قد يقول البعض، من باب الحسد والغيرة، إن سبب تداول اسم رامي قاضي في أوساط الموضة بهذا الشكل المكثف في الموسمين الأخيرين يعود إلى الدعاية الذكية واستقطابه وسائل الإعلام بدماثة أخلاقه ولباقته، لكن الحقيقة التي تلمسها بعد أن تقترب منه ومن أسلوبه وما يحفزه على الإبداع غير ذلك تماما. فهو يستحق التهليل له، ليس لأنه مصمم في مقتبل العمر فحسب، أي يتمتع بفورة الشباب المطبوعة بالجرأة وحب المغامرة، بل لأنه مسكون بالرغبة في الاختلاف والابتكار لإرضاء ذاته وإرساء أسس اسمه لكي يبقى راسخا. هذه الرغبة في الاختلاف هي التي تميزه عن غيره، رغم أنه لا يخفي إعجابه بإيلي صعب والراحل كريستيان ديور. لكن هذا الإعجاب يبقى في إطاره ولا يصل إلى التقليد، باستثناء بعض اللمسات الخفيفة التي تعود إلى الخمسينات من القرن الماضي، وهي الحقبة التي تسلطن فيها السيد ديور. وحتى هذه فإنه يطوعها ويصوغها بطريقته لتصبح ملكيته الخاصة.
أكبر دليل على اختلافه أنه في تشكيلته الأخيرة، التي قدمها أول مرة خلال أسبوع باريس، لم يستوح تصاميمها أو ألوانها من عالم الفن أو السينما أو ثقافات بعيدة ولا حتى من كتب التاريخ كما هو معتاد أو متوقع، بل انطلق من عالم الحشرات، وتحديدا العناكب واليراعات. يقول إن الفكرة خطرت بباله أساسا لكي يحرر نفسه من فوبيا رافقته لسنوات طويلة، وثانيا ليثبت أنه من أسوأ الأشياء التي تعترض طريقنا، يمكن أن تولد تصاميم مفعمة بالأنوثة والحداثة التي يعانقها بشدة وتجلت في استعماله تطريزات ثلاثية الأبعاد تصور هذه الحشرات، وعلى رأسها اليراعات، التي تلمع في الظلام. التحدي بالنسبة لرامي قاضي كان هو كيف يجعل هذه الفساتين، وعددها 13، تضيء في الظلام من دون أن تبدو غريبة ومسرحية، وتوصل إلى أنها عندما تكون بخامات مترفة وتصاميم راقية تصبح قابلة للابتكار، بدليل تصاميم الراحل ألكسندر ماكوين، التي أكد لنا فيها أن الجمال يمكن أن يولد من القبح، وفي حالة رامي قاضي يمكن أن يولد من الخوف.
يعود رامي بذاكرته إلى الوراء، عندما كان طفلا في الثامنة من العمر تقريبا، كان يجرب سترة عندما تفاجأ برؤية عنكبوت صغير يتعلق ببطانيتها الداخلية. غني عن القول إنه صرخ من الرعب، ومنذ ذلك الحين أصبح كل ما يتعلق بعالم الحشرات يسبب له حساسية نفسية ويثير بداخله أقصى حالات الخوف. قام بعدة محاولات لتجاوز هذه الفوبيا من دون جدوى، وفي الأخير قرر أن يعالج نفسه بيده وبالدواء الذي يعرف تأثيره الإيجابي على نفسه جيدا، وهو التصميم. خطرت له الفكرة في إحدى الأمسيات، كانت في البداية مجنونة وتساءل حينها: لم لا يلعب بهذه الحشرات ويحولها إلى أشياء جميلة حتى يستطيع التعامل معها بشكل طبيعي؟ في الصباح الباكر توجه إلى الاستوديو وبدأ عملية استنفار وظف لها كل طاقاته الخيالية والإبداعية. وبعد أسابيع تمخضت جهوده على هذه التشكيلة التي يؤكد أنها كانت الدواء الشافي، ليس على المستوى الشخصي فحسب، بل أيضا الفني لما أثارته من انتباه عالمي وجلبت له من حظ تجلى في التغطيات الإعلامية والإقبال على التشكيلة، على الأقل لتصويرها.
فمن كان يتصور أن يضيء فستان طويل بمجرد أن تخفت الأنوار ويحل الظلام، بهذه الطريقة المبتكرة والأنيقة في الوقت ذاته؟ ربما لن تروق فكرتها لامرأة تعدت الخمسين من العمر، لكنها حتما تخاطب شريحة الشابات المتعطشات للجديد وللمسة مرح وشقاوة. صحيح أن الشك ينتابك لدى سماعك القصة، ولا تصدق أن العلاج من فوبيا، بالحجم الذي كان يعاني منه، يمكن أن يكون بهذه البساطة، وتتعاطف معه محاولا إقناع نفسك بأنه من حقه، كأي مصمم، أن يؤلف ما يحلو له من قصص حتى يضفي على تشكيلته بعض الإثارة، لكن بمجرد الحديث معه، يقنعك أن القصة ليست من نسج الخيال وأنها واقع عاشه، شارحا كيف قضى فترات طويلة وهو يختبر كيف يمكنه تجسيد شبكة عنكبوت تبدو حقيقية، تارة بغزلها من صوف الموهير وتطريزها على أقمشة الرافيا، وتارة بجدل الكثير من الخيوط كضفائر ليخلق منها أشكال يراعات يطرزها فيما بعد على الدانتيل. يشرح أيضا أنه أخضع الخامات التي وقع عليها اختياره لتقنيات الليزر وقطعها قبل أن يلصقها على صوف الموهير. ولا شك أن ما يثير الانتباه في هذه التشكيلة إلى جانب أنها تضيء في الظلام، فتكتسب الحشرات لونا أخضر زاهيا وحياة وديناميكية، وإضافة إلى أشكالها الأنثوية بتنوراتها المستديرة، خاماتها المترفة مثل الفرو الذي يزين أجزاء من هذه الفساتين.
تجدر الإشارة إلى أن رامي قاضي ليس جديدا على المهنة، فقد انطلق منذ عدة سنوات، ويعود الفضل في التعريف به، على مستوى جماهيري، إلى المغنية مريم فارس. فهي واحدة من أشد المعجبات به، وتظهر في أغلب المناسبات بفساتين من تصميمه. بعد كل هذه السنوات، وبحكم أنه تعدى فترة الانتشار وحقق النجاح التجاري الذي كان يتوخاه بافتتاح محلات في بيروت وعدد من الدول العربية، فإنه الآن يعيش مرحلة «الاختيار» كما يقول، ويريد أن يرضي ذاته ويبرز قدراته بغض النظر عن الربح والمكسب. ويوضح أنه لو فكر من هذا المنظور «لن أتقدم قيد أنملة ولن أقدم أي جديد، لأن الخوف من الفشل سيكبلني» وهذا ما لا يريده ويخاف منه أكثر من خوفه من الحشرات.
ما نجح فيه رامي قاضي في تشكيلته لخريف وشتاء العام المقبل، أنه ذكرنا بأن موسم الـ«هوت كوتير» هو موسم التجارب، بغض النظر عما إذا كانت تشكيلته ستبيع أم لا. فهذا الموسم بمثابة مختبر للأفكار الجديدة التي يمكن تطويعها فيما بعد حسب رغبة الزبونة حتى تناسب أسلوبها الخاص وهو ما يغيب عن ذهن الكثير من المصممين الشباب الذين يعطون الأولوية للتصاميم المضمونة على حساب الإبداع والابتكار.
في بيتنا مصمم: رامي قاضي.. وداوني بالتي كانت هي الداء
حوّل فوبياه من الحشرات إلى تشكيلة تخطف الاضواء
في بيتنا مصمم: رامي قاضي.. وداوني بالتي كانت هي الداء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة