الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

اللمسات الأخيرة التي أحدثها بوتفليقة على جهاز المخابرات تشغل الطبقة السياسية

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين
TT

الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين

يلاحظ متابعو الشأن الجزائري، في الداخل والخارج، أن «جزائر ما بعد بوتفليقة» هو الموضوع الذي يشغل الطبقة السياسية والإعلام في الجزائر حاليًا. هذا الأمر سلطت عليه الأضواء فعليًا في أعقاب اللمسة الأخيرة التي أحدثها رئيس الجمهورية على جهاز المخابرات العسكرية، بعزل الفريق محمد الأمين مدين الشهير بـ«الجنرال توفيق». غير أن السؤال الأبرز في هذه القضية، هو هل سيتحدى الرئيس المرض ويستمر في الحكم رغم انسحابه من المشهد منذ أكثر من سنتين، أم سيضطر لاختيار من سيخلفه من داخل ما يعرف بـ«جماعة الرئاسة».

في الماضي القريب كانت شؤون الحكم والقرارات الكبرى في الجزائر يصنعها جنرالات الجيش، وهم بالتحديد وزير الدفاع وقادة النواحي العسكرية الستة وقادة القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع عن الإقليم، ومعهم ضباط «مديرية الاستعلام والأمن»، التي تعد القلب النابض في المؤسسة العسكرية.
هؤلاء هم مَن أجبروا الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد على التنحّي مطلع عام 1992، على أثر الفوز الساحق الذي حققته «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في أول انتخابات برلمانية منذ الاستقلال.

* بوتفليقة: «السلطة الأولى»
غير أنه منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في عام 1999، والحرص الذي أبداه لتمكين الرئاسة من استعادة السلطات والصلاحيات التي استحوذ الجيش على جزء منها، في فترة الصراع الدامي مع الجماعات الإسلامية المسلحة، تغيَر كل شيء وبصفة جذرية.
هو بنفسه قال عشية انطلاق ولايته الأولى لقناة تلفزيونية فرنسية: «قولوا للجنرالات الجزائريين أن يلتهموني إن كان بمقدورهم ذلك!». أما غداة انتخابه فقال أمام الصحافة وبوضوح: «سوف لن أكون أبدًا ثلاثة أرباع رئيس». وفُهمت الرسالة حينذاك بأن بوتفليقة يريد حقًا أن يكون «السلطة الأولى في الجزائر»، والصوت الذي يعلو ولا يعلى عليه. ومنذ تلك اللحظة أدرك قادة المؤسسة العسكرية أنهم جلبوا لأنفسهم المتاعب عندما لجأوا إلى السياسي المخضرم وهو في منفاه الاختياري، ليعرضوا عليه حكم البلاد بعد استقالة الجنرال اليمين زروال من الرئاسة.
وبسط بوتفليقة نفوذه شيئًا فشيئًا، فأزاح مباشرة بعد انتخابات الرئاسة في عام 2004 رئيس أركان الجيش الفريق محمد العماري، الذي ارتبط اسمه بالحرب الضروس ضد الإرهاب. وكان العماري قد وقف ضد ترشح بوتفليقة لولاية ثانية، فأضحى التعايش بينهما مستحيلاً. أما المثير في تلك الانتخابات، فهو أن مدير المخابرات محمد مَديَن سار في البداية على نفس موقف العماري، لكنّه غيّر البوصلة في آخر لحظة، فعقد تحالفًا مع الرئيس هو ما مكّنه من الولاية الثانية. وجاءت المكافأة عام 2006 بترقية مَديَن – أو الجنرال «توفيق» – من رتبة لواء إلى رتبة فريق، وأصبح بالتالي، ثاني ضابط بعد الاستقلال الذي يقلَده الرئيس الرتبة العليا في الجيش بعد العماري.
وردَ «توفيق» لبوتفليقة الجميل بتزكية مسعى تعديل الدستور في 2008 الذي كسر ما كان يمنع الرئيس من الترشح لولاية ثالثة، ومن ثَم عزّز موقعه في الحكم عبر تقليص سلطات رئيس الحكومة الذي حوَله إلى وزير أول.
بعدها عيَن بوتفليقة اللواء أحمد قايد صالح رئيسًا للأركان، وأصبح في ظرف قصير سنده القوي في المؤسسة العسكرية ومن أكثر رجال الحكم وفاءً له. وخلال العامين الأخيرين نقل إليه الرئيس تدريجيًا كل السلطات والصلاحيات التي كانت بحوزة المخابرات، التي صنعت للجنرال «توفيق» القوة والنفوذ طيلة 23 سنة التي أمضاها في قيادة المخابرات.

* قرارات سريعة
كل المراقبين ومتتبعي الأحداث السياسية في فترة حكم بوتفليقة، ظلوا مشدوهين لقوة وسرعة القرارات التي اتخذها الرئيس بعد عودته من رحلة العلاج إلى فرنسا، على أثر إصابته بجلطة دماغية في 27 أبريل (نيسان) 2013. لقد عاد بوتفليقة إلى الجزائر على كرسي متحرّك بعد فترة علاج ونقاهة طالت 88 يومًا، وأثناء غيابه أثير جدل حاد حول «نهاية بوتفليقة»، وانطلقت التخمينات بخصوص مَن «اختاره توفيق ليكون خليفة لبوتفليقة». وفي خضم ذلك الجدل كان السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس وكبير مستشاريه، يتردّد بين الجزائر وباريس حيث مستشفى الـ«فال دوغراس» العسكري الشهير، حيث كان الرئيس يتلقى العلاج، لينقل إليه كل كبيرة وصغيرة عمّا يقال عنه في الجزائر.
عن هذا الأمر بالتحديد، يذكر أحد وزراء الإعلام الـ13 الذين «استهلكهم» بوتفليقة خلال 15 سنة في الحكم، لـ«الشرق الأوسط»: «اغتاظ الرئيس كثيرًا لما قيل عنه في صالونات السياسة بالعاصمة، وما نقلته بعض الصحف عن نهايته المزعومة. البعض قال إن مدير المخابرات هو مَن كان وراء ذلك، لكن ذلك غير صحيح والرئيس يعلم أنها ليست الحقيقة، لكنه غضب من توفيق غضبًا شديدًا كونه لم يشغَل الأدوات التي بين يديه، ليمنع تداول إشاعات جاء في بعضها أنه توفي». وتابع الوزير السابق: «.. ربما كان توفيق يتوقع نهاية بوتفليقة لعلمه أنه فقد التحكّم بحواسه، وبالتالي، لن يستطيع مقاومة حالة الضعف التي وجد فيها، وأنه لن يترشح لانتخابات 2014. غير أن توفيق وكل من راهن على انسحاب بوتفليقة من الحكم، ربما لم يكونوا يعرفون حقيقة شخصية الرجل. فقد عاد إلى الحكم ليخلد فيه، وحتى إن خارت قواه ولم يعد قادرًا على الاستمرار سيختار هو من سيخلفه وليس العسكر». ثم أضاف: «مرض الرئيس غيَره تجاه توفيق، وقد كان لشقيقه ورئيس أركان الجيش قايد صالح، دور كبير في هذا التغيير. فالأول تصرّف دفاعًا عن أخيه الأكبر الذي يدعونه في العائلة (سيدي حبيبي) إجلالا وتقديرا له. والثاني تصرّف بدافع الرغبة في أن يصبح الرقم واحد في المؤسسة العسكرية من دون أن ينازعه توفيق في أي شأن يخصها، ولقد نجح في ذلك وإن كان لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون مشورة الرئيس. وبإمكاني أن أجزم بأن صالح يطمع في أن يختاره بوتفليقة لخلافته».

* تفكيك «الجهاز»
بدأت القرارات الصاروخية في السقوط على رأس مدير المخابرات، الواحدة بعد الأخرى.
أولها وأخطرها كان حرمان «الجهاز» من الشرطة القضائية، العصا التي قادت تحقيقات في أكبر قضايا الفساد التي تورَط فيها مسؤولون بارزون في الدولة. وكان «ذنب توفيق الأعظم» أن شرطته حشرت أنفها في فضائح شركة المحروقات «سوناطراك»، وأفضى التحقيق إلى اتهام شكيب خليل وزير الطاقة المتنحّي حديثًا – في حينه – بالتورّط بعمولات ورشى دُفعت في إطار صفقة مع شركة «سايبام»، فرع عملاق الطاقة الإيطالي شركة إيني. وقدّم «توفيق» ملفًا عن الفضيحة إلى وزير العدل محمد شرفي، الذي أمر النيابة بإعداد مذكرة اعتقال دولية ضد شكيب خليل.
كل هذه التفاصيل جرت في فترة غياب بوتفليقة، وضد من؟ ضد صديق طفولته الذي ترجّاه في عام 1999 كي يغادر منصبه في البنك العالمي للإشراف على قطاع المحروقات بالجزائر. بل، والأدهى من ذلك، أن اسم السعيد بوتفليقة ورد في التحقيق على أساس أنه تقاضى رشوة مقابل التوسّط لدى مكتب دراسات عالمي ليأخذ حصّة من مشاريع نفطية في صحراء الجزائر.
وثارت ثائرة الرئيس عندما علم بأن أعزّ الناس إليه، شقيقه الأصغر، الذي يمارس وظيفة نائب رئيس جمهورية بشكل غير رسمي، مهدّد بالمتابعة وربما السجن. وعندها، قرر تنحية وزير العدل في أول تعديل حكومي، وزحزح ضباط المخابرات الذين أجروا التحقيق من وظائفهم بالعاصمة «فنفاهم» إلى مواقع في الولايات الداخلية، وأمر أيضًا بإبطال مذكرة الاعتقال بحجة أنها لم تستوفِ الشروط القانونية، كونها صدرت عن المحكمة الابتدائية، وليس من المحكمة العليا.. التي هي الجهة التي تقاضي أصحاب الوظائف السامية.
جاء بعدها إلغاء «وحدة الاتصال والبث» في المخابرات، التي كان يقودها «الكولونيل فوزي»، وعيّن «توفيق» في مؤسسات الإعلام. وأحال البعض على التقاعد الإجباري. ثم جرَد المخابرات من الإشراف على الأمن العسكري والرئاسي ومن التنصّت على مكالمات الوزراء والمسؤولين الكبار، وحلَ «مجموعة التدخل الخاصة» الأمنية، التي كانت القوة الضاربة للمخابرات أيام الصراع مع الإرهاب.
كل هذه الهياكل تم إلحاقها بقيادة الأركان، وبذلك أضحى قايد صالح «هيلمانًا» في الجيش. أما «الجهاز» فاحتفظ فقط بالأمن الداخلي والأمن الخارجي، أي بالحد الأدنى. ووصف الإعلام سلسلة الأحداث بـ«تفكيك جهاز المخابرات»، وعدَها بمثابة «عمل منظَم لإضعافه تحقيقا لغرض شخصي».
ويقول مراقبون تابعوا تلك التغييرات التي شهدتها البلاد، أن عملية «الضرب تحت الحزام» التي استهدفت «توفيق» بلغت المنعطف بمناسبة الهجوم غير المسبوق الذي وجهه رئيس حزب الأغلبية عمّار سعداني ضده. ففي مقابلة نارية مع صحيفة إلكترونية نشرت في فبراير (شباط) 2014، اتهمه بـ«إثارة القلاقل داخل الأحزاب» وبـ«العجز عن تجنيب الرئيس محاولة الاغتيال التي تعرض لها في 2007»، ودعاه إلى الاستقالة.
بقاء سعداني على رأس حزب الأغلبية، بعد هذا «الاعتداء» كان مؤشرًا قويًا على ضعف «توفيق». ويرى المراقبون أنفسهم أن أقوى ضربة تلقاها وبها وقّع الرئيس بوتفليقة «شهادة وفاته» كرئيس للمخابرات، كانت سجن رئيس قسم محاربة الإرهاب في المخابرات الجنرال حسّان يوم 27 أغسطس (آب) الماضي. فالرجل كان واحدًا من أبرز مساعديه، وتم الزج به في السجن ومنع محاميه من مقابلته. أما التهم الموجهة له فتبقى غامضة.

* توقّع عزل «توفيق»
تنبأ قطاع من المحللين على أثر هذه الأحداث، بأن تكون «الخطوة المقبلة تاريخية» عزل «توفيق»، وهو ما حصل فعلاً في 13 سبتمبر (أيلول) 2015. واستخلف بالرجل الثاني في المخابرات، مدير الأمن الداخلي سابقا اللواء عثمان طرطاق، المدعو «بشير» الذي عيَنه «توفيق» مساعدا له، غير أن بوتفليقة نحاه من المنصب عام 2014 وأحاله على التقاعد. لكنه عاد فجلبه إلى الرئاسة كمستشار أمني وكان يحضَره لخلافة «توفيق». وما يلفت الانتباه في هذا، أن «بشير» عاد إلى الخدمة بعد التقاعد، بينما أخرج «توفيق» إلى التقاعد بوضع حد لخدمته في الجيش.
الواقع انه لا يُعرف الشيء الكثير عن طرطاق، ما عدا كونه «شخصًا صلبًا مثل الصخر» لصلابته في مواجهة الجماعات المتطرفة أيام كان الإرهاب على وشك تحطيم الدولة. أما النتيجة التي توصل إليها المهتمون بهذه التطورات، فهي أن بوتفليقة تخلّص من شخص ضايقه كثيرًا، خاصة عندما تجرأ على التحقيق بشأن أخيه، وقدَر بأن الرئيس لا يصلح لولاية رابعة بسبب المرض.
غير أن أكثر ما يحير المراقبين حاليًا، هو كيف لرئيس ضعيف بدنيًا لم يخاطب الجزائريين منذ قرابة ثلاث سنوات ونصف بسبب المرض، أن يقدم على هذه المعركة ويخرج منها منتصرًا؟
الجواب عند البعض، أن بوتفليقة عزّز موقعه في الحكم بفضل «شراء ولاء» رئيس أركان الجيش (82 سنة) وكبار القادة العسكريين ممّن أبقاهم في مناصب المسؤولية، بينما يفترض أنهم تقاعدوا منذ سنين طويلة. ولم يتوقف «دهاء» بوتفليقة عند هذا الحد، بل إنه كسب ولاء قويًا وسط أكبر رجال الأعمال الذين دفعوا أموالاً طائلة في حملاته الانتخابية الأربع. وعلى رأس هؤلاء علي حداد، رئيس «منتدى رجال الأعمال»، وهو تكتل رساميل يضم نحو 20 رجل الأعمال قيمته تفوق 5 مليارات دولار أميركي.
هؤلاء يشكلون اليوم القوة المالية التي ترتكز عليها «جماعة الرئيس»، بينما تمثل رئاسة الأركان القوة المادّية، وهما، مجتمعَين، وظفهما بوتفليقة لتوجيه الضربة القاضية التي قهرت «توفيق».

* «مرحلة ما بعد بوتفليقة بدأت»
وقد عرض الدكتور حسني عبيدي، الباحث الجزائري ومدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف»، رأيه في صحيفة محلية بخصوص مآلات الأحداث الأخيرة، فقال: «أعتقد أنه يجب عدم المبالغة في حجم إقالة الجنرال توفيق، لأننا حينها سنقع في مأزق الانتصارات الوهمية. لم يكن توفيق يشكّل كشخص تهديدًا لبوتفليقة، لكن استمرار الانسداد السياسي في الجزائر وغياب الرئيس (بداعي المرض) ومعه أي رؤية حقيقية لتسيير الدولة، مع تغول أصحاب النفوذ وضبابية عملية صناعة القرار في محيط الرئيس، إضافة إلى تغييرات حدثت في المؤسسة العسكرية والأمنية، (عوامل) تشكل سيناريو مخيفًا بالنسبة لمحيط الرئيس. لقد كان وضعًا يشجّع على تغيير مفاجئ في هرم السلطة أو انقلاب أبيض، خاصة أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر منذ انهيار أسعار النفط متّجه نحو مرحلة حرجة».
وبرأي عبيدي فقد «بدأ التحضير لما بعد بوتفليقة، وهذه المرة دون توفيق ولكن بضمانات قوية بعدم التعرّض له ولمحيطه بأي سوء. توفيق رحل عن المشهد السياسي في صمت مثلما بدأ مشواره، لكن من المؤكد أنه لن يكون آخر من يرحل». وتابع الباحث المقيم في سويسرا: «كان بالإمكان أن تمرّ هذه الإقالة دون أن تحدث ضجيجًا. لكن كونها تحصل في نظام سياسي مغلق وتستهدف أحد المكوّنات الأساسية لهذا النظام، يجعل منها منعطفًا سياسيًا بامتياز. ولأن النظام السياسي في الجزائر، منذ الاستقلال بُني على المقاربة الأمنية، فإن خروج المسؤول الأول (حارس الكهف) عن المنظومة الأمنية يكتسي أهمية بالغة. بمعنى أن الجنرال توفيق، بحكم الفترة الزمنية التي قضاها على رأس الأجهزة، ترك بصماته على كل شيء: العقيدة الأمنية واختيار الرجال وطبيعة الولاء وطريقة إدارة شؤون البلاد. ولكن تمثل إزاحة توفيق تحديًا إضافيًا للرئيس ومحيطه. فالقطب الرئاسي ممثلاً في بوتفليقة، لن يتحجّج بعد اليوم بتعدّد مراكز القرار السياسي والاقتصادي. إنه مطالب بمشروع للمجتمع يمهّد لدولة يحميها دستور جامع، يضمن الاستقرار الأمني والتوزيع العادل للثروات والمشاركة السياسية. أما التحدّي الثاني فيكمن في قدرة الرئيس على إعطاء نفَس جديد للجهاز الأمني، ليكون مؤسسة تحفظ أمن الدولة وليس أمن النظام ورموزه».
«مرحلة ما بعد بوتفليقة»، حديث يجري تداوله حاليًا في الأوساط السياسية والإعلامية. ولكن هل يعقل أن يرحل الرئيس عن الحكم، بعدما خاط على مقاسه كل شيء: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والبرلمان والجيش برئاسة الأركان والمخابرات، وعالم المال والأعمال؟
في هذا الإطار، تقفز فرضيتان تبدوان الأقرب إلى المنطق: فإما أن يقرر الرئيس الاستمرار في الحكم متحدّيًا المرض والشكوك حول قدرته على تسيير دفة الحكم. وإما أن يختار مَن يخلفه ثم يعلن انتخابات مبكَرة. وفي هذا الإطار يرشح الملاحظون ثلاثة أشخاص: رئيس الوزراء عبد المالك سلاّل، ووزير الدولة مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى، و.. السعيد بوتفليقة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».