لا تزال «تايتنك» السفينة الأكثر شهرة، التي انتهت إلى مأساة لم تمح من ذاكرة الإنسانية، تفجر مخيلة الفنانين، من السينما إلى المسرح والغناء وصولا إلى الرقص. ولليلتين متواليتين (الجمعة والسبت)، وعلى مشارف عيد الفطر، استمتع جمهور «مهرجانات بيت الدين» بالعرض الفرنسي الراقص الذي يحمل اسم السفينة الشهيرة، ويستوحي مشهدياته من درامية حكايا ركابها قبل غرقهم، وينهل من البحر وسحره ليشكل عناصره.
فرقة باليه مارسيليا الوطني جمعت، في هذا العرض الراقص، بفضل مهارة المصمم البلجيكي فريدريك فلامان، بين كلاسيكية الحيوية الجسدية والكوريغرافيا المبتكرة، وسينوغرافيا تستفيد من تكنولوجيا وفنون الفيديو.
ورغم أن بعض المشاهد بدت بطيئة وطويلة، وتفتقد إلى الديناميكية، فإن مهارة مصمم الديكور ومركب عناصر المسرح العبقري فابريزيو بليسي جعلت المتفرج يسافر في لوحات أخاذة، دون أن نسقط أهمية الإضاءة المتقنة، التي أدارها برتران بلايو.
وإذا كانت المشاهد الأولى بقيت أقرب إلى الكلاسيكية رغم استخدام الأطر الخشبية المتدحرجة، وشرائطها التي تلتف حول الراقصين، إلا أن المشاهد سرعان ما تكتسب بريقها من قطع الديكور البديعة التي تصور السفينة، من واجهتها ثم في داخلها وعلى سطحها.
صوت البحر الهادر وأمواجه المتلاطمة على خلفية المسرح تقف أمامها أسوار السفينة، وعلى متنها السيدات الأنيقات جالسات على كراسي البحر البيضاء، وراقصون ببدلاتهم الرسمية يحومون حول النساء ويراقصونهم. سرعان ما يتبدل المشهد، فتصبح واجهة السفينة لا قلبها هي التي تنتصب على المسرح. فرصة لمصمم العمل ليجعل لوحاته تدور على مستويين، الجزء العلوي من السفينة المضاءة قمراته بعناية، والجزء السفلي منها. تمايلات الخائفين المهددين، تجعل الأجساد تتمايل وتتلوى وتتداخل، في إيحاءات تزداد حرارة بفضل وجود الراقصين على شرفات السفينة.
هذه اللوحات التي تقدم على مستويين أفقيين ستبقى تتكرر، والقطعة الكبيرة التي يستخدم وجهيها (واجهة السفينة وداخلها) على حد سواء، تستدير أمامنا لنصبح أمام مشهد مختلف، نحن في غرف الوقود والمحركات؛ حيث تشتعل نار المواقد، وأمامها الراقصون بينما يبقى سطح السفينة مكانا للوحات فرديه تبرز المرونة واللدانة الفائقتين للمؤدين.
مفردات البحر تتجلى في أجمل صورها مع صوت العاصفة التي تهب هوجاء عاتية، كاسرة، ساحقة، واحدة من أجمل اللحظات، بينما طقس بيت الدين الجبلي كان باردا، البعض شعر بأن العاصفة تهب عليه فعلا، قبل أن يظهر جبل الثلج على خلفية المسرح وهو يتلوى ويدور وكأنه يستعرض كل وجوهه، عندها لا تعرف أي فكرة خطرت للمصمم فلامان ليجعل المسرح مغزوا بالبرادات التي تسير على عجلات، الرقص مع البراد ليس أمرا شائعا في العادة، هذه المرة سيكون شريكا على المسرح قبل أن يتمدد ويفتح ويظهر في داخل مربع مضاء كأنه شاشة لا صورة فيها، وهي شاشات تحيل إلى مشهد سابق؛ حيث لا تغرق السفينة في هذا العرض، وإنما تنقسم إلى قسمين يذهب أحدهما يمينا والآخر يسارا، وينبلج بينهما أفق منفتح رحب تتوسطه أرجوحة أو قل هو قارب رجراج إلى جانبيه شاشتان صغيرتان تعطيانه رونقا خاصا.
على صوت هدير العاصفة رقصت فرقة بالية مارسيليا الوطنية، وعلى صوت السنونوات الطائرات، وعلى موسيقى الأمواج المجنونة. عرض يحاول أن يحلق بمتفرجه بعيدا، مستلهما دراما «تايتنك» في مئويتها، دون أن يزعج المتفرج بسوداويات الغرق والهلاك.. ساعة ونصف من البالية المحدّث الذي لا يستغنى عن خطواته الموزونة والمحسوبة بعناية.
على متن سفينة «تايتنك».. أبحر جمهور «مهرجانات بيت الدين»
عرض راقص صمم لمئوية التراجيديا البحرية الأشهر في العصر الحديث
على متن سفينة «تايتنك».. أبحر جمهور «مهرجانات بيت الدين»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة