لا يسعك وأنت تتابع بعض عروض الأزياء هذا العام إلا أن تتذكر الكاتب والمفكر إدوارد سعيد، أو بالأحرى نظرته إلى الاستشراق. الفرق أن الاستشراق الذي عايناه مؤخرا على منصات بعض عروض الأزياء لم يكن بدافع رومانسي فحسب، بل أيضا مادي. المادي تفرضه أهمية سوق الشرق الأوسط ودوره في تحريك الموضة وبالتالي حركة البيع، والرومانسي من خلال أزياء طويلة تتميز بإثارة تستمدها من الغموض وليس من كشف مفاتن الجسد.
فما تعلمناه من تاريخ الموضة أنها لا شيء فيها يحدث بشكل عفوي أو اعتباطي. فهي انعكاس لأحداث سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية. من نيويورك إلى باريس مرورا بلندن وميلانو كانت رائحة الشرق تفوح من بين ثنايا الأزياء والقبعات والعمامات والإيشاربات، والأسباب معروفة.
من «غوتشي» التي ظهرت فيها إكسسوارات شرقية تغطي مجموع الرأس وأحيانا الوجه إلى «فالنتينو» بأكمامها وياقاتها وأطوالها مرورا بجيورجيو أرماني الذي ركب موجة استشراق منذ فترة ليست بالقصيرة. مثل عادته اعتمد في مجموعته لخريف وشتاء 2018 / 2019 على المزج بين أزياء تعود لطوائف عرقية من كل أنحاء العالم صاغها في تصميمات عصرية هيمنت عليها الأقمشة المزخرفة والتطريزات اللامعة والحلي والحلقات المعدنية، إضافة إلى مزجه السراويل والعباءات الصوفية القصيرة مع قبعات وسترات طويلة.
لكن الحدث الأكبر الذي يؤكد قوة هذه الموجة هو أول عرض لدار «بواريه» بعد إحيائها بعد أن توارت عن الأنظار والأسماع منذ نحو القرن. في عز مجدها كانت دار «بواريه» من أهم بيوت الأزياء في باريس. اليوم لا يعرف اسمها سوى من يقرأون كتب الموضة وتاريخها، وهو ما يجعل عملية إنعاشها وإعادتها إلى الواجهة بالنسبة للبعض مغامرة. فتجارب مشابهة باءت بالفشل مثل «فيونيه»، إلا أن البلجيكية آن شابيل، التي تتولى المهمة تركز على الجانب الإيجابي. فإحياء بيوت أزياء أخرى مثل «كارفن»، و«روشا»، و«بالمان» كللت بالنجاح. فأصحاب هذه الأسماء لم يعد لهم وجود فعلي بيننا، ومع ذلك فإن المستهلك يشعر بأنهم لا يزالون على قيد الحياة. شابيل أيضا مؤمنة بأنها يمكن أن تحقق ما حققته لكل من آن دوموليميستر وهايدر أكرمان قبلها. فكرئيس تنفيذي لهذين الاسمين، لا يُنكر أحد دورها في توسعهما إلى العالمية ونجاحهما. بالنسبة لها فإن التعامل مع اسم مصمم لم يعد له وجود أسهل بكثير من التعامل مع مصمم صاعد ومساعدته على بناء اسمه وسمعته، لا سيما في غياب المؤسس. ثم إن اسما لا يعرفه الجيل الجديد يمكن أن يثير انتباههم على شرط أن يتم تقديمه لهم بشكل جيد، وكانت الدار تتمتع بإرث غني وقصة مثيرة. كلها عناصر كان يتمتع بها بول بواريه، أول وأكبر مستشرق عرفته الموضة في بداية القرن الماضي.
قدمت الدار أول عرض لها منذ بضعة أيام، لكن العملية بدأت منذ عامين. كانت مهمة تتطلب الكثير من العمل حتى تأتي بالشكل الذي يجعلها تقف جنب بيوت الأزياء الكبير كند لا يقل وزنا عنهم. تجدر الإشارة إلى أن تمويل هذه العملية الضخمة يأتي من تشانغ يوكيونغ، حفيدة مؤسس إمبراطورية «سامسونغ» في جنوب كوريا. مليونيرة لها خبرة في مجال الموضة حيث يعود لها الفضل في إدخال كثير من الماركات العالمية إلى السوق الكورية، مثل دريز فان نوتن وسيلين وجيفنشي وغيرها. فهي الرئيس التنفيذي لمجمعات التسوق الضخمة التي تملكها عائلتها.
المصمم الذي وقع عليه الاختيار ليقوم بالمهمة الفنية، أو على الأصح نسج خيوط تربط أسطورة الماضي بمتطلبات العصر، هو الصيني يكيننغ ين. مصمم يقيم في باريس سبق له أن فاز بجائزة الإبداع من العاصمة الفرنسية في عام 2010، وجائزة أندام في عام 2011. أسلوبه معروفه بالبليسيهات الدقيقة والأقمشة المتمازجة مع بعض والأحجام الهندسية الأقرب المتأثر بفن العمارة.
وفيما كان بول بواريه متخصصا في الـ«هوت كوتير» في بداية القرن العشرين، فإن آن شابيل تقول إنها الآن ستركز على الأزياء الجاهزة مع قسم مخصص للأحذية وحقائب اليد وبعض المنتجات الجلدية الصغيرة على أمل طرح عطور ومستحضرات تجميل في المستقبل.
من هو بول بواريه؟
اشتهر كمستشرق في بداية القرن الماضي، وأفتح أبواب داره أول مرة في عام 1903. لعب دورا مهما في تحرير المرأة من قيود الكورسيهات لأنه لم يكن يميل إلى حياكة الزي وتفصيله على الجسم، بل فقط طيه وثنيه على الجسم. السبب كان فنيا وأيضا لأنه لم يكن يُتقن فنون الرسم والخياطة لهذا كان يفضل أن يصمم أزياءه مباشرة على الموديل. علاقته بالاستشراق بدأت في عام 1910 عندما حضرت فرقة «باليه روس» إلى باريس لتقديم باليه «شهرزاد». كانت أزياء الراقصين، التي صممها ليون باكست تضج بالفخامة والألوان والتطريزات عدا عن سخاء نادر في الأقمشة المترفة. التصاميم بدورها تميزت بجنوح واضح نحو المسرحي المبالغ فيه، لكن مع ذلك ظلت مثيرة وأنيقة.
وهذا تحديدا ما تبناه في تصاميمه بعد هذه التجربة. بعد الحرب العالمية الأولى، تغير العالم بشكل لم يعد له مكان فيه. فقد تحررت المرأة بشكل أكبر، كما تمردت على المألوف إلى حد أن تصاميمه الفانتازية وألوانه الغنية لم تجد لها مكانا بين الموجة الجديدة التي قادتها كوكو شانيل وجين لانفان وإلسا سكاباريللي. في عام 1929 اضطر أن يُغلق داره ليموت مفلسا في 1944. لكن رغم إفلاسه لم ينس عالم الموضة اسمه وبأنه كان رائدا في مجاله سواء تعلق الأمر بتصاميمه المزركشة والغنية أو بكونه أول مصمم يطلق عطرا تجاريا. فقد سبق عدوته اللدودة كوكو شانيل التي أطلقت عطرها شانيل نمبر 5 «بعده بعشر سنوات تقريبا لكن الحظ كان حليفها بينما راوغه.
- تدرب في دار دوسيه ثم في دار وورث، مؤسس ما يعرف الآن بـ«الهوت كوتير» ومع ذلك لم يكن يجيد الخياطة، مما جعله يبتكر أسلوب الطيات باستعماله أمتار طويلة من الأقمشة المترفة. كان يبدأ أي زي بقطعة قماش مستطيلة ويصممها مثلما يصمم اليابانيون الكيمونو والمغاربة القفطان، لتتدلى على الأكتاف بسخاء ثم تعانق الجسم بأقل قدر من الحياكة. رحلاته الخيالية للشرق تجسدت أيضا في تصاميم عبارة عن سراويل فضفاضة وعمامات فارسية وتطريزات هندية غنية.
الآن عندما يذكر الاستشراق في الموضة، فإن أول اسم ما يقفز إلى الذهن هو إيف سان لوران. فقد حقق ثورة غير فيها نظرة المرأة إلى الموضة ككل من خلال استعماله لأقمشة غنية مثل الحرير والبروكار في خطوط رشيقة. أما الإكسسوارات فحدث بلا حرج، لأنها شملت الإيشاربات والعمامات. ملهمته العارضة التي تحولت إلى مصممة فيما بعد، لولو دو لافاليز، والتي ارتدت يوم عرسها في عام 1977 عمامة عوض تاج وبنطلون مستوحى من السروال التركي الفضفاض عوض الفستان. مثل بواريه تأثر إيف سان لوران بباليه روس وبمسرحية «شهرزاد» التي صمم أزياءها ليون باكست، وهو ما ترجمه في تشكيلته لربيع 1991 من خلال سراويل الـ«حريم» الفضفاضة وقبعات الرأس التركية.
بعد إحياء دار «بول بواريه»... موجة الاستشراق تتوهج وتزيد فخامة
بعد إحياء دار «بول بواريه»... موجة الاستشراق تتوهج وتزيد فخامة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة