ما أن يذكر العراقيون اسم مدينة الموصل مركز محافظة نينوى التاريخية، حتى يتبادر إلى أذهانهم المنارة الحدباء التي ارتبط اسمها باسم المدينة القديمة التي صار اسمها المتداول في ألسنة أهل العراق وجيرانهم (الموصل الحدباء)، ومن زار نينوى ومدينة الموصل لا بد له أن توقف عند المنارة القديمة الحدباء وأمعن فيها النظر، ولا بد له أن زار أو تعرّف على جامعها الكبير ومئذنته المائلة المعروفة باسم منارة الحدباء، التي تُعد واحدة من أهم معالمها مدينة الموصل التي يقصدها السيّاح لجمال هندستها المعمارية، وسر ميلانها.
وتعد منارة الحدباء من المعالم التاريخية التي تحكي عن تاريخ مدينة عراقية عريقة اسمها الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق التي واكبت كثيرا من حضارات التاريخ، من ضمنها الآشوريون والكلدانيون والعرب والأكراد.. واشتهرت باعتدال وعذوبة جوها في فصلي الربيع والخريف وتشابههما، لذا لُقبت بأم الربيعين.
كما اشتهرت مدينة الموصل بمئذنتها الحدباء التي أسسها نور الدين زنكي أمير الدولة الأتابكية (566ه - 1170م)، وبتكلفة (60 ألف دينار ذهبي)، لتتوسط المدينة القديمة وهي تحمل نقوشات رخامية صنعت بأسلوب خاص ومميز عكس فن الإعمار في عهد الدولة الأتابكية.
وتعتبر المنارة الحدباء من أطول المآذن الإسلامية النفيسة لما تحتويه من نقوشات وإبداعات الهندسة المعمارية الإسلامية في ذلك الوقت، ويبلغ طولها 65 مترا مع قاعدتها.
الخبير العالمي في فن الريازة والنقوش الهندسية العراقية الشيخ محمد صالح العبيدي قال في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «المنارة الحدباء في الموصل كانت قد تعرضت في وقت سابق إلى بعض الأضرار، وعندما استقدمت الحكومة العراقية وقتذاك خبراء إيطاليين لمعالجة الشروخ التي ظهرت في جسد المنارة منتصف سبعينات القرن المنصرم ذكروا أن منارة الحدباء هي الأطول في العالم بين مثيلاتها، وهي الأجمل في فنون الريازة والعمران، ومسألة تشييدها بهذا الارتفاع الشاهق في زمن بنائها يعد معجزة، إذ إنها ارتفعت بطول (65 مترا) وعرض (17 مترا) وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر من الخوارق العمرانية في زمن بعيد جدا عن تكنولوجيا الإنشاء والعمران، لم تعرف فيه الرافعات العملاقة ولا الوسائل المساعدة التي يتعكز عليها المعمار المعاصر».
وأضاف العبيدي: «إن هذه المنارة حملت خصوصية في البناء، وإذا ما أمعنا النظر لوجدنا فيها زخارف نباتية متشابكة مع زخارف هندسية متداخلة تداخلا كليا مع بعضها بصورة متناظرة بحيث تكون الصورة متممة للزخرفة النباتية، وهذا يدلل على مهارة فن الزخرفة في ذلك الوقت».
وتتألف المنارة الحدباء من قاعدة منشورية مكعبة يعلوها بدن أسطواني ينتهي بحوض، ورقبة وقمة مزخرفة، وسميت المئذنة الحدباء لميلانها الواضح نحو الشرق باتجاه صحن الجامع.
وبعد ثمانية قرون، وعلى الرغم من إجراء عمليات صيانة كثيرة على المنارة قبل عام 2003، فإن التشققات في قاعدتها أصبحت مثيرة للقلق، والسبب في ذلك يعود إلى وجود المياه الجوفية أسفل المنارة بكميات كبيرة جدا، وأن الأمر يتطلب تدخلاً من جهات دولية متخصصة، وإلا فإن مصيرها الانهيار.
الدكتور بلاسم محمد، الأكاديمي في كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد قال في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «منارة الحدباء ظلت تطوي سر ميلانها قرونا من الزمن بعد أن طلب السلطان نور الدين زنكي أمير الدولة الأتابكية من البنائين أن تكون على هذه الشاكلة، كي تكون مثار حديث الناس على مر العصور، وكان فريق علمي من الباحثين المختصين قد توصلوا إلى اكتشاف سر هذا الميلان في أحدث دراسة عمرانية فيزياوية.. إذ وجدوا بعد دراسة ميدانية لجسد المنارة من قاعدتها المنشورية التي ترتفع 15.8 متر وصعودا إلى هيكلها الأسطواني الذي يبلغ قطره 3 أمتار وينتهي بمترين قبل القمة التي أخذت شكلا يشبه الخوذة، وجد الفريق العلمي أن المئذنة تعد من مصافي أبراج العالم (الداعمة ذاتيا) والتي تمتاز بالمرونة العالية، والصلابة في آن واحد، فهي مصممة على أسس قوانين (الستاتيك) و(الداينمك) ونظرية المجاميع وهي قوانين حديثة، تحيط جسم المنارة زخرفة، مبنية بالجص والآجر، وتشتمل على سبعة أقسام، يمتاز كل قسم منها بزخارف تخالف بقية الأقسام، ويفصل بين كل قسمين منها حاشية رفيعة من الزخارف الدقيقة وهذه الزخارف ليست لتجميل المئذنة وحسب، وتتمتع ببنى بلورية تعطي المئذنة مرونة عالية، حسب مواصفات القوى والعزم والارتفاع».
وأضاف محمد: «إن لهذه المنارة شأنًا آخر لا تمتلكه بقية المآذن في العالم الإسلامي، لقد أصبحت الآن وبهذا العمر المعماري الطويل من نفائس الآثار في العراق والعالم الإسلامي، ورغم عمرها الطويل فإنها ما زالت محافظة على دقة هندستها الجميلة بنقوشها البديعة التي تشكل آية من آيات الفن المعماري العراقي والإسلامي، إلا أنه وبعد 8 قرون على بنائها وصمودها حذر متخصصو الآثار من أن قاعدتها تأثرت كثيرا بفعل المياه الجوفية التي تطفو عليها قاعدة المئذنة التي تتآكل يوما بعد آخر، كما أن الشقوق والتصدعات الخطرة التي بدأت تظهر وتتضخم في أجزاء منها ستؤدي إلى انهيارها حتمًا إذا لم تتدخل الأيادي الماهرة والمتخصصة في إنقاذها، وهذا ما يرجوه الموصليون لحماية معلم مهم طالما اشتهرت به مدينة عرفت على مر العصور بحضاراتها المتعاقبة، إضافة إلى التهديدات بنسف هذا المعلم التاريخي الذي يسطر أروع الفنون المعمارية في العالم الإسلامي من قبل تنظيم داعش الذي يسيطر على مدينة الموصل ومحافظة نينوى بالكامل، الذي سبق له أن قام بنسف وهدم معالم تاريخية ضاربة في القدم في محافظة نينوى».
من جانبه، قال الأستاذ والفنان عبد الرحيم ياسر في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «المتفحص للمميزات المعمارية والفنية هذه تتجلى له عبقرية المعماري (إبراهيم الموصلي) الذي نفذ بناءها آخذًا بنظر الاعتبار أساليب البناء وخصائص المواد الإنشائية والنواحي الهندسية ومدى تأثير العوامل المناخية والبيئية، مع تجانس الخصائص الفنية والزخرفية وارتباطها بالناحية الدينية إلى غير ذلك من الأمور التي تعد من المبتكرات المعمارية وتعبر عن التواصل الحضاري».
منارة الموصل الحدباء مهددة بالانهيار
أسسها نور الدين زنكي أمير الدولة الأتابكية في القرن الثاني عشر
منارة الموصل الحدباء مهددة بالانهيار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة