تفتتح الدورة الحادية والسبعون من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي هذا المساء بفيلم «بيردمان». وفيلم هذه الدورة فيه ملامح تشابه مع فيلم الافتتاح الذي أقدم عليه المهرجان في دورة السنة الماضية وهو «جاذبية». كلاهما أميركي الإنتاج لمخرجين مكسيكيين. كلاهما دفق من الخيال، ولو أن واحدا منهما جرت أحداثه في الفضاء والثانية على الأرض.
إذا ما كان مخرج «جاذبية»، ألفونسو كوارون، لجأ إلى الفضاء البعيد لسرد حكاية وحدته، فإن أليخاندرو غونزاليس إناريتو، صاحب «بابل» و«بيوتيفول»، يفضل سرد حكاية لا تخلو من شعور بطلها بالوحدة ولو على سطح الأرض.
الموضوع المقترح هنا هو أن ممثلا سينمائيا ذبلت أيامه من بعد أن لعب واحدة من الشخصيات الخيالية الرائجة يرتدي زي الرجل - الطائر، محاولا تصدر عناوين الصحف من جديد. إناريتو جمع للفيلم بعض الأسماء الموهوبة: إدوارد نورتون، ناوومي واتس، إيما ستون، آمي رايان وزاك غاليفياناكيس، ومايكل كيتون، الذي قام بدور أول «باتمان» في السلسلة الأخيرة.
وفي ظل التجاذب بين المهرجانات الدولية، خصوصا في النصف الثاني من العام، فإن «فينيسيا» برع في البقاء كحدث عالمي تصاغ نشاطاته على أساس النوعية والقيمة الفنية أكثر مما هي منوال لعناوين صحافية ولقاءات اجتماعية.
لا يستطيع المدير العام للمهرجان، ألبرتو باربيرا، إلا أن يحسب اختياره لفيلم «بيردمان» كمكسب فريد يضيفه إلى مجموعه مكاسبه في الأعوام الماضية. ففيلم «جاذبية»، على سبيل المثال، عرض هنا عرضا دوليا أولا ومنه خاض منافسات الأوسكار ووصل إلى الجائزة بلا مشاق تذكر. حتى وإن لم يستطع فيلم إناريتو الوصول إلى الجائزة ذاتها في مطلع العام المقبل، فإن مدير المهرجان البالغ من العمر 64 سنة يدرك أنه أنجز فوزا إعلاميا وفنيا كبيرا عندما أقنع هوليوود بمنحها أولوية عرض هذا الفيلم وفي افتتاح أعتق مهرجان سينمائي على الكرة الأرضية.
بالطبع، ليس هذا هو العرض الدولي الأول لفيلم يقوم المهرجان الإيطالي بتوفيره في تظاهراته المختلفة. هناك الكثير من الأفلام، سواء في المسابقة الرسمية أو في تظاهرات المهرجان الرئيسة التي لم يسبق عرضها، والبعض منها (أوروبي على الأخص)، لم تجر برمجته التجارية في العواصم المختلفة بعد.
افتتاح تظاهرة «آفاق» ستجري بفيلم «الرئيس» للمخرج الإيراني محسن مخملباف الذي التجأ إلى فرنسا، وهو إنتاج متعدد الجنسيات. تمويله «رباعي الدفع»، من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وجورجيا. وعلى الجوانب، هناك أكثر من 20 عرضا عالميا أول والكثير منها أميركي، مثل «مانغلهورن»، بطولة آل باتشينو وهولي هنتر للمخرج ديفيد غوردون غرين، الذي اعتاد عرض معظم أعماله الأخيرة في هذا المهرجان، وكان منها «برينس أفالاتشي» في العام الماضي.
فيلم أميركي آخر يتجه إلى «فينيسيا» أولا هو «قتل جيد» لأندرو نيكول، وهو مع إيثان هوك وبروس غرينوود وجانيواري جونز.
مثل «مانغلهورن»، سيشق «قتل جيد» طريقه إلى مهرجان تورونتو بعد افتتاحه، لكي يشترك في برنامج عملاق مؤلف من أكثر من 300 فيلم يطلقها المهرجان بدءا من الرابع من سبتمبر (أيلول) المقبل وقبل يومين من نهاية المهرجان الإيطالي، مما يعني أن من يرغب في الحضور إلى تورونتو مبكرا فعليه أن يترك جزيرة الليدو الإيطالية في الثالث من الشهر حتى يصل مع افتتاح تورونتو.
هذا ما يدلف بنا، ولو مجددا، إلى حرب المهرجانات القائمة بين مهرجانات هذا الموسم، على الأخص، المتمثلة حاليا بمهرجاني «فينيسيا» و«تورونتو». على صعيد المهرجان الإيطالي، فإن مديره باربيرا لا يحاول تجاهل المهرجان الكندي عندما يقول في أحد تصريحاته الأخيرة: «يشكل تورونتو ضغطا جانبيا بلا ريب، لكني أعتقد أن هذا إيجابي، لأن النتيجة هي المزيد من الجهد من جانبنا لتقديم اختيارات نوعية خاصة بنا». ويقول في مجال آخر: «فينيسيا مهرجان مختلف، ومن شروطه الاعتناء بالنوعية وتشجيع المخرجين على التنافس فيما بينهم من دون أي تأثير تجاري. أحب أن أعد فينيسيا، أكثر مما سواه، مهرجان لكل فنان سينمائي». من السهل على تورونتو أن يعرض فيلما استقطبه مهرجان فينيسيا، والكثير من أفلام المهرجان الإيطالي انتقلت للعرض في تورونتو. لكن، ما برز له كند في العام الماضي، ولا يزال هذا العام، هو المهرجان الأميركي «توليارايد»، الذي خطف من تورونتو فيلم «12 سنة عبدا» في العام الماضي، الفيلم الذي تسلل أيضا إلى الأوسكارات في أكثر من اتجاه. أحد مديري تورونتو، بييرز هاندلينغ، كان قد صرح لي خلال وجودي بمهرجان «كان»: «الحقيقة هو أننا لم نكن مستعدين كفاية لمثل هذه المفاجأة. لكننا لا ندع أي شيء يقف في طريق نجاحنا. مهرجان توليارايد يقوم بما عليه القيام به لضمان نجاحه، ونحن كذلك. سيحدث هناك تنافس لا بد منه، لكننا لا نخشاه».
في الواقع، فإن توليارايد، الذي يقام بولاية كولورادو الجميلة والذي ينطلق في التاسع والعشرين من هذا الشهر (بعد يومين من افتتاح فينيسيا وقبل ستة أيام من تورونتو)، يقف أمام فرصة مهمـة، فهو لو استطاع التبلور كالمحطـة الضرورية لاستكشاف معالم الطريق إلى جوائز الأوسكار فإنه لن يتأخر عن هذه المهمـة. وفي السنوات الخمس الأخيرة، استطاع أن يأتي مثل شهاب قادم من المجهول ليضيء سماء المهرجانات الأميركية محتلا اهتماما إعلاميا ولو داخل الولايات المتحدة أساسا.
تورونتو الذي قاد، حتى الآن، رحلة الأوسكارات وجد نفسه وقد خسر فيلما أساسيا قد يكون بداية لخسارات لاحقة، وهو ما لا يستطيع السماح به بعدما بنى كل تألـقه في الـ15 سنة الأخيرة على أنه الافتتاح الرسمي لما سيشاهده الجمهور الأميركي والكندي والعالمي خلال الأشهر الستة اللاحقة، أي من سبتمبر وحتى موعد إعلان ترشيحات جوائز الأوسكار المقبلة.
«فينيسيا» يفعل حسنا بسياسة النأي بالنفس الشهيرة، معنيا أكثر بسلسلة من الأعمال التي تشبه الجواهر المنثورة على ردائه: من «حمامة جلست على الغصن تتأمل في الوجود» للفنلندي روي أندرسون، إلى فيلم «بازوليني» كما رآه المخرج الأميركي أبل فيريرا، ومن الفيلم الإيطالي «قلوب جائعة» لسفريو كوستانزو إلى فيلم الروسي «ليالي ساعي البريد البيضاء» لأندريه كونتشالوفسكي، مرورا بأعمال ألمانية وبريطانية وفرنسية ويابانية وصينية وأميركية وإيطالية أخرى. المهرجان حشد 20 فيلما متسابقا يتطلـع إلى الخروج منها إلى العروض العالمية لاحتلال مكانات مختلفة لا على خريطة المهرجانات الأخرى فقط، بل وصولا إلى المحافل الرئيسة والعروض التجارية المجزية أيضا.
كالعادة، يحتوي المهرجان على تظاهرات جانبية لا يمكن تفويتها، ومنها «آفاق» التي تعرض نحو 30 فيلما متنوع المصدر أيضا، إلى «أسبوع النقاد الدوليين» و«أيام فينيسيا» وجل أعمالهما تتألـف من أفلام تنوي الكشف عن مواهب جديدة. خارج المسابقة مجموعة متناثرة أخرى من الأعمال التي وجدتها لجنة الاختيار مثالية للعرض خارج مجال التنافس على الجائزة لأسباب، غالبا فنيـة محضة. ومنها الفيلم الجديد لأكبر مخرجي العالم عمرا وهو البرتغالي مانويل دي أوليفييرا. صحيح أن فيلمه «عجوز بيلَـم» لا يزيد على 20 دقيقة، إلا أنه ما زال فيلما ينتظره عشاق السينما من ذلك المخرج الذي لا يريد التوقف عن العمل.
المهرجان يبدأ اليوم 27 أغسطس (آب) ويستمر حتى السادس من سبتمبر.
* الأفلام العربية في الدورة الحالية من مهرجان فينيسيا، كما في العام الماضي، لا تتعدى حفنة من الأعمال، ولو أنها واعدة بإثارة الاهتمام على نحو إيجابي. منها فيلم «فيلا توما» للمخرجة سها عراف الذي يعرض في تظاهرة «أسبوع النقاد الدوليين» ومرشـح لإحدى جوائزها. وهناك فيلمان آخران من سينما العرب؛ أحداهما هو «ذيب» («ذئب») للأردني ناجي أبو نوار وهو متسابق في تظاهرة «آفاق» المهمة. «في الوقت الضائع» للفلسطينيين رامي ياسين ومكرم خوري.