الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية

ضمها إلى التراث العالمي سينعشها سياحيًا ويحمي طريقة حياة أهلها

الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية
TT

الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية

الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية

عالم من سحر الطبيعة وجمالها الخلاب، وإبداع تصنعه أيادي مواطنين بسطاء يعيشون على بقعة من المياه، وتحديدًا في وسط الأهوار في جنوب العراق.
والأهوار هي مجموعة المسطحات المائية التي تغطي الأراضي المنخفضة الواقعة في جنوب السهل الرسوبي العراقي، وتكون على شكل مثلث تقع مدن العمارة والناصرية والبصرة على رأسه. وتتسع مساحة الأراضي المغطاة بالمياه وقت الفيضان في أواخر الشتاء وخلال الربيع وتتقلص أيام الصيف، وأطلق العرب الأوائل على هذه المناطق اسم «البطائح»، جمع بطيحة، لأن المياه تبطحت فيها، أي سالت واتسعت في الأرض وكان ينبت فيها القصب.
فالناس هنا يبنون بيوتهم عائمةً فوق الماء، لتكون مجموعة البيوت هذه قرى عائمة وسط الأهوار تضم كل قرية من تلك القرى نحو 150 بيتًا عائمًا يسمى «الصريفة»، حيث يقوم الأهالي بعمل «الشجة» وهي جزيرة عائمة. تصنع الشجة من باقات القصب يغرز بعضها حتى تتكون المساحة المطلوبة، وقد تصل إلى أكثر من 100 متر مربع وعلى شكل مستطيل، وتسمى تلك المساحة العائمة بـ«السكفة» يمر الماء من تحتها ثم يوضع فوقها القصب والبردي حتى تصبح مرتفعة ارتفاعا كبيرا ومن ثم إحاطتها بسياج قوي من القصب ويسمى «واشي» للحفاظ عليها من الانجراف. القسم الأمامي يستخدم معلفا للجواميس، والخلفي لسكن العائلة، وأن يكون باتجاه القبلة حتى تصبح بيوت القرية ذات نسق واحد.
وعلى مر السنين ونتيجة الإدامة المستمرة تتحول «الشجة» هذه إلى جزيرة ثابتة وينتقل أهل القرية من بيت إلى آخر بواسطة قارب خشبي يصنعه الأهالي بأنفسهم ويطلقون عليه اسم «المشحوف».
وتبنى منازل سكان الأهوار من القصب بالكامل دون استعمال مسمار أو أي مادة حديدية. وتسمى هذه الحزم «شباب»، مفردها «شبة»، وتربط حزم القصب القوي بحبال من البردي.
أما الأكواخ الأكبر حجمًا، مثل مضايف الشيوخ، فهي بناء عظيم بحق، فالمضيف الجيد يكون أحيانا بحجم فندق صغير. ويعتقد كثير من الآثاريين أن هذه هي أسلاف القوس المعماري.
يقول الخبير في التاريخ العراقي الدكتور هادي والي إن «الأهوار كانت واسعة وكانت موجودة منذ أزمان سحيقة، إذ إنها تقع في سهل رسوب يتعرض للانغمار بالمياه متى ما فاض النهران العظيمان دجلة والفرات. وكانت المناطق المعروفة يومًا بأرض المياه لدى الكلدانيين، مسكونة منذ الحقبة البابلية، ولربما منذ الحقبة السومرية. وترتفع فوق الماء والقصب هنا وهناك تلال قديمة. ويطلق السكان المحليون على هذه التلال اسم (إيشان)».
وأضاف والي: «مع أن القرى شيدت من القصب وشوارعها هي ممرات مائية، فإن غالبية هذه الأماكن متصلة بالبر، وكلما توغل الإنسان عميقًا في الأهوار تصبح الممرات المائية الوسيلة الوحيدة للانتقال. وتشكل هذه الشبكة هنا وهناك متاهة حقيقية، ويروى كثير من القصص عن تيه أغراب لأيام في هذه المتاهة، فالقصب مرتفع ومتين، بحيث تنحجب الرؤية وتحك صفوف القصب الكثيفة جوانب قوارب الأهوار الرشيقة المرتفعة القيادم والكواثل التي تحرك بالتجديف وتدفع بـ(المردي)، وهي عصا طويلة من خيزران سميك، وتنفتح أحيانا صفحات عريضة من الماء، حيث تسبب الرياح أمواجًا كأمواج البحار».
ويتداول أهالي الأهوار قصة حدثت في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، بعدما لجأ أكثر من ثلاثين عائلة من الفلاحين من قرية العدل التابعة لقضاء المجر الكبير في مدينة العمارة إلى عمق الأهوار تخلصا من بطش الإقطاع واضطهاده، فاختاروا مكانا لتأسيس قريتهم في وسط بحيرة كبيرة تسمى «بركة الصيكل» وبنوا قريتهم بطريقة الأكلاك والشجات وبنوا فوقها بيوتا لهم واعتمدوا في حياتهم على تربية الجاموس وصيد الأسماك والطيور وصناعة الحصران، وأطلقوا على هذه القرية الجديدة «الحصنى» لأنها بعيدة عن سلطة الإقطاع. وفي عام 1940 وبينما كانت القرية طافية على سطح مياه البحيرة هبت عليها عاصفة شمالية هوجاء ومن سرعة الريح وجريان الماء وتلاطم الأمواج انجرفت بيوت القرية تماما وسارت القرية بأهلها وحيواناتهم معا وأصبحت بيوتهم وكأنها سفن في لجاج البحر، فدب الهلع والخوف بأهلها فسارعوا لإنقاذ الأطفال والمرضى وكبار السن والأثاث والأمتعة وحملوها بالمشاحيف الكبيرة (القوارب). وبعد أن هدأت العاصفة استقرت القرية في الضفة الجنوبية للبحيرة وبمسافة أكثر من كيلومترين بعد أن تحطمت جميع البيوت وتطايرت الحصران وغرقت المشاحيف الصغيرة، وبعد أن استقروا قاموا بترميم شجاتهم وبيوتهم فأطلقوا عليها اسم قرية الجدي، ثم اتسعت وأصبحت تضم أكثر من 150 عائلة، وتبعتها بعد ذلك عشرات القرى في وسط الأهوار.
ويفضل بعض أثرياء الشيوخ بناء مضايف من الطابوق، وهو تغيير يرثى له بحق. وتؤثث هذه عادة بأثاث أوروبي: كراسي ومناضد رديئة النوعية. أما في مضايف القصب فيجلس الضيوف على مفروشات على الأرض، ويسندون ظهورهم إلى وسائد محشوة بعناية.
وكوخ الفقير أكثر بساطة، فهو يبنى بالطريقة نفسها، بوارٍ فوق هيكل لكنه أصغر حجمًا وأقل ترتيبًا. وقد يتم تكديس الأغصان والدغل على جوانب الصريفة للوقاية من ريح الشمال الباردة. والمدخل يواجه الجنوب عادة، وغالبًا ما تجد صفوفًا من أقراص الوقود البنية اللون المسطحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم.
تبنى قرى القصب على الأرض، وأحيانا على حافة الماء مباشرة، وعند الوصول إلى قلب الأهوار نجد بيوتًا يقف كل منها على جزيرته الصناعية الخاصة به. في الفصل الجاف، عندما ينخفض منسوب المياه، يوضع أساس من طين وقصب وحصائر القصب على شكل طبقات وتداس كلها بعناية، لحين تكوّن منصة كبيرة وقوية كافية لتحمل الصريفة وبعض والمواشي.
ويمكن رفع مستوى هذه المنصة عند الفيضان بإضافة مواد أخرى وتراب يجلب بالقارب. وفي قرى مثل الجبايش (جمع جبشة، اسم الجزر الصناعية هذه) تتوزع البيوت كل على جزيرته الصغيرة. والطريقة الوحيدة لزيارة جارك هي التجديف بالقرب أو على حزمة قصب، أو السباحة.
يقول أبو علي، 47 عاما، من سكان قرية فوار جنوب العراق في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «أهم شيء نفعله هو تعليم أطفال الأهوار السباحة لأن الماء هو وطننا، وفي نفس الوقت نعلمهم كيفية السير بالمشحوف (القارب)، وأغلب الأطفال يمسكون بالمجداف كما لو أنه أحد أطرافهم».
وأضاف أبو علي: «رغم التطور في الصناعات والتكنولوجيا فإننا لم نستغنِ عن أثاث بيوتنا المصنوع من الطين والقصب. والسرير من قصب، أما سرير الطفل المنسوج من صوف الخروف فهو معلق بحزم القصب. وما زالت الجواميس تعيش معنا، فهي تخوض وتعوم بتراخٍ إلى أماكن رعيها المفضلة خلال النهار، وتعود في أوقات الحلب أو تقاد من قبل طفل صغير يركب على ظهر إحداها ويقتادها إلى المكان».
ويعتمد سكان الأهوار عليها في طعامهم، لأنها تزودهم بالقيمر الفاخر واللبن الرائب والزبد والأجبان، ويصنع سكان الأهوار الخبز من طحين الأرز بدلاً من طحين الحنطة».
ومن أهم الأهوار الموجودة في جنوب العراق هور الحمار وهور الجبايش وهور السناف وهور العدل وهور أبو زرك، وجميعها تقع شرق مدينة الناصرية وتتغذى من نهر دجلة والفرات، وتوجد فيها أنواع كثيرة من الطيور المستوطنة والمهاجرة، وكذلك يوجد فيها كثير من النباتات المائية حيث تعتبر هذه النباتات أكثر النباتات انتشارا، وكذلك يوجد كثير من الأسماك. أما السكان القاطنون في تلك الأهوار فيعتمدون بالدرجة الأساسية في معيشتهم على صيد الأسماك وتربية الأبقار والجاموس وصيد الطيور. لذا تعد الأهوار مناطق بيئية طبيعة مثيرة، وهي يمكن أن تكون من أجمل المنتجعات السياحية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى استثمارها من ناحية الثروة السمكية وغيرها لما تمتاز به من ازدهار هائل في الثروات.
وفي الأهوار أيضًا هناك مواقع أثرية تؤكد العمق التاريخي لهذه المسطحات المائية، ففي هور الحمار الذي تقدر مساحته بمليون وثمانية وأربعين ألف دونم تمكنت دائرة الآثار والتراث في وزارة الثقافة العراقية من تثبيت 122 موقعا أثريا، وتاريخ بعض المواقع يعود إلى عصر فجر السلالات السومرية، أي بحدود 2800 - 2350 ق. م. وتتوزع هذه المواقع على مناطق، الجبايش، الإصلاح، العكيكة، السديناوية، كرمة بني سعيد، وهذه المواقع كانت مغمورة بالمياه».
أما في محافظة ميسان فهناك 48 موقعا أثريا مكشوفا يعود تاريخ أغلبها إلى العصور الفرثية والساسانية، وبعضها أقدم يعود إلى الألف الأول ق. م. وتنتشر هذه المواقع في هور الحويزة، والوادية، والصحين، وبريدة.
وأعلن أسعد سيف، الخبير الثقافي ورئيس وفد منظمة اليونيسكو لمتابعة ملف ضم مناطق الأهوار وآثار أور وأريدو على لائحة التراث العالمي، إن الوفد سيرفع تقريره الختامي في نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بعد الكشف عن جميع المواقع ومناقشة خطة إدارتها.
وقال سيف إن «الوفد سيتأكد من إكمال جميع المعايير المطلوبة، حسب ضوابط منظمة اليونيسكو، من أجل تعزيز التقرير بهذا الإنجاز»، مشيرا إلى أن «هنالك متطلبات سيتم إتمامها إلى جانب التقرير مطلع شهر يناير (كانون الثاني)، على أن يوضع على طاولة المنظمة للتصويت عليه في شهر مايو (أيار) من العام المقبل خلال اجتماع المنظمة الذي من المقرر عقده في تركيا».
وأضاف سيف: «إن ضم هذه المناطق على لائحة التراث العالمي سيوفر لها الحماية والدعم الكافي من أجل النهوض بالواقع السياحي والخدمي وتأمين الواقع البيئي والاجتماعي للسكان المحليين فيها»، منوها بحاجة الملف خلال هذه المراحل إلى «دعم سياسي مركزي لتحفيز أعضاء المنظمة للتصويت عليه من خلال إقامة مؤتمرات وندوات وطباعة البوسترات، بالإضافة إلى تحشيد الخارجية العراقية بهذا الجانب».
وكان مدير دائرة بيئة محافظة ذي قار محسن عزيز، أعلن مطلع الشهر الحالي عن قرب وصول فريق من خبراء منظمة اليونيسكو لإجراء التقييم النهائي وإعداد التقرير ختامي للواقع البيئي والتراثي لمناطق الأهوار وزقورة أور تمهيدا لضمها إلى لائحة التراث العالمي.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».