روما 1960: بيكيلا المذهل يعلن إثيوبيا أرض العدّائين

الإثيوبي أبيبي بيكيلا ينهي سباق الماراثون في أولمبياد 1960 حافياً (أ.ف.ب)
الإثيوبي أبيبي بيكيلا ينهي سباق الماراثون في أولمبياد 1960 حافياً (أ.ف.ب)
TT

روما 1960: بيكيلا المذهل يعلن إثيوبيا أرض العدّائين

الإثيوبي أبيبي بيكيلا ينهي سباق الماراثون في أولمبياد 1960 حافياً (أ.ف.ب)
الإثيوبي أبيبي بيكيلا ينهي سباق الماراثون في أولمبياد 1960 حافياً (أ.ف.ب)

الإثيوبي أبيبي بيكيلا عداء مذهل يجري حافي القدمين، وكأنه في سهوب بلاده يركض خلف الخرفان.

فاز في ماراثون دورة روما 1960 في الأمسية الأخيرة من الألعاب، واجتاز خط النهاية نَضِراً غير متأثر بالمسافة والجهد، فأدهشت لياقته البدنية وحيويته الأطباء بعد عناء 42.195 كم.

اخترق «السائح الإثيوبي» شوارع العاصمة الإيطالية مكتشفاً روما القديمة، وحاصداً الانتصار، ومحطّماً الرقم القياسي الذي حققه التشيكوسلوفاكي إميل زاتوبيك في دورة هلسنكي 1952 (2:23:03.2 ساعة).

خرج بيكيلا (28 عاماً)، الجندي في الحرس الإمبراطوري الإثيوبي من بين الصفوف، واخترق الطليعة ليبلغ خط النهاية حافي القدمين، فالأحذية الرياضية لا تريحه، والجري من دونها أسهل. سجّل 2:15:16.2 ساعة مقابل 2:15:41.6 ساعة للمغربي عبد السلام الراضي.

وكان بيكيلا (58 كلغ، 1.76 م) نموذجاً لجيل من العدائين الأفارقة الذين طبعوا المسافات الطويلة بطابعهم الخاص، والحصاد المثمر لمدرّب اللياقة البدنية في كتيبة حرس الإمبراطور هايلي سيلاسي، السويدي أومني نيسكانن المولود في هلسنكي.

قبل أربع سنوات من موعد الألعاب، اكتشف المدرّب الخبير جندياً شاباً انخرط في صفوف الحرس الإمبراطوري منذ سن المراهقة، بهره بقدرة تحمله. شاب قادم من الريف البعيد ومولود في 7 أغسطس (آب) 1932، وهو اليوم الذي نظّم فيه سباق الماراثون في دورة لوس أنجليس الأولمبية.

عندما فاز بيكيلا بذهبية روما كان العداء الحافي القدمين مجهولاً، لكن وقته القياسي جعل منه أسطورة؛ لكونه أول رياضي أفريقي أسود يتوج بطلاً أولمبياً. ومن المفارقات أنه أحرز لقبه في روما عاصمة الدولة التي استعمرت بلاده إثيوبيا، واجتاز خط الوصول (تحت قوس قسطنطين على بعد خطوات من الكوليزيه)، من حيث أرسل موسوليني قبل ربع قرن قواته لتغزو بلاد الحبشة.

بيكيلا ابن مزارع فقير من قبيلة أمهارا في جنوب إثيوبيا، شديد السمرة، أشعث الشعر، حاد الأنف، بدأت مواهبه الرياضية تبرز في دورات عسكرية محلية. تولّى شؤونه نيسكانن وقاده إلى ذلك النصر التاريخي الكبير.

وعندما عاد إلى بلاده كان طبيعياً أن يُستقبل استقبال الأبطال. وقد أهداه النجاشي (الإمبراطور) شقّة وسيارة. ولكن بعد فترة وجيزة حصل تمرّد في القصر الإمبراطوري (13 ديسمبر «كانون الأول») تم على إثره اعتقال جميع أفراد الحرس وإعدامهم رمياً بالرصاص، باستثناء بيكيلا الذي تدخل الإمبراطور شخصياً لإنقاذه، وقيل يومها إن ذهبيته الأولمبية أنقذته.

ومع حلول موعد أولمبياد طوكيو 1964، تردّد مدرب المنتخب الإثيوبي في ضمّ بيكيلا إلى الفريق لأنه كان قد خضع قبل خمسة أسابيع لعملية إزالة الزائدة الدودية. وفي أي حال خاض العداء السباق منتعلاً حذاء رياضياً هذه المرّة وفاز به مسجّلاً 2:12:11 ساعة، فبات أوّل من يحتفظ بلقب هذا السباق الصعب. واستقبل في بلاده استقبال الفاتحين وكوفئ بترفيعه إلى رتبة ملازم.

وفي أولمبياد مكسيكو 1968، اضطر بيكيلا للانسحاب بعد 17 كلم من الماراثون بسبب إصابة في قدمه.

وكان هذا الأمر بسيطاً بالمقارنة مع ما تعرّض له لاحقاً هذا البطل الأولمبي المتزوّج (له أربعة أولاد) عندما أصيب بالشلل نتيجة حادث سيارة عام 1969. غير أن عزمه الذي لا يلين دفعه إلى المشاركة في مسابقة لرمي السهام وهو على مقعد متحرّك في إنجلترا. وفي 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، تُوفي عن 41 عاماً إثر نزيف في الدماغ، وأقيم له في بلاده مأتم مهيب في يوم أعلنه الإمبراطور يوم حداد وطني.

لطالما فضّل بيكيلا أن يعدو حافي القدمين لشعوره براحة أكبر وتلقائية. كان فقط ينتعل الحذاء عندما يشعر أن المسار سيعرّضه لإصابة أو جرح. ونتيجة ذلك، قسا الجلد في أسفل قدميه وباتت سماكته ميلليمترات، فبدا وكأنه نعل «طبيعي»، ولم يعد ينزعج أو يشعر بوخز أو ألم.

كان بيكيلا يتدرّب مرّتين يومياً، في الصباح الباكر وقبل المغيب. يقوم بإحماء لمسافة طويلة ثم يجري سلسلة 1500 م لتنمية السرعة، فضلاً عن حصص جري طويل في الريف. وهذا التنويع مفيد لا سيما أن المنطقة جبلية والأمكنة المطلوبة متوافرة.

كما طلب نيسكانن من تلميذه الهرولة صعوداً نحو المرتفعات والهضاب بسرعة كبيرة، فضلاً عن قيامه بتمارين جمباز لليونة، ويرفع أثقالاً خفيفة. وتجاوب قلب بيكيلا كان ممتازاً، ونبضه يسجّل 45 دقة في الدقيقة في أوقات الراحة.

كشف بيكيلا عن أنه قبل سباق روما قال له نيسكانن إن حظوظه كبيرة بالفوز، وطلب منه مراقبة العدائين السوفيات والمغربي الراضي، وأن يكون حذراً ومتيقظاً، وألا يتقدّم ويتصدّر قبل الكيلومتر 30، ويمكنه فقط أن يأخذ زمام الأمور في البداية إذا كان السباق بطيئاً.

وأضاف: «انطلقت أخيراً عندما حان الوقت، ولا أزال أملك خزاناً من اللياقة. أنا سعيد لبلدي وللإمبراطور وزوجتي التي تنتظرني في بيتنا الصغير في أديس أبابا».

في السباق التأهيلي للألعاب، اجتاز بيكيلا المسافة بزمن مقداره 2:21:30 ساعة، علماً بأن المسار كان أصعب بكثير، وطول المسافة صعوداً 10 كلم، والانحدار العام 250 م في مقابل 90 م في روما. كما أن العاصمة الإثيوبية تقع على ارتفاع يتراوح بين 2000 م و3 آلاف م عن سطح البحر.

في روما، خاض بيكيلا ماراثونه الثالث، وسبق أن برع على مسافة 25 كلم، ورقمه في 5 آلاف 14:36 دقيقة، علماً بأن لا أرقام مسجّلة له رسمياً في 10 آلاف م. لكن مؤشرات أدائه تؤكّد مقدرته على اجتياز هذه المسافة (25 لفّة مضمار 400 م) بزمن دون 29 دقيقة. ومتى توافرت ظروف مثالية لخوض سباقات على الساحل، يمكنه تحطيم رقم زاتوبيك ضد الساعة.

كان نيسكانن يأمل بالكثير من كوكبة عدائين إثيوبيين شبان يعدهم للبطولات المقبلة. وبيكيلا أوّل غيث تلك القافلة التي انطلقت، فبعد احتفاظه باللقب في طوكيو، فاز مواطنه مامو والدي في دورة مكسيكو عام 1968.


مقالات ذات صلة

مينغ تحل محل أوبيردورف في منتخب ألمانيا للسيدات

رياضة عالمية مينغ تحل محل أوبيردورف في منتخب ألمانيا للسيدات

مينغ تحل محل أوبيردورف في منتخب ألمانيا للسيدات

تحل جانينا مينغ محل لينا أوبيردورف، المصابة، في قائمة المنتخب الألماني للسيدات، التي ستشارك في منافسات كرة القدم بأولمبياد باريس. 

«الشرق الأوسط» (فرانكفورت)
رياضة عالمية عاشت الدورة أكبر الاعتداءات الدراماتيكية في تاريخ الألعاب (أ.ب)

«أولمبياد 1972»: «كوماندوز» يرعب دورة ميونيخ… وبروز الرياضيات الحسناوات

الأولمبياد العشرون في مدينة ميونيخ البافارية، في ألمانيا؛ القوّة الاقتصادية والشعب المجتهد الذي أزال عنه آثار الحرب العالمية الثانية المدمّرة.

«الشرق الأوسط» (نيقوسيا )
رياضة عالمية تطوير نظام التبريد في مقصورة القيادة في «فورمولا 1» (د.ب.أ)

«فورمولا 1» ستختبر نظام التبريد في مقصورة القيادة

ذكر تقرير إعلامي أن «فورمولا 1» ستختبر نظام التبريد في مقصورة القيادة بعد مخاوف من تعرض السائقين لدرجات حرارة شديدة.

«الشرق الأوسط» (بودابست)
رياضة عربية طارق السكتيوي مدرب منتخب المغرب الأولمبي (الجامعة المغربية)

«أولمبياد باريس»: المغرب لفك نحس دور المجموعات

يطمح المنتخب المغربي إلى فك نحس الخروج من دور المجموعات لمسابقة كرة القدم في دورة الألعاب الأولمبية.

«الشرق الأوسط» (الدار البيضاء)
رياضة عالمية صورة لدخول المشاركين في أولمبياد طوكيو 1964 (الأولمبية الدولية)

«أولمبياد 1964»: غياب الصين... و«البربري الهولندي» يتسبب في يوم حداد لليابان

قصد الأولمبياد الثامن عشر طرفاً بعيداً من العالم، فاتجه عام 1964 نحو العاصمة اليابانية طوكيو التي كان مقرّراً أن تستضيف ألعاب 1940.

«الشرق الأوسط» (نيقوسيا)

البطل البارالمبي البريطاني ماكفال… أول رائد فضاء من ذوي الهمم

جون ماكفال (رويترز)
جون ماكفال (رويترز)
TT

البطل البارالمبي البريطاني ماكفال… أول رائد فضاء من ذوي الهمم

جون ماكفال (رويترز)
جون ماكفال (رويترز)

أعلنت وكالة الفضاء الأوروبية أنّ البطل البارالمبي البريطاني السابق جون ماكفال الذي اختارته ليتدرّب حتى يصبح أوّل رائد فضاء من ذوي الاحتياجات الخاصة يذهب إلى الفضاء، يمكنه البقاء بأمان في محطة الفضاء الدولية.

وقال جيروم رينيكس، المسؤول عن دراسة جدوى أُعلنت نتائجها الجمعة «في هذه المرحلة، لم نحدّد أي عقبة فنية تعوق إمكانية قيام جون ماكفال بمهمة طويلة الأمد (ستة أشهر) في محطة الفضاء الدولية، كعضو بمهمة كاملة في الطاقم».

وفي العام 2022 اختارت وكالة الفضاء الأوروبية جون ماكفال، وهو طبيب وبطل سابق في سباق السرعة في الألعاب البارالمبية بُترت ساقه اليمنى، للانضمام إلى برنامجها التدريبي في إطار هذه الدراسة التي لم تنجزها أي وكالة فضاء أخرى حتى اليوم، بهدف أن يصبح أول «رائد فضاء من ذوي الاحتياجات الخاصة» في التاريخ.

وهكذا شارك جراح العظام البالغ 43 عاماً في التدريب الأساسي لرواد الفضاء، ولا سيما في دورات النجاة في الظروف القاسية، بالإضافة إلى تدريب محدد لرواد الفضاء المكلفين بمهمة في المدار.

وقال جون ماكفال خلال مؤتمر صحافي «لقد أثبتت أنني قادر على تلبية المتطلبات»، مضيفاً «هذا لا يضمن فرصة التوجّه إلى الفضاء، لكننا أثبتنا أنّ ذلك ممكن من الناحية الفنية لشخص يعاني من نفس إعاقتي».

واختبر رائد الفضاء قدرته على الإخلاء الطارئ للمركبة الفضائية التي تتوجّه إلى محطة الفضاء الدولية. وقال «كان عليّ وضع طرفي الاصطناعي خلال عملية الإطلاق، داخل بزتي الفضائية».

وخلال الرحلات الجوية المكافئة التي تتسبب بحالات انعدام توازن لبضع ثوان، تأكّد من أنّه قادر على المشاركة في إجراءات الطوارئ لمهمة في المدار، وكذلك في الأنشطة اليومية داخل محطة الفضاء الدولية.

وسيكون قادراً على استخدام آلات التمرين البدني الموجودة في المحطة من دون مشكلة (أجهزة المشي، دراجات التمرين...)، وهي ضرورية لحماية الجسم من تأثيرات الجاذبية الصغرى.

ولا تأخذ الدراسة في الاعتبار سوى الإعاقة المحددة للرياضي السابق الذي بترت ساقه، وهو في التاسعة عشرة بعد تعرّضه لحادث دراجة نارية. وقال رينيكس «إننا نسير خطوة خطوة، نريد في البداية التركيز على إمكانية إنجاز المهمة مع جون ماكفال قبل التوسّع لإعاقات أخرى».