يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي

خليط من أمراء الحرب يضم دواعش وفيدراليين

مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})
مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})
TT

يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي

مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})
مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})

التردد على حقل تبستي النفطي، في جنوب شرقي صحراء سرت ليس سهلا. العمال والمهندسون يعتمدون على طائرات صغيرة لتجاوز النقاط التي يسيطر عليها تنظيم داعش في ليبيا. في يوم من الأيام جاء صوت من الحقل النفطي المجاور بعد أن سيطر عليه التنظيم المتطرف، عبر جهاز اللاسلكي إلى حقل تبستي الذي يبعد عنه نحو مائة كيلومتر: «الدولة الإسلامية سيطرت على الحقل. نحن في الطريق إليكم أيها المرتدّون».
حين بدأت خطة للإجلاء والهروب، كانت اثنتان من الطائرات الأربع، معطلتين وتحتاجان إلى صيانة. لا توجد سيارات. وانتشرت حالة من الهلع. واستغرق الأمر نصف نهار لكي يصلح المختصون مروحة في موتور الطائرة الأولى وترميم خرطوم البنزين في الطائرة الثانية.

رغم محاولات المجتمع الدولي وعدة أطراف ليبية وضع حد للفوضى التي تعاني منها البلاد، فإن التحديات تبدو أكبر من مجرد اللقاءات والحوارات والحلول السياسية. توجد قوات على الأرض تديرها جماعات مختلفة، يقدر عددها بمئات الجماعات. لكن الأمر الخطير الذي يمكن أن يدفع بالبلاد إلى مزيد من دوامة الحرب الأهلية يكمن في نحو خمسة تجمعات شبه عسكرية كبرى، تنتشر في مناطق جغرافية محددة في عموم البلاد، وتتميز بالدعم المالي والتسليح الجيد مع وجود أجهزة لدى كل منها مماثلة للأجهزة الأمنية والاستخباراتية المعروفة في الدول. يمكن أن تقول إن كل مجموعة تشكل دويلة صغيرة لها قيادات وجنود وأهداف ليست محلية فقط، ولكنها عابرة للحدود أيضا.
وفي هذه الحلقات تسلط «الشرق الأوسط» الضوء على الفوضى التي ساعد على ظهورها واستمرارها أمراء حرب ولصوص وميليشيات وكتائب ظهرت من مختلف التوجهات، عقب رحيل نظام معمر القذافي، سواء في طرابلس أو مصراتة أو درنة أو سرت وبنغازي، إلى جانب الوضع البائس للجيش الوطني الليبي الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، إذ إنه يعاني من نقص في التسليح وفي العتاد وفي الجنود، خصوصا أمام جحافل المتطرفين المتحصنين في ثلاث ضواحٍ رئيسية في بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، وأمام قوى الميليشيات المسيطرة على العاصمة وعدة مدن أخرى.
هل سمعت عن «داعش» في سرت؟ نعم. لقد تمدد التنظيم في هذه المدينة، مسقط رأس القذافي، والمكان الذي قتل فيه أيضًا في خريف عام 2011. ظهر التنظيم الدموي هنا العام الماضي، وانطلق من هذه المدينة للسيطرة على الهلال النفطي. المشكلة لا تتعلق بتمركز «داعش» في سرت فقط، ولكن في العلاقات الخفية التي ظهرت في الشهور الثلاثة الماضية بين عناصر التنظيم وقوة شبه عسكرية تسيطر على مناطق في إجدابيا، وهي أول مدينة كبيرة تقع على بعد 400 كيلومتر شرق سرت.
هل تتذكر الاجتماعات التي كانت تعقد في إجدابيا للمطالبة بالحكم الفيدرالي في ليبيا، ومنح برقة، الإقليم الشرقي من البلاد، ما يشبه الحكم الذاتي؟ لقد ظهرت تلك الدعاوى بعد أن انشق آمر المنشآت النفطية بقواته في تلك المنطقة، ويدعى إبراهيم، عن الحكومة التي كانت ما زالت مركزية في العاصمة طرابلس برئاسة الدكتور علي زيدان. يزعم آمر هذه المنشآت أن لديه عشرين ألف مقاتل. وأغلق غالبية موانئ تصدير النفط بزعم أن جماعة الإخوان التي كانت تهيمن على حكومة زيدان تقوم بسرقة النفط لصالحها. وبعد أن صوت الناخبون الليبيون في صيف عام 2014 للبرلمان الجديد الخالي من الأغلبية الإخوانية، ورغم منح هذا البرلمان الثقة لحكومة عبد الله الثني غير الإخوانية أيضا، فإن معظم موانئ التصدير هناك ما زالت مغلقة.
الهجمات الخاطفة على حقل الغاني التي بدأت مطلع العام الماضي وما تلاها من هجمات على حقول نفطية أخرى صغيرة منتشرة في الهلال النفطي، حتى الآن، كانت تنذر بأن «داعش» ينتفخ ويدور ويكبر مثل العاصفة الرملية. قتل من قتل من مهندسين وموظفين ليبيين وعرب وأجانب، واستولى على سيارات ومعدات وأجهزة حواسب عليها معلومات مهمة، وسرق أجهزة الاتصالات (موجات البث بالراديو) التي يصل مدى الواحد منها إلى نحو ألف كيلومتر مربع. وكل من يجده من حراس المنشآت النفطية (الفرع التابع للجيش) يذبحه ثم يعلقه على الصواري، ويشعل النيران في الحقل ويمضي. وبعد ذلك وصل، كما شاهد العالم أخيرا، إلى ميناء رأس لانوف نفسه.
السؤال الذي ظهر بين المهندسين الليبيين المذعورين، عقب الهجوم الذي شنه «داعش» سرت على المنشآت النفطية وعلى ميناء رأس لانوف وحرق خزانات النفط فيه قبل أسبوعين، هو كالآتي: لماذا لم تقاوم القوات التي يزعم آمر المنشآت النفطية أنه يملكها في غرب إجدابيا الهجوم الداعشي؟ وأين قوات الجيش الوطني؟ الواقع على الأرض في تلك المنطقة، أي في مدينة إجدابيا وما حولها، يلخص كل شيء تقريبا. تنقسم المدينة إلى منطقتين للنفوذ. منطقة الشرق وتهيمن عليها قوات موالية للجيش الوطني. وغالبية المنخرطين في هذه القوات من قبيلة زوية. أما القسم الغربي من المدينة فتهيمن عليه قوات تابعة لآمر المنشآت النفطية الذي يبدو أنه مستمر في العمل لحسابه الخاص، وله تصريحات هجومية ضد الفريق أول حفتر. ويوجد نشاط في القسم الغربي أيضًا لتنظيم داعش، من خلال القيادي الداعشي المدعو أسامة، وهو شقيق إبراهيم، آمر المنشآت نفسه. وأكثر المنخرطين في القسم الغربي من المدينة ينتمون إلى قبيلة المغاربة. أما عميد بلدية إجدابيا فيدعى سالم، وهو الشقيق الثالث للأخوين الفيدرالي إبراهيم والداعشي أسامة.
ويقول أحد ضباط الأمن الليبيين إن القسم الغربي من إجدابيا يبدو تحت سيطرة خليط مبهم يضم دواعش وفيدراليين وأمراء نفط ولصوص ينهبون المعدات الحكومية والخاصة، أو من يطلق عليهم بعض المهندسين الذين فروا بأعجوبة من حقلي الغاني وتبستي «أشباح إجدابيا». وبعد هروب العمال من تبستي، كرر «داعش» الهجوم على مواقع أخرى. قام بتفجير الخط الطويل الذي ينقل الزيت النفطي الخام من حقلي البيضاء وتبستي، إلى الخزانات العملاقة في ميناءي الهروج والسدرة. وأخذت الفوضى تضرب المنطقة النفطية الشاسعة الممتدة من البريقة إلى سرت.
يوجد في ليبيا جهاز لحراسة المنشآت النفطية تابع للجيش، لكن توجد مخلفات تركتها أيام هيمنة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة على حكم ليبيا منذ رحيل القذافي وحتى منتصف عام 2014. ومن هذه المخلفات، الميليشيات الخاصة التي تقوم بحراسة المنشآت، مثل الميليشيا التي يترأسها إبراهيم في إجدابيا وكان يسعى من خلالها لفرض الحكم الفيدرالي في شرق البلاد. وهو موضوع يرفضه على ما يبدو غالبية الليبيين في الشرق، وبالتالي اختفت دعاوى الفيدرالية بينما أصبحت هذه الميليشيا تضغط للحصول على مكاسب، وتقيم علاقات غامضة مع باقي القوى بما في ذلك تنظيم داعش، كما يقول أحد ضباط الجيش الليبي في شرق إجدابيا.
ويضيف: «قوات إبراهيم موجودة في غرب إجدابيا، فلماذا لم تقف ضد (داعش)؟»، مشيرا إلى أن قوات «داعش» لم تهدأ طوال الأيام الماضية، وهي دائبة التحرك نهارا جهارا قرب المناطق النفطية في زلة ومرادة وحقل 103 وحقل المبروك وحقل تبستي وحقل الناقة وغيرها. وبينما كان «داعش» يشن هجماته على حقول النفط، كان القيادي الداعشي أسامة يأمر بإخلاء مستشفيات تقع في القسم الغربي من إجدابيا لعلاج جرحى التنظيم المتطرف سقطوا في ضربات بالطيران نفذها الجيش الليبي. وكان من بين الجرحى عناصر داعشية، ثلاثة تونسيين ومصريان وجزائري واحد.
ومن صفات الداعشي أسامة أنه صغير السن (أصغر من إبراهيم)، في العقد الثالث من العمر. وكان يعمل في الحرس الثوري، وهو من الأجهزة الأمنية التي كان يعتمد عليها القذافي في حكمه. ويقول أحد المقربين من هذا الشاب إنه أصبح قائدا ميدانيا لدواعش سرت وله لحية طويلة، ويقوم بين حين وآخر بزيارات لشقيقيه سواء آمر المنشآت المنشق، أو عميد بلدية إجدابيا. ويضيف أن علاقة الأشقاء بـ«داعش» أغضبت القبيلة التي ينتمون إليها، ولهذا عقدت اجتماعا لهذا الغرض، وأن أسامة وأخويه قالوا في الاجتماع إنهم لا علاقة لهم بـ«داعش» وأن أسامة لن يذهب إلى سرت مرة أخرى.
ويضيف قائد عسكري في شرق إجدابيا إن المدينة الآن منقسمة بين الدواعش والجيش. الجيش تحرك بعد أسبوعين من الاغتيالات التي قام بها المتطرفون ضد جنوده هناك، أما في الجهة الغربية حيث اتجاه سرت واتجاه الحقول النفطية فهذه المنطقة يسيطر عليها الدواعش. ولا توجد خطوط فاصلة بين جانبي المدينة. ولهذا تقع اشتباكات واغتيالات بين وقت وآخر. ويقول إن الآمر إبراهيم، حتى الآن، لا يظهر في الواجهة من هذا الصراع، بينما شقيقه أسامة ما زال يتردد على دواعش سرت.
حراسة المنشآت النفطية مثلها مثل بلدة إجدابيا، منقسمة بين موالاة الآمر إبراهيم وموالاة الجيش. وكل منهما يحصل على أجور من خزينة الدولة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ويقول أحد المسؤولين المحليين: «رغم مشكلة (داعش) ورغم إصرار إبراهيم على إغلاق قواته لمرافئ التصدير المهمة التي تقع تحت يديه، فإن القضية الأساسية التي تؤخر حسم هذه المشكلة تكمن في انتماء قطاع من حراسة المنشآت التابعة لإبراهيم لقبيلة المغاربة، وانتماء قطاع من حراسة المنشآت التابعة للجيش لقبيلة زوية».
ويضيف: «تقيم هاتان القبيلتان في نطاق جغرافي متقارب، من أول إجدابيا ومنطقة شخرة، إلى جالوا وأوجلة وحتى الكفرة جنوبا.. وأي محاولة لحسم الانقسام بين حراسة المنشآت ربما سيؤدي إلى اقتتال قبلي، وهذا ما لا يريده الجيش.. منذ سنوات وهم يفاوضون إبراهيم من أجل فتح الحقول، سلميا ودون قتال، لكنه يرفض، وأخيرا بدأ يتحدى قيادة الجيش نفسه».
وحاولت «الشرق الأوسط» التواصل مع آمر المنشآت إلا أن الرد من مكتبه كان في كل مرة يقول إنه مسافر خارج البلاد. وتقول المصادر الأمنية في إجدابيا إن إبراهيم كان موجودا في تركيا أثناء هجوم «داعش» على ميناء السدرة وعلى الحقول النفطية في الأيام الأخيرة.
وبرز في منطقة الهلال النفطي قادة يقيمون في إجدابيا، ولديهم علاقات مع دول مختلفة، ويقوم بعضهم بزيارات بالطائرات إلى بلدان في المنطقة. وكان أحد هؤلاء القادة يدير قبل سقوط نظام القذافي محلا لألعاب الفيديو للصغار في إجدابيا. وأصبح اليوم يدير شركات وأموالا بملايين الدولارات، مع ممتلكات في لبنان واليونان، تتنوع ما بين مزارع التفاح والفيلات وشركات النفط.
ورصدت الجهات الأمنية الليبية قيام أحد القيادات المحلية التي تدير ميليشيا في إجدابيا، ولها علاقات مشبوهة مع دواعش سرت، بالشروع في بناء قصر ضخم يقع في القسم الغربي من المدينة.. «موجود في المدخل الغربي من إجدابيا، وفي نفس الوقت يطل على الطريق الصحراوي الجنوبي المتجه إلى طبرق.. مساحة القصر على أرض تزيد مساحتها على ألفي متر مربع، وتبلغ كلفة المنشآت المبدئية للقصر نحو مليوني دولار».
منذ أواخر عام 2014 ومرورا بعام 2015 لم تكن عشرات الحقول النفطية تعمل بكامل طاقتها، بسبب الخلافات السياسية وحروب الميليشيات، بل إن بعضها كان متوقفا عن الإنتاج، وظل يقيم فيه، مع ذلك، بعض الحراس وبعض المهندسين. لقد غادرها الغالبية العظمى من المختصين الأجانب خوفا من الفوضى، خصوصا بعد تمدد «داعش» في المنطقة. من بعيد، في الصحراء الواقعة جنوب خليج سرت، وبعد منطقة مرادة بقليل، توجد آثار سيارات الدفع الرباعي لمقاتلي «داعش» القادمين من دول عربية وأفريقية.
للوصول إلى قلب الهلال النفطي، من الشرق، وعن طريق البر، لا بد أن تخرج من إجدابيا وصولا إلى منطقة البريقة.. من هناك يوجد شارع يهبط جنوبا ويصل إلى واحة الكفرة، اسمه طريق 110. هذا الطريق لم يكن في الإمكان أن يسير فيه أحد إلا إذا كان معه تصريح، لأنه طريق خاص بحقول النفط. كان في أيام حكم القذافي مغلقا بالأسلاك الشائكة، وفيه حواجز للجيش. وبعد انتشار «داعش» في تلك المناطق جرى منع التردد على الحقول بالسيارات، والاكتفاء بالتنقل بالطائرات الصغيرة التي تحمل من ثمانية إلى عشرة أفراد.
الميليشيات والدواعش سرقوا غالبية المعدات من حقول الهلال النفطي. ويقول ضابط في الجيش: «السرقة جرت تحت حماية الميليشيات والمتطرفين.. ومن قام بها إما عناصر تابعة لهم وإما عناصر تعمل لصالحهم.. وعلى هذا تم نهب الحقول القريبة من مناطق مرادة ومزدة وزلة، سرقوا أجهزة الاتصالات والمكاتب والمكيفات وما خف وزنه، أما السيارات فقد تعرضت للسرقة منذ البداية».
وكان مسؤولو حقل تبستي، حين شعروا بالخطر من سرقة ما لديهم، قد نقلوا السيارات الكبيرة وسيارات الإسعاف وغيرها إلى حقل الآمال الواقع جنوب إجدابيا. ويقول أحد المهندسين الذين عملوا في تبستي: «أمام هذا الخطر أبقينا فقط على المعدات الخفيفة والضرورية للعمل. كان عددنا في الحقل 49 موظفا من بيننا أربعة فلبينيين كانوا قد غادروا منذ وقت مبكر للأحداث.. وكان معنا من العرب سبعة مصريين بينهم ثلاثة يعملون كـ(هاوس بوي) وواحد مشرف للعمال. كان هناك مهندسون تونسيون لكنهم كانوا قد رحلوا مع بداية أحداث العنف».
ومع ذلك استمر الفنيون الليبيون في العمل حتى وقت قريب رغم المخاطر. وفي أحد الأيام هبطت الطائرة في الحقل. كان الوقت مساء. سرعة الطائرة لم تكن تتجاوز 130 كيلومترا في الساعة، مع أن سرعتها القصوى تزيد على مائتي كيلومتر في الساعة. إنها تشبه السيارة، لكن صوتها مرتفع. يوجد في الحقل نحو 25 بيتا مبنيا بالحجارة، وعدة كرفانات للمبيت أيضا. ومكاتب مجاورة تضم إدارات فنية وقسما للسلامة وآخر للاتصالات. من النافذة ترى أشجارا مبعثرة هنا وهناك وتعطي روحا للمكان الذي تحيطه رمال الصحراء من كل مكان. وبالقرب من مدخل الحقل يوجد مركز لصيانة الطائرات الأربع التي تتردد على الموقع.
داخل مكتب قسم الاتصالات فرغ المهندس، ويدعى عبد الله، من إبلاغ محطة رأس لانوف بتقارير الضخ الخاصة بالحقل. ومن رأس لانوف كان يجري الضخ في بعض الأحيان في البواخر الراسية في الميناء. ويحمل المهندس نفسه جهاز لاسلكي اسمه «لونج راديو» يغطي مساحة ألف كيلومتر مربع، وهو جهاز باهظ الثمن تصل قيمته إلى أكثر من عشرين ألف دولار، ويربط حقل تبستي بباقي حقول الهلال النفطي. في الصباح جاءت مكالمة من حقل الجفرة الذي يبعد بنحو 400 أو 350 كيلومترا. وقال المتحدث: «سمعنا عن مشكلة. ماذا حدث؟ هل لديكم أي معلومات عن اقتراب (داعش)؟».
وبدأ عبد الله في الاتصال بباقي الحقول، لمعرفة ماذا يجري، لكن لم يرد عليه أحد. وقفز إلى ذهنه ما قام به «داعش» في حقل الغاني.. لقد استولى التنظيم المتطرف على الحقل هناك وذبح عددا من العمال والمهندسين. وجاء صوت أحد الدواعش عبر اللاسلكي: «دولة الإسلام قادمة.»..
ويقول عبد الله إنه لم يكن يصدق ما يسمع. وارتدى حذاءه قبل أن يرتدي بنطاله من شدة الهلع. وخرج وهو ينادي على زملائه بأن «داعش» يقترب من الحقل، وأن عناصر التنظيم في الطريق إلى حقل مسلة، ثم إلى حقل القطرون، «وبعد ذلك يصلون إلينا في تبستي». ويضيف: «حين سمعت في اللاسلكي أن حقلنا موجود في خطتهم للسيطرة على الحقول النفطية، سلام يا صديقي.. بلّغت مراقب الحقل، فقال: إخلاء فوري».
ويضيف: «كان لدينا طائرتان متوقفتان عن العمل، إلى جانب طائرتين تعملان. وجرى على الفور عمل صيانة للطائرتين المتوقفتين، وبدأت الطائرات الأربع في عمل الإجلاء الفوري للعاملين في الحقل»، مشيرا إلى أن «المفروض الذي يحمينا هو حرس المنشآت التابع للحكومة في شرق البلاد. الدواعش حين يصلون إلى حقل من الحقول لا يبحثون عن الموظفين أو عن المهندسين ولكن يبحثون عن حرس المنشآت التابعين للجيش. يذبحون أي شخص يرتدي ملابس حرس المنشآت الموالية للقوات المسلحة بقيادة حفتر، أو أي شخص يعرفون أنه يعمل تبع القوات الحكومية الشرعية».
في حقل الغاني ثم في حقل آخر مجاور، ألقى «داعش» القبض على مجموعة كبيرة تتكون من نحو 21 شخصا من العمال والمهندسين. حققوا مع مراقب الحقول وكان اسمه المهندس الزلاوي. وتركوه. وحققوا مع مهندس ثانٍ بعد أن ربطوا يديه وعصبوا عينيه، فمات بالسكتة القلبية من الخوف في مكانه. ماذا يعني أن يربط «داعش» يديك ويعصب عينيك غير أنه يريد أن يذبحك؟ كان هذا الرجل مديرا عاما للحقل، وهو ليبي الجنسية. حققوا مع الباقين وتركوهم. مراقب الحقول قالوا له تعالَ اعمل معنا واغنم معنا، وغنائم الكفار حلال لكم. لكنه رفض. رجل آخر من بلدة زلة ممن جرى التحقيق معه وعيناه معصوبان أصيب بحالة نفسية مثل الهستريا وأصبح يتحدث مع نفسه، ولم ينفع معه علاج رغم أن أسرته نقلته للعلاج في الخارج.
وما زال يوجد في حقل تبستي عدد من الموظفين لكن ليس فيه عمل. العمل متوقف. والطعام يأتي عن طريق طائرة. تأتي بتموين يكفي أسبوعا أو أسبوعين وترجع. وهي تنطلق إلى هناك من حقل الآمال. والشركة التي تدير العمل هي شركة الهروج للنفط. كان اسمها من قبل شركة فيبا. وهي كانت أصلا شركة كندية حتى أواخر الثمانينات، ثم أخذتها الشركة الوطنية للنفط وسمتها شركة الهروج.
كانت ليبيا قبل مقتل القذافي تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميا، بينما أصبح متوسط الإنتاج اليوم يدور بين 200 ألف و300 ألف برميل يوميا. وإذا وضعت في الاعتبار الانخفاض الكبير لأسعار النفط في الأسواق العالمية، فعليك أن تتصور مدى الخسائر الاقتصادية التي يتعرض لها هذا البلد. فالرواتب متأخرة مع معاناة في وصول السلع، وارتفاع في أسعار غاز الطهي وانقطاع متكرر للكهرباء. وذعر في التنقل بالسيارات عبر الطرق السريعة بسبب الانفلات الأمني.
الحقول الصغيرة التي تحت يد شركة الهروج في الهلال النفطي تنتج 80 ألف برميل في اليوم تقريبا. وهناك شركات أخرى كانت تعمل في المنطقة حتى وقت قريب. وحقل تبستي يعد من أصغر هذه الحقول، إذ ينتج في اليوم ما بين ستة آلاف إلى ثمانية آلاف برميل. لكن غالبية هذه الحقول متوقفة الآن.
وتقول المصادر الأمنية إن «داعش» يريد السيطرة على الهلال النفطي. والتنظيم في الوقت الحالي يسيطر على المنطقة من سرت إلى بن جواد. ويضيف ضابط في الجيش الليبي: «سرت فيها شركة لتصنيع الغاز، والدواعش يسيطرون عليها الآن. هم يريدون السيطرة على ميناء السدرة الذي يضربونه منذ عدة أيام. ضربوا خزانين للنفط. حمولة الخزان نحو 100 ألف برميل. الخزان الواحد وملحقاته تبلغ كلفة بنائه ملايين الدولارات. كل هذا تم تدميره. نصف مليار دولار جرى حرقه في ساعات».
ووجه «داعش» ضربات إلى ميناء السدرة لأول مرة، ثم تراجع حتى البوابة الغربية، تحت مقاومة حرس المنشآت التابع للجيش الوطني. وهم، أي الدواعش، وفقا لشهود عيان «يتمركزون على بعد 10 كيلومترات، ومعهم أسلحة للقنص، وهي بنادق يصل مداها إلى 7 كيلومترات. من أين أتوا بهذا النوع من الأسلحة؟ لا نعرف. وأي أحد يظهر على البوابة يتم ضربه».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات

 



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».