فهي تضم «أكثر من مائة ألف جثة» بحسب «المنظمة السورية للطوارئ» التي قالت إن تقديرها «متحفظ». ولعل موقع «القطيفة» هو ما عزز التقديرات بشأن حجم ما تضمه من الجثث، إذ تمتد على مساحة شاسعة بالقرب من مقر قيادة «الفرقة الثالثة» التابعة لقوات النظام السابق.

معاناة أخرى لذوي المفقودين، تمثلها عالية (60 عاماً) التي تنتمي لريف دير الزور، جاءت السيدة إلى دمشق بحثاً عن ابنها الطالب في الجامعة الذي اختفى عام 2014، عند حاجز القطيفة على طريق حمص ـ دمشق.

مدينة دير الزور شرق سوريا (رويترز)

تقول الأم لـ«الشرق الأوسط»: «لست متأكدة من اختفائه عند القطيفة، لكننا فقدنا الاتصال معه قبل وصوله إلى هذا الحاجز، وقد بحثنا عنه طويلاً دون جدوى، وعندما فتحت المعتقلات والسجون بعد سقوط النظام شعرت أنني سأعثر عليه، لكن بلا فائدة».

تواصل السيدة: «بعد التأكد من عدم وجوده في المعتقلات والمشافي، مشيت كل شوارع الشام وكل مكان قيل إن فيه معتقلين ولم أجده، هو أصغر أبنائي وأريد ضمه إلى قلبي»، وتتابع: «إذا لم يكن حياً أريد رفاته لأبني له قبراً أزوره».