في حالة انفصام لا تشبه غيرها وترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوع اللغتين العربية والفرنسية يدور معرض «سكيزوبوييزي»، للفنان التصميمي سماح الحكيم، في «المركز الثقافي الفرنسي» ببيروت. فضمن لوحات تحمل خطوطاً ورسوماً عربية مطبوعة على خلفية من قماش «الكانفا»، تطالعك مقاطع من قصائد شعرية كتبها أصحابها بالفرنسية، وكتبها الفنان سماح الحكيم بأحرف عربية. فاستحدث بذلك لغة جديدة تشبه إلى حد كبير شريحة من المجتمع اللبناني المعروفة بإتقانها الفرنسية واستخدامها مرادفاتها في أحاديثها اليومية.
«هي كناية عن مزيج لغات رغبتُ في التعبير من خلالها عن العلاقة الوطيدة التي تربط اللبناني بالفرنسية محاولاً ابتكار لغة فنية تبرزها». يوضح سماح الحكيم في حديث لـ«الشرق الأوسط».
أما اسم المعرض «سكيزوبوييزي»، فهو يجمع كلمتين من الفرنسية «سكيزوفرينيا» (مرض نفسي يُعرَف بانفصام الشخصية) و«بوييزي» أو الشعر بالعربية. وانتقى الفنان اللبناني مقاطع من قصائد فرنسية كتبها شعراء لبنانيون معروفون أمثال ناديا تويني وجورج شحادة وفينوس خوري، ونقلها إلى مقلب لغوي آخر وضعه في قالب فني اعتمد فيه على طبقتين (الخطوط والصورة)، لتلامس ناظرها في تقنية بصرية غير مألوفة. ولتسهيل المهمة على زائر المعرض، وضع سماح الحكيم إلى جانب كل لوحة القصيدة الأصلية (بالفرنسية) التي تحكي عنها؛ فأَنْ تتهجى كلاماً فرنسياً مكتوباً بأحرف عربية لهو مهمة صعبة يلزمك تفكيك رموزها لبرهة من الوقت، قبل أن تستوعب معناها. «الفكرة جديدة وترتكز على الانفصام، كوننا نقرأ الفرنسية بخط عربي أو بالأحرى بلفظ لبناني. فأنا تأثرت منذ صغري بالفرنسية التي كانت والدتي (الشاعرة سمر ناهض الحكيم) تدفعنا دائماً إلى التحدث بها، واليوم وبعدما أصبحت الإنجليزية لسان كلامي قررت أن ألقي تحية على الفرنسية على طريقتي، وحسب وجهة نظري، ومن خلال هذه المجموعة (التيبوغرافية)».
وعن الصعوبة التي صادفها لاختيار أحرف عربية لقراءة نصوص فرنسية يوضح: «واجهت صعوبة كبيرة في هذا المجال، خصوصاً أن في الفرنسية تحريكات وفوارق لغوية غير موجودة بالعربية. فاخترعت تركيبة جديدة من الأحرف كي أستطيع تحديد دلالات خاصة بها، ونسميها بالفرنسية (les articles)، وتجلت هذه الصعوبة في عملية قراءة تلك الأحرف، وخاطرتُ في هذا الموضوع، على الرّغم من اتباعي طريقة بسيطة لترجمته على أرض الواقع وكي لا أقع في لغط لغوي أنا في غنى عنه».
تتجول في المعرض محاولاً معرفة الأجوبة على فوازير من نوع آخر «اكسبليكي أون شوز، سه لا توييه آن بو» (expliquer une chose c’est la tuer un peu)، هي عبارة مأخوذة من قول لناديا تويني وتعني «أنْ تفسِّر شيئاً ما فإنك تقتله قليلاً». ويعلق الفنان اللبناني: «اخترتُ نسخَ نصوص من قصائد شعرية فرنسية كتبها شعراء لبنانيون فرنكفونيون، لأسلط الضوء على أعمالهم من ناحية، وعلى مدى تأثرنا بالفرنسية من ناحية ثانية. ويعرّف عن هذا الأسلوب (نسخ كتابات فرنسية بحروف عربية) بنوع من الترجمة (Translittteration)، ولكنّه في الوقت نفسه لا ينقل أبعاد معنى النص».
وفي نص مأخوذ من قصيدة «جسدك» للشاعر اللبناني جورج شحادة يقول: «الثوب الذي ترتديه يخترعه جسدك» (La robe que tu portes que ton corps l’invente) كتبها سماحة الحكيم بلغة «سكيزوبوييزي»، لتشكل لوحة فنية تتداخل حروفها العربية في خطوط انسيابية ذات خلفية لصورة امرأة، فتؤلف ثوباً لغوياً ترتديه أنثى. وفي قصيدة تحكي فيها الشاعرة فينوس خوري عن القرية اللبنانية، وأخرى لسمر ناهض حكيم مقتطعة من إحدى قصائدها «شرارات»، وثالثة لفؤاد غبريال نفاع بعنوان «البوهيمي»، يدمج سماح حكيم اللغة والحروف مع فانتازيا صورية، بحيث يقدّم فيها إشارات تعبر خلفياتها عن مواضيعها الأساسية، كالحب والمرأة والطبيعة والأفق والفكر وغيرها.
«لماذا اللغة والصور والجمال والفكر والخيال إذا كنّا لا نقدم على ابتكار الجديد فيها يومياً من منظار مختلف؟»، يقول الفنان اللبناني الذي يختم: «عاشت (الشيزوفرينيا) البناءة المتجددة واللغتين الغنيتين الفرنسية والعربية»، مؤكداً أنّه لم يلجأ إلى أسلوبه الفني هذا ليبتكر منه نزعة لغوية جديدة ما، بل ليكون بمثابة رسالة ثقافية يتوجه بها لبنان إلى العالم ولا سيما الفرنكفوني منه.
معرض «سكيزوبوييزي» قصائد شعر فرنسية في خدمة العربية
يصب في خانة التطوير والتغيير في عالم اللغات
معرض «سكيزوبوييزي» قصائد شعر فرنسية في خدمة العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة