على باب الحديقة تطالعك الأشجار المتنوعة الأشكال وترحب بقدومك الورود المنثورة على جانبي طريق، تشعر وأنت تسلكه وكأنك تسير في طريق الأحلام المحفوف بالجمال، والمدروز بأناقة تنم عن ذوق رفيع يبهر العين ويسحر القلب. تتقدم قليلا فيشرق أمام ناظريك بيت بجناحين أحدهما أكبر من الثاني، ويتمتعان بهندسة رائعة، فتمشي ببطء مأخوذا بجمالات ومأسورا بإبداعات حتى يطل رجل سبعيني ينزل من أحد البيتين.
إنه طوبيا الهاشم الذي زارته «الشرق الأوسط» في متحفه الثقافي القيّم، فيستقبلك بوقاره وهدوئه وروح الدعابة وبعبارات الضيافة اللبنانية الأصيلة؛ وما هي إلا لحظات حتى يصل بك طوبيا ودون أن ينبس ببنت شفة واحدة إلى بيته لتشعر كأنك تقتحم مغارة مجهولة فتجول في رأسك آلاف الأفكار.
في الداخل، غرف متعددة تحتضن كل واحدة منها مجموعة من الكتب فيبادرنا إلى التعريف بها قائلا: «إنها كأبنائي، لا أستطيع التخلي عنها أو التفريط بها، أعرفها واحدا واحدا وقرأت الكثير منها».
في رحلة شيقة بدأت من جناح البيت الأول والمؤلف من طابقين وهو بيت غني بديكوراته وممتلئ بأثاثات وتحف جميلة وبراقة ومجموعة كبيرة من النياشين العسكرية التي أحضرها من الدول العربية والأوروبية.
نستهل رحلتنا من الغرفة الأولى حيث تربّعت الكتب القديمة التي يعود عمر بعضها إلى مئات السنين، مقسمة إلى مجموعات صغيرة ومرصوفة داخل خزانة بطريقة فنيّة لافتة ومنها كتب تاريخ، فن، سياسة، دين وبلغات متعددة، إضافة إلى طاولات مغطاة بلوح من الزجاج وفيها بعض الكتب النادرة.
كما تضم هذه الغرفة الكثير من الأيقونات التي تعود إلى أكثر من 300 سنة، جمعها كلها إما بواسطة الشراء أو قدمت له كهدايا. واللافت بين هذه الكتب مجموعة كاملة كتبت باللغة التاترية النادرة. وإلى الغرفة الثانية، حيث الكتب الحديثة التي يعود تاريخها إلى أكثر من 150 سنة، وصولا إلى الكتب اليومية.
أما الغرفة الثالثة، فخصّصت للكتب التي تتعلق بالعرب والإمبراطورية العثمانية وتضم مجموعة متنوعة من الأدوات التراثية التي كانت تستخدم في الزراعة كالرحى والخابية الفخارية...
وعند دخولك الغرفة المجاورة وهي غرفة عربية بامتياز تشعر كأنك في عصر المماليك، وهي كبيرة نسبيا مجهزة بالتدفئة والتبريد وقد زينت جدرانها بمنحوتات وبقطع تراثية قيمة ورسومات جميلة وقديمة جدا، يجذبك فيها مجموعة «الماتريوشكا» وهي مجموعة خشبية على أشكال ناس تحمل رسومات لأهم الشخصيات الأميركية وأباطرة روس، إضافة إلى بعض التماثيل البرونزية.
وإلى جناح آخر من البيت «المتحف» حيث غرف توزعت تحت الأرض وروعيت فيها الإضاءة الجميلة، وهي تضم مخطوطات عربية كتبت على جلد الغزال، ومصاحف قديمة تعود إلى عام 1853 ومنها ما هو بالألمانية والفرنسية ولغات أخرى، رتّبت في خزائن خشبية حرصا على ورقها ونوعيتها، فضلا عن ما يقارب سبعين مصحفا على شكل بكرة صغيرة. «هذه المصاحف القديمة تثير اهتمام أناس يعرفون قيمتها وأهميتها، لذا أتفاوض معهم لبيعهم قسما صغيرا منها لأنني أملك الكثير». يؤكد طوبيا.
كما لمجلة «الهلال» التي بدأت الصدور في مصر عام 1890 حصة قيمة حيث نجد مجموعة قيمة من إصداراتها تصل حتى عام 1940.
أما عن بدايات الانطلاقة وبذور الفكرة فيستذكر طوبيا كيف ترك لبنان صغيرا وهاجر إلى أميركا للدراسة، إلى أن قادته المصادفة في النادي اللبناني الأميركي وكان لا يزال طالبا جامعيا، إلى التعرّف على أحد هواة جمع الكتب المتنوعة، وكان على هذا الرجل يومها أن يدفع إيجار منزله، وإلا فمصيره «دار العجزة»، الأمر الذي فرض عليه بيع كنزه بسعر بخس. عرض الموضوع على طوبيا الذي أعجبته الفكرة، فاشترى مجموعة كبيرة من هذه الكتب بسعر أقل ما يقال فيه إنه «رمزي جدا». ومن يومها بدأت الحكاية.
طوبيا الهاشم عاد إلى منزله في محلة مار روكز – الدكوانة وفي جعبته الكثير من الكتب، ما جعل منه متحفا ثقافيا متميزا لكتب نادرة تجاوزت 5000 كتاب تنوعت ما بين الطب والتاريخ والفن والأدب والدين، في أكثر من 25 لغة منها الفرنسية، السريانية، اللاتينية، اجتمعت كلها في متحفه الثقافي. يستقبل طوبيا زوّاره لكنه يقول: «لا أحب تحويله متحفا عاما، فأنا أفضّل الخصوصية، أفتحه لمن يهوى الاطلاع والثقافة، أما باب الفضولية فلا قدرة لدي على تحمّله».
كما أنه يستقبل المجموعات السياحية شرط أن يثق بمن سيعرفها على متحفه وبناء لموعد سابق. وردا على سؤال حول مصادر التمويل يجيب طوبيا: «كل ما حصلت عليه كان من تمويلي الخاص، عملت طوال حياتي في شراء الكتب وأرشفتها، ومكتبتي من أغنى المكتبات في لبنان والعالم العربي». ومع أنه يشغل عملا خاصا يزاوله لثلاث أو أربع ساعات يوميا إلا أنه يقضي ما تبقى من وقته في متحفه الذي يعشقه بدليل أنه قرأ ما يقارب 75 في المائة من كتبه.
ولتغذية مكتبته بشكل دائم يسافر خارج لبنان قاصدا معارض الكتب لشراء ما ندر منها، بصرف النظر عن سعرها، حتى أولاده يفتخرون بمكتبته وأحيانا يشترون الكتب النادرة ويرسلونها إليه، وهو الذي سيورثهم هذه المكتبة ومنزليه وكامل مقتنياته، كما يقول.
رحلة سندبادية بين الأوراق السمراء العابقة بحبر التاريخ في متحف علمي ثقافي رائد، تنعش في نفوسنا الآمال في صمود قلاع الثقافة في وجه عاصفة ثورة التكنولوجيا، على أمل أن تعمّم التجربة ليبقى للكتاب بريقه الذي لن يأفل أبدا.
طوبيا الهاشم.. يحمي الثقافة من ثورة الإنترنت الزاحفة
بيته يضم أكثر من 5 آلاف كتاب بـ25 لغة وتحفا نادرة
طوبيا الهاشم.. يحمي الثقافة من ثورة الإنترنت الزاحفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة