لا تزال الحكومات الأوروبية غير متفقة على اقتسام «الكوتة» متصارعة إزاء سياسة لجوء موحدة تواجه بها مجتمعة فيضانات طالبي اللجوء ممن فروا وغادروا بلادهم بحثا عن أمن وأمان سياسي واقتصادي. من جانبهم حسم أفراد ومنظمات خيرية طوعية نمساوية أمرهم مرحبين بالواصلين مقدمين لهم كل العون والمساعدات الممكنة بينما التزمت الحكومة النمساوية عبر سكك حديدها بنقل من يشاء إلى ألمانيا التي بدورها رحبت على لسان مستشارتها أو «ماما ميركل» كما ينادونها، بمن يرغب البقاء فيها، كما أبدى رئيس وزراء السويد ذات المشاعر علنا.
ولا خلاف أن المهاجرين والباحثين عن اللجوء قد ركبوا الصعب وصرفوا ما بحوزتهم، بل استدان بعضهم حتى يغادروا رغم إيمانهم أن الطريق وعر وشاق ومجهول.
«الشرق الأوسط» تابعت طيلة الأسبوع الماضي مسيرة جموع ما بين العاصمة اليونانية أثينا والعاصمة النمساوية فيينا وكلتا من المدينتين تعتبر رغم الاختلاف من أهم النقاط في تلك الرحلات الشاقة التي قد تكون مميتة كما حدث لـ71 مهاجر ماتوا اختناقا في شاحنة دواجن عثر عليها مهجورة في منطقة حدودية ما بين النمسا والمجر.
في تصريح لهانز بيتر دوسكوزيل، رئيس الشرطة بإقليم بورقندلاند حيث اكتشفت الشاحنة، أوضح أن بالحبس رهن التحقيق الآن 6 مهربين يحملون جوازات سفر مجرية، أحدهم من أصل لبناني وأفغانستاني يحمل وثيقة سفر صادرة من المجر، مضيفا أنهم جمعوا من الشاحنة بعد نقل الجثث التي لا تزال مجهولة الهوية للتشريح 17 وثيقة سفر و40 جوالا و350 قطعة ملابس، كما تلقوا 300 مكالمة عبر خط ساخن نظموه تستفسر عن الركاب بينما وصل من ألمانيا شخص واحد متبرع بتقديم عينة لمقارنة فحص الجينات الوراثية للتعرف على ذويه من بين الضحايا.
من جانب آخر، وضمن اعتقاد معظم السوريين والعراقيين، ولهم الغلبة العددية بين المهاجرين، فإن العاصمة اليونانية أثينا هي أول نقطة للانطلاق أوروبيا بعدما يغادرون بلادهم إلى تركيا. إذ يعتقد معظمهم أن تركيا ليست أوروبية، وأن إسطنبول مدينة يعرفون دروبها ويفهمون نفسياتها، وأن المهاجر يمكن أن يعبرها وبسهولة كبيرة ما دام «دفع»، موضحين أن عملية الدفع تطال حتى استخدام الحمام أو لطرح مجرد سؤال واستفسار عن معلومة، سواء في ذلك إن كان المسؤول رجل شرطة أو مهربا.
هذا وتعتبر منطقة «أمونيا» أشهر مناطق وجود اللاجئين وسط أثينا حيث تكثر الفنادق الرخيصة، ويعرض المهربون من مختلف الجنسيات خدماتهم، كما توفر المحال التجارية الرخيصة بالمنطقة كل الاحتياجات وما أقلها لرحلة شاقة مجهولة المصير تقوم أساسا على توجيهات المهرب والاستعانة بجوال للاتصال ولاستخدام خدمة معرفة المواقع وتحديد الاتجاهات (جي بي إس).
ما إن يغادر المهاجر أثينا حتى يتجنب العواصم شاقا طريقه سواء سيرا على الأقدام أو ركوبا بين الجبال والأعشاب خشية الوقوع في قبضة شرطة أو قطّاع طرق.
في هذا السياق حكى لـ«الشرق الأوسط» ضابطان انشقا عن الجيش السوري منذ عام 2011 وانضما إلى المقاومة ثم انشقا عنها بعدما تقاتل الدواعش مع جيش النصرة. الضابطان برتبة ملازم أول وملازم تجمعهما صداقة قديمة وزمالة عمر، قالا إن هذه أول ليلة ينامان فيها بعمق منذ سنين رغم أنهما كانا يفترشان أرض المحطة الرخامية الصلبة بفيينا.
وصلا فيينا أمس وبصحبتهما عائلة تتكون من أم وبنتيها المراهقتين وولدها الطفل الصغير، عائلة لا تربطهما بها أي رابطة أسرية أو معرفة مسبقة سوى أن الملازم أول قام بحمايتها فقط لكونها من دون عائل، بينما اعترض الملازم احتجاجا على خروج أم وبناتها دون عائل في رحلة مجهولة.
في حديثه قال الملازم أول - الذي طلب عدم الإشارة حتى إلى اسم منطقته خشية الانتقام من ذويه - إنهما غادرا سوريا إلى لبنان لتبدأ مسيرتهما بحرا بواسطة بلم مطاطي طوله يتراوح ما بين 6,30 إلى 9 وعرضه ما بين 160 سنتميترا إلى مترين من إزمير إلى مثلين باليونان فأثينا ثم بالقطار إلى مقدونيا فصربيا حيث مشوا بصحبة العائلة وآخرين سيرا على الأقدام 3 أيام من دون حمامات وأقل طعام، كما عاملتهم الشرطة الصربية أسوأ معاملة، منتقلين بحافلة إلى أطراف بلغراد ومن ثم إلى حدود المجر حيث كالت لهم السلطات المجرية السوء بمكيالين مستخدمة للبحث عن المهاجرين الطائرات والكشافات ليلا.
وبالطبع كان سوء المعاملة المجرية بمثابة فرصة ذهبية للمهربين لمضاعفة ثمن الإرشادات والتعليمات أي الطرق يسلكون فاستغلوا تاكسيا دفع كل منهم 200 حتى يحملهم إلى بودابست كما دفعوا مبلغ 400 يورو من بودابست إلى فيينا «لقد ضحك علينا المهرب، محذرا من ركوب القطارات التي علمنا أخيرا أنها في الواقع مجانية وفرتها الحكومة النمساوية».
مما يجدر ذكره أن بعض القطارات تعمدت الحكومة المجرية أن تحول مسارها بدلا من فيينا إلى معسكرات شيدتها، مجبرة مهاجرين وبقوة السلاح حتى يبصموا، وهكذا لا يصبح لهم خيار غير طلب اللجوء بالأراضي المجرية حسب ما تقر اتفاقية دبلن التي تقول إن طالب اللجوء، بدولة من دول الاتحاد الأوروبي، ملزم في حال قبول طلبه على الدولة التي يبصم بها ويفترض أن تكون الأولى التي يطأها.
السلوك المجري بخداع المهاجرين أغضب نشطاء نمساويين، مشبهين إياه بسلوكيات النظام النازي الذي كان يكذب ويشحن القطارات ثم يحول مسارها إلى معسكرات التعذيب.
كذلك تساءلت قطاعات واسعة عن الأسباب التي تدفع المجر لإجبار عابرين على البصم وطلب اللجوء بأراضيها، وهل الهدف الاستفادة من المساهمات والمساعدات المالية والعينية التي يدفعها الاتحاد الأوروبي، وهل الهدف أن توفر لشعبها طاقات شابة أجنبية تستغل رخيصة في أعمال لا يقبلها المجري؟
في هذا قال ضابط الجيش السوري برتبة الملازم: «نشكر إنسانيتهم وترحيبهم بنا وتوفيرهم لنا ملاذات آمنة أكثر ما نتاجها في ظل أوضاع كهذه، لكن هذا لا يمس حقيقة أنهم جميعهم يستقبلوننا، وطبيعي أن يتوقعوا الاستفادة منا دون شك، خصوصا أن أوروبا تشيخ وتشكو من قلة المواليد وأن المهاجرين العراقيين والسوريين في معظمهم شباب متعلم ومؤهل بمختلف التخصصات، لهذا فالأفضل لنا أن نستقر ببلد يرحب بنا وفتح لنا أبوابه كألمانيا»، بينما قال زميله الذي كان يقارن بين اللجوء بألمانيا وهولندا إن الخيار سيكون للبلد الذي يمنحه حق لم الشمل سريعا حتى يحضر والدته وشقيقتيه وكلتاهما طفلة صغيرة وهو المسؤول المباشر عنهما.
هذا وبينما أعلنت النمسا أن ما يفوق 16 ألفا قد وصلوا إليها منذ الجمعة الماضي فإن أقل من 1000 طلبوا اللجوء في النمسا مفضلين مواصلة الرحلة إلى ألمانيا، بينما أكد مسؤولون بسكك حديد النمسا (أو بي بي) عن وقف سير القطارات الاستثنائية الخاصة التي تم تسييرها لنقل اللاجئين من بودابست طيلة الأربعة أيام الماضية، مؤكدين أن توصيل طالبي اللجوء سوف يتم ضمن السفريات العادية وذلك لاستحالة استمرار العمل بصورة استثنائية، خصوصا وقد فتحت المدارس أبوابها ويحتاج المسافرون إلى مواقيت محددة وبرامج معلنة منضبطة ومنظمة كما عرف عن القطارات النمساوية.
في هذا السياق، وإن بدا ملحوظا ومراقبا الالتزام بـ«الصمت المطبق» كسياسة لجأ إليها طيلة الوقت الحالي السياسيون من قيادة حزب الطريق للحرية اليميني المتطرف الرافض للأجانب، إلا أن الناطق باسم الحزب قال في تصريح رسمي إن غيرهارد دميك نائب الحزب البرلماني غاضب جدا، إذ وجد المقعد الذي حجزه لرحلة من بودابست مشغولا بسبب الفوضى التي تضرب بأطنابها هذه الأيام.
من جانبه قال لـ«الشرق الأوسط» أندرياس مايهوفر، أحد المشرفين على المعسكر بالمحطة الجنوبية، إنهم سيواصلون البحث عن اللاجئين في السفريات العادية لتقديم كل العون اللازم، شاكرا المتطوعين من المترجمين ممن هبوا لتوفير إمكانات التواصل من لغة البلاد الألمانية للغة العربية.
إلى ذلك، تتوفر بالمحطات مواقع للتطبيب والإغاثة الصحية، وحسب ما قالته لـ«الشرق الأوسط» طبيبة من منظمة أطباء بلا حدود كانت تشرف على الموقع فإن معظم الحالات التي احتاجت إلى مساعدة كانت تعاني من إرهاق وضربة شمس وارتفاع في ضغط الدم وتسلخات جلدية ضاعف منها سوء الأحوال الصحية وعدم الاستحمام، بينما عانى بعض الأطفال من جفاف وتم إنقاذهم.
في هذا السياق تابعت «الشرق الأوسط» حالة الاستنفار التي تشارك فيها قطاعات شبابية من كل الجنسيات ممن ينظمون أنفسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من «وتساب» و«تويتر» ورسائل عبر صفحات في «فيسبوك» بما في ذلك تخصيص صفحات للبحث عن المفقودين بواسطة إرسال صورهم، بجانب تنسيق تام لجمع وترتيب المعونات والتبرعات بعد أن فاضت المواقع بمختلف الأطعمة والملابس والألعاب والحلويات والمشروبات والفواكه، وحتى مواقع للاستشارات القانونية وأكثرها استفسارات عن أسرع البلاد في منح إقامات وقبول طلبات اللجوء ولم الشمل ونوع الإعانات وحق العمل، بل هناك من يسأل عن التجنيس والتوطين.
كما تابعت «الشرق الأوسط» نقاشا موسعا دار بين شباب جامعات نمساويين من أصول عربية ممن يتبرعون في حماس واضح لنجدة ومساعدة الواصلين للمحطات النمساوية عن الأسباب التي تمنع الدول الكبرى وتحول دون إزاحة الرئيس بشار الأسد واجتثاث «داعش»، وكلاهما المؤجج الرئيسي لهذا الفرار الجماعي، ناهيك بما يحدث بالعراق من فرقة وتقسيم، متسائلين إن كان هؤلاء اللاجئون سيجدون الفرص المواتية لاستيعابهم بما يتناسب ومؤهلاتهم في ظل منافسة أوروبية لن تراعي في سوق العمل الجاد أية أسباب إنسانية أو ظروف اضطرارية، منبهين إلى أن منظمة الهجرة العالمية قد ذكرت أن أكثر من 350 ألف لاجئ قدموا طلبات منذ بداية هذا العام، بينما توقعت إحصاءات أخرى أن يصل العدد إلى نصف مليون، متسائلين عن ردود فعل الأحزاب اليمنية والعناصر المتطرفة الرافضة للأجانب أصلا.
{الشرق الأوسط} تتابع اللاجئين من أثينا إلى فيينا وحركة «قطارات الأمل» والمعسكرات المؤقتة
حكايات وتساؤلات تشغل مواقع الاستقبال
{الشرق الأوسط} تتابع اللاجئين من أثينا إلى فيينا وحركة «قطارات الأمل» والمعسكرات المؤقتة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة