بنظرات باهتة ووجه حزين على ما آل إليه الحمّام الذي يعمل فيه منذ 30 سنة، وبكلمات قليلة يستقبلك أحمد، مكيّس في أحد حمامات السوق الدمشقية، ليخبرك أنه لم يبق فيه أحد سوى زميل آخر وعامل البوفيه الذي أصّر على تقديم الشاي لنا ونحن نجلس على مصطبة البهو (البراني) الحجرية، ويقول أحمد: «كان عددنا قبل بدء الأحداث 11 عاملا، وكنا نستقبل يوميا عشرات الزبائن حاليا، لم يبق غيري، وننتظر الزبون وقد يأتي أو لا يأتي!..الكلام نفسه تسمعه في حمامات دمشقية أخرى من عمالها القلائل الذين يروون لك، بكثير من الأسى، كيف كان الحمام يعجّ بالزبائن من سكان محليين وسياح وكيف هي الحال الآن؟!».
أحد أبناء الراحل موفق حمامي الذين ظلوا أوفياء لتراث والدهم في استثمار الحمامات، ومنها حمام نور الدين الشهيد الذي يعد من أشهر حمامات دمشق، ومقصد الكثيرين؛ حيث زاره كثير من الملوك، والرؤساء، والأمراء، والشخصيات العالمية الفنية، وغيرها، يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن حال حمامه والحمامات الأخرى في ظلّ الأزمة والحرب، قائلا: «يعود تاريخ بناء حمام نور الدين الشهيد للعهد الأيوبي، وبني سنة 970م؛ أي عمره أكثر من 1140سنة، وبناه نور الدين زنكي الملقب بالشهيد، ويعد من أقدم حمامات دمشق وأشهرها، وقد قام والدي سنة 1979 باستثماره بعد أن تملكته ورممته مديرية الآثار العامة؛ حيث كان سابقا عبارة عن مستودعات للصابون والزيت يشغله تجار سوق البزورية، فأعادته حماما من جديد. ومنذ ذلك التاريخ تحول الحمام لمقصد سياحي وتراثي مهم وأمّه كثير من الزبائن ليستحموا، وظلّ كثير من السفراء المعتمدين بدمشق حتى بدء الأحداث والأزمة، قبل 3 سنوات، يأتون إليه بشكل دائم ليستحموا فيه، كما زاره كثير من الملوك، والرؤساء، والشخصيات الهامة، ومنهم ملك البحرين، ووزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق جيمس بيكر.
حاليا، يقول ابن الراحل موفق: «الأزمة أثرت عليه كثيرا كما أثرت على غيره من الحمامات، فقبل الأزمة كان الحمام يعمل ليلا نهارا.. بعد بدء الأزمة انخفض عدد السياح كثيرا، وبشكل تدريجي (ظلّت الأمور مقبولة من؛ حيث إقبال الزبائن حتى منتصف عام 2012)، وكان لذلك تأثيره الكبير علينا، كذلك قلّ كثيرا رواده من السكان المحليين الذين يمكن أن يأتوا إليه في المساء لذلك صرنا نغلق الحمام في الـ9 مساء بعد أن كان لا يغلق مطلقا، لا في الليل ولا في النهار، وتأثر حمامنا والحمامات الأخرى أيضا بغلاء الوقود، فالحمامات تعمل على المازوت الذي تضاعف ثمن اللتر الواحد منه 4 أضعاف في السنتين الأخيرتين (من 15 ليرة سورية إلى 60 ليرة حاليا)، وتضاعفت أسعار المستلزمات: كالصابون، والليف، والمناشف نحو 3 أضعاف، وهذا سببّ عبئا إضافيا اقتصاديا علينا وعلى الزبائن واضطررنا (مكرهين) لرفع أجور الاستحمام، ولكننا - يبتسم حمامي - سنظل صامدين، فهذه مهنة آبائنا وأجدادنا منذ 100 عام، فمحبتنا وعشقنا لها ولخوفنا عليها كخوفنا على أولادنا، أبقينا أبواب الحمام مفتوحة ولو هجرنا الزبائن، وقناعتنا هنا أن إغلاق الحمام يعني صار بلا روح، ولذلك أبقينا أبوابه مفتوحة لتبقى الروح فيه، ولو جاءنا زبون واحد في اليوم أو جاء لا ليستحم بل ليتفرج ويتجول في الحمام فأهلا وسهلا به!
قبل 1300 سنة وعندما قرر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بناء المسجد الأموي، خاطب الدمشقيين قائلا: «تفخرون على الناس بـ4 خصال: بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس»، فقد كان الوليد يعرف مكانة حمّامات السوق العامة لدى الشوام، ومدى تعلقهم بها والاستحمام فيها حتى أنهم أدخلوها بموروثهم الشعبي من خلال مثلهم المعروف «نعيم الدنيا الحمّام».
ولكن هذه المفخرة الدمشقية التي عانت في قرون ماضية من ظلم ذوي القربى؛ حيث هدم العشرات منها وتحول بعضها إلى دكاكين، ومستودعات، ومطاعم، ومقاه، وغير ذلك، فانخفض عددها من 160 حمّاما في عهد الوليد إلى 25 حماما في 20 المنصرم، توجد معظمها داخل أسوار المدينة القديمة مع وجود عدد قليل منها في مناطق تاريخية خارج السور، كحمامات أحياء الميدان، والصالحية، وساروجة.
هذه المفخرة، وعلى مرّ العصور والحقب الزمنية، عرفت كثيرا من التغيرات والمد والجزر، وقد تخصصت أسر دمشقية باستثمارها وجعلتها مهنتها الرئيسة، وعملت على تطويرها بما يتناسب مع متطلبات العصر فأدخلت الساونا إليها، والتدليك، وغير ذلك، وإحدى العائلات أخذت لقبها من الحمامات: عائلة حمامي، وعائلة كبب، وعائلة التيناوي. كذلك ظهر في السنوات العشر ما قبل بدء الأحداث جيل من الشباب الذي امتهن العمل في الحمامات بمهن خاصة بحمامات السوق، وهي: مكيّسون، ومدلّكون، وتبع (من يستقبل الزبون في قسم الوسطاني ويقدم له ما يحتاجه من صابون وليفة وحجر لتنظيف كعب الرجل)، متحمسا للعمل فيها مع عودة الروح لهذه الحمامات من خلال الإقبال عليها من زوار وسياح دمشق وعودة الشوام لإحياء تراث الآباء والأجداد في الأعراس والزفاف؛ حيث لحمامات السوق دور رئيس في مثل هذه التقاليد.
وكان لمراكز دراسات وأبحاث كثيرة اهتمامات واسعة بهذا التراث الشعبي والمعماري، ومنها مركز الدراسات الفرنسية للشرق الأدنى الذي نفّذ مجموعة من الأبحاث الأكاديمية عنها، وأقام معارض لمفرداتها في عام 2009 بدمشق قبل بدء الأحداث السورية.
هذه المفخرة الدمشقية التي قاومت قبل عقود الاندثار، تعاني اليوم ما تعانيه من حرمان وهجران وتخلي الناس عنها منذ بدء الأزمة السورية والأحداث الدامية والحرب التي تعاني منها البلاد، فبعضها أغلق أبوابه ينتظر الفرج، ومعظمها تخلى عن كثير من عماله وينتظر مجيء زبائن يعدون على أصابع اليد الواحدة في اليوم، وبعضها ظل يفتح أبوابه ليقول للناس والمارين أمامه: أهلاً بكم ولو زائرين، لأن الحمام من دونكم يبقى حجرا بلا روح؟!
حمامات السوق الدمشقية التراثية تعاني الحرمان والهجران بسبب الحرب
يعود تاريخها للعهد الأيوبي.. وتوجد معظمها داخل أسوار المدينة القديمة
حمامات السوق الدمشقية التراثية تعاني الحرمان والهجران بسبب الحرب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة